زقــاق الأحــلام/بقلم: شــوقي صــالح دوشــن

نظر إلى ساعته بتأفف عدة مرات، ولما حان موعد المقابلة الشخصية، نهض من على الكرسي وأصلح من هندامه وتفقد مظهره لكي يبدو بالصورة الملائمة حتى ينال القبول.
قرع باب الغرفة المقابلة لمكتب المدير وسمع صوتاً من الداخل يدعوه للدخول.تمت المقابلة وهاهو بانتظار النتيجة،أخبرته إمرأة شابة – سكرتيرة المدير كما يبدو- بأنه سوف يتم إخباره بالنتيجة عبر الهاتف لاحقاً وخلال أسبوع.
مرت أيام الأسبوع بسرعة وتلتها أيام أخرى ولم يتصل به أحد،فقرر التأكد بنفسه.قابل السكرتيرة التي أخبرته ببرود أن المنافسة كانت شديدة وتم قبول أحدهم،تمنت له حظاً موفقاً في قادم الأوقات ،ربما هنا أو هناك ثم التفتت نحو بضعة أوراق مبعثرة فوق طاولة المكتب ،أخذت تلملمها و تفركها وترتبها معلنةً بذلك انتهاء المقابلة.
خرج إلى الشارع شارد الذهن،السيارات والمركبات والناس في حالة ازدحام ،الشارع مكتظ عن آخره. زفر عدة زفرات حانقة في توتر واضح،رفع رأسه قليلا والتفت إلي يمينه ،فإذا بامرأة عجوز تكاد أن تتهاوى من الإعياء ،كما بدى له،فأسرع إلى نجدتها،فاسترعى انتباهه زقاق مظلم كانت تلك العجوز قد خرجت منه تواً.
أمسك بيدها وسألها:
-هل أساعدك على عبور الشارع؟
فأجابت:
-لا، ساعدني فقط كي أصل إلى ذلك المقعد هناك.
إستوت العجوز جالسة على ذلك المقعد الخشبي الطويل المقابل للشارع ودعته للجلوس وأخذ قسط من الراحة،إمتثل لأمرها – على الأقل إنه ليس في عجلة من أمره وعله يجد عزاء فيما يشعر به من حزن- وجلس بالقرب منها.

– أترى ذلك الزقاق؟إنه مظلم وبارد!!
– ما شأنه؟
قالها باستغراب.
– حسنٌ.( قالت العجوز) ثم سأَلَت:
-ما أول أحلامك؟
وأردَفَت:
إن لم تتذكر ،فابحث عنه هناك.
وأشارت بيدها المعروقة المرتعشة اتجاه ذلك الزقاق.إتسعت عيناه دهشة،إذ لم يدر بخاطره شيئ كهذا !
باغتته المرأة العجوز مكررة قولها:
– إبحث عنه هناك.
كأنما لم يسمع كلماتها بادر بالقول:
– أول أحلامي كان… كان…أن أسافر مع الشمس لأرى أين تغرب !
– ذلك من أحلام الطفولة.
إنطلقت من العجوز ضحكة خفيفة،قالت بعدها:
ذلك حلم بعيد يشبه حلماً لي.
قهقهت العجوز ،وبعدها أرخت جسدها المتعب على مسند المقعد،ثم لاحت على شفتيها إبتسامةواهنه:
– بالطبع يشبه حلماً لي.

أطالت المرأة العجوز النظر للشارع وقد اتكأت بعصا خشبية تحملها لتساعدها على السير،شعر أن عليه الرحيل ،وحين هم بالوقوف ، إستوقفة صوت المرأة العجوز وهي تسوق الحديث إليه وهي لا تزال على حالتها مصوبة نظرها باتجاه الشارع:
-آه..إذن جئت من ذلك المبنى الرخامي الأبيض ذي الطوابق الثلاثة.
رد مستغرباً:
– نعم!!
فأردفت العجوز:
– عيناك توحيان بنتيحة لم تكن لتتوقعها!!.
إندهش كونها لا تنظر إليه مباشرةً:
– وهل تعرفين هذه الشركة.
أخيراً تلتفت إليه قائلةً:
– يا بني ، لقد أمضيت نصف عمري في هذا المكان وهذا الشارع بالذات.
ثم مالت قليلاً نحوه كمن يهمس في أذنه:
– لا تقلق ،مجرد حلم مؤجل آخر!
شد انتباههه مرة أخرى تلك النظرات التي تختلسها العجوز إلى ذلك الزقاق من الشارع..
رفعت المرأة العجوز رأسها ونظرت إليه باهتمام :
– أخبرني هل كان آخر أحلامك؟
أطلق تنهيدةً،ثم أسند ظهره إلى المقعد وقال:
– لا أدري،ولكن… طالما أنا حي فهناك أمل ما .
حانت من العجوز إبتسامة:
– آه الأمل.. ذاك هو.
قالتها المرأة العجوز ثم أشارت إلى ذلك الزقاق من الشارع.ما كان ليستوعب مايفعله،أيعقل أنه قد تماهى مع أفكار تلك العجوز.
لكن فجأة إستطردت العجوز متأملة:
– الأحلام يا بني يمكن أن تتحقق،كن ذو أحلام كثيرة واسعى لها،ولاتكن ذو حلم وحيد…
صمتت لبرهة ثم أردفت:
– كحلمي !
سألها باهتمام:
– أخبريني ،ماكان حلمك؟
إبتَسَمَت وقالت:؟
– إني على أمل اللقاء.
– بمن؟
– بمن أحببت؟
-منذ متى؟
– منذ زمن طويل.
– مالذي حدث؟
– ظروف قاهرة إستدعته للرحيل والسفر.
– هل عاهدك على العودة؟
– ومازلت على ذاك العهد،لكنه لم يعد حتى اللحظة.
– حينها كنتما شابين !
– نعم ،بيد أنني لم أنتبه لمرور الزمن إلا بعد أن حفر أخاديده العميقة ،كما ترى،على وجهي.
هالة من الحزن غشيت وجهها،ما هو فتسمر في مكانه محاولاً أن يدرك كل تلك الكلمات المفعمة بالصفاء والحقيقة، وبادرها بالسؤال:
– ماقصة ذلك الزقاق؟
أطرقت قليلا وأجابت:
– هنا كنا نلتقي..وهناك كنا نكتب أحلامنا،كثيرون كتبوا أحلامهم هناك ثم رحلوا،وهناك كتبت هذه العبارة” ما زلت في انتظارك“.
أدهشه هذا الوفاء النادر،لكنها توقفت عن الحديث وحاولت النهوض ولكن بصعوبة،فقام لمساعدتها وسألها:
– هل ستعودين غداً؟
ردت مبتسمة:
– إن كان في العمر بقية.

في اليوم التالي قرر أن يذهب إلى ذلك الزقاق،حمل معه فرشاة وعلبة طلاء،وكتب إلى جانب أحلام المرأة العجوز ( سيدتي ،نعم ستتحقق بعض أحلامنا في يوم ما ،الأحلام كثيرة وبعضها أنانية،لكن أصبح لي حلم وحيد الآن… أحلم بأن يكون الجميع سعداء بلا أحزان).
عاد إلى المقعد الخشبي منتظراً المرأة العجوز،طال انتظاره لكنها لم تأتي،فقط ذكرياتها هي من بقيت على جدران زقاق الأحلام.

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!