قصر البلد/ بقلم سعادة أبو عراق

بمناسبة الخامس من حزيران 1967
ما كانَ مَجيءُ المهندِسَ (حميد) كعادتِهِ دائماً من بريطانيا، في إجازتهَ الصيفيةِ، كبقيةِ المغتربينَ حينَ يَعُودونَ، إنما جاءَ في هذهَ المَرّةِ بسيارةٍ إنجليزيةٍ فخمةٍ، جَعلتْ كلّ الناسِ تَنظرُ إليها رَغمَ شكلِها الكلاسِيكي ولونُها الأسود، بِدهشةٍ وأعجابٍ، ويَتَهجّونَ اسمَها بألفاظٍ قريبةٍ مِن ال رولز رويس, أنهُ الوحيدُ مِنهُم الذي دَرسَ في بِريطانيا وعَملَ بها وتَزوجَ أيضاً، ورغمَ مكانتِهِ لمْ يُؤثرُ عَن المهندسِ حَميدِ المُباهاةُ والصّلفُ والعَنجَهيةُ، إلا أنّهم رأوا في مَجيئهِ بِهذهِ السيارةِ نَوعاً مِن الاستِعراضِ غَيرِ المُبرّرِ، ولكن بَعضَ الناسِ بَرَروا اعتراضَهم بأنْ قالوا حرامٌ أن تَمشي هذهِ السيارةُ على طُرقٍ تُرابِيةٍ وشوارعٍ كُلها حُفر، وأنّ المشاويرَ والنُزهاتِ يُمكنُ أن تكونَ بالسياراتِ العُموميّةِ، فإنْ صَدَمتْ أو تَخَربَتْ, فلا قطعَ لها، ولا ميكانيكينَ يُصلحُونَها هٌنا.
الأغربُ كانَ إيقافَها في وسطِ البَلدةِ، ولم يَستخدِمْها، فَصارتْ مَحجاً لكلِ عَين، وفخراً لكلِ مَن يبحثُ عَن فَخرٍ يَعتزُ به، هكذا كانتْ فرحةً لكلِّ البلدةِ، فلم يَمضِ أسبوعٌ واحدُ حتى نَشبتْ حربُ حُزيرانُ، واجتاحَتْ البلدةَ الدباباتُ الإسرائيليةُ والمُجنزراتُ ونصفُ المُجنزراتِ، وحَرثتَها ما أمكَنها الحِراثةُ، وكانتْ سيارةً حميدٍ، أولَ الذاهبينَ. فَذهبَ الناسُ إليهِ يواسُونهُ فقالَ لَهم بِكلِّ بُرودةٍ وأريَحيةٍ:
– لِماذا لم نَتوقعْ الهزيمةَ كما تَوقعنَا الانتصارَ؟ ها نَحنُ هُزمنا كما كل الشعوبِ والجيوشِ التي تُهزم، إذاً… لسنا أولَ المهزومينَ.
– وسيارتُكَ…؟
– إنها مِن خَسائِرِ الحَربِ أيضاً، أنا لم أحضِرها مُباهاةً، إنما لنَشعرَ أنّنا مِن الأممِ الراقيةِ المُترفةِ.
وحينما لم يَجدوا ما يَقولونَهُ، قالَ لَهم:
_ عَلينا أنْ نفكرَ لماذا انهَزمنا وكيفَ نَنتَصرُ.
ها هو قَد أعطاهُم مَجالاً للتفكيرِ، لِماذا انهَزمنا؟ إنهُ عِقابٌ من اللهِ، هكذا تَبادَرَ هذا السببُ إلى أذهانِهِم، لذلكَ ذَهبوا إلى ذاكَ الشَيّخ في صَومعتِهِ، وقالوا لهُ:
– يا شيخُ… القدسُ احتلّها اليَهودُ!!!
هزَّ الشيخُ رأسَهُ مُفكراً كأنهُ يًتوقعُ ذلكَ، أو عِندهُ علمُ المُستقبلِ.
– انتظروا سَبعا.ً
– أيّ سبعةٍ يا شيخُ؟
– إما سبعةُ أيامٍ أو سبعةُ أشهرٍ أو سًبعُ سِنينٍ.
هكذا عَرفوا المُستقبلَ مِن هذا الشيخِ الجَليلِ، القابعِ مُتعبداً في رأسِ الجَبلِ، وبناءً على قولهِ، فهذا هو اليومُ العاشرِ، إذاً لا بدَّ أنْ يدومَ الاحتلالُ سبعةَ أشهرٍ، إذنْ فَعليهِم أنْ يَنتشِروا في الأرضِ، أن يَنزحوا إلى عَمانَ، فهُناكَ يَجدونَ المُساعداتِ، ثياباً واغذيةً من سكرٍ وطَحينٍ، وعلبِ السردينِ والسجائرِ، يَكسِبونَ مِنها، رَيثَما تَنقَضيَ الأشهرُ السَبعةُ، ثمَّ يَعودونَ.
كانتْ موجةٌ مِن النُزوحِ التي لا مَثيلَ لها، إلا حَميداً الذي بَقيَ، ولمْ يَعُد لبريطانيا، بلْ استقدمَ زوجتَهُ وأولادَهُ وسَكنوا في بيتِ العَقدِ القَديمِ معَ أمهِ، وهذا دَفَعَ الناسَ لِأنْ يُفكِروا بِسببٍ آخر للهزيمة، فقالوا إنّ حميداً كانَ يعلمُ عَن الحَربِ ولمْ يقلْ لنا عَنها، فالإنكليزُ أصلُ البَلاءِ، وأنّ زوجتَهُ الإنكليزية جاسوسةٌ، وعليهم أنْ لا يَتكلَموا أمامَها، لكنْ أحدَ الذينَ يَسمعونَ الراديو قالَ إنّ عبد الحكيم عامر هو السّببُ، وان بِرلَنتي عبد الحميد يَهوديّة، لكنّ قِسماً من الناسِ، كانَ يَرى في مُجَلّخِ السكاكينِ والمقصاتِ الجوالِ الذي يَجوبُ القُرى حاملاً آلةَ التَجليخِ على ظَهرهِ تَمويهاً، يَجمعُ المَعلوماتَ عَن المَواقعِ والأمكنةِ ويُرسِلُها إلى اليَهودِ.
أمّا المهندسً حميدٌ؛ الذي اشتَرى للجامِعِ سَجاجيدَ صُوفيةٍ بَدلَ حُصُرِ القَشِّ، فإنهُ راحَ يُوفي بِوعدِه لإنشاءِ عِيادةٍ مِن غُرفَتين، عَزمَ على بِنائِهما بِجانبِ المَسجِدِ، بُنِيَتا في أسبوعَينِ، لكنْ هالهُ هذا النزوحُ الكبيرُ، فَبرقَتْ في ذِهنِهِ فكرةٌ لِبناءِ بَيتٍ لهُ بَدلَ البيتِ القديمِ، حِينما عَدلَ أحدُ العمالِ عَن النُزوحِ بَعدما اشتَغلَ في بِناءِ العيادةِ، ذَهبَ صَباحاً إلى الطَّريقِ العامِ المُوصِلِ إلى مُجمّعِ السّياراتِ، التي تَنقلُ النازحينَ إلى الجِسرِ، فجاءَ أربعةٌ يحملُ كلٌ مِنهُم صرَّةَ أكلٍ ومطرةِ ماءٍ، فقالَ لَهم:
– إلى أينَ…؟
– ألا تعلمُ إلى أين؟
– ذاهبون إلى عَمانَ لتأخذوا سكراً وطحيناً وسرديناً؟
شعروا بإهانةٍ مُضمرةٍ فقالَ أحدُهم:
– ألستَ خَواجا؟ إنكَ لا تُحسُّ بِنا، ألا تَدري أنّنا لا نَملكُ في البيتِ شيئاً، وإنّنا سنقطَعُ نِصفَ الطريقِ إلى عَمانَ مشياً؟
– أعرفُ أنّكم ذاهبونَ للتفتيشِ عَن عَمَل.
– ها أنتِ تعرفُ، فلماذا تَسألُ؟
– أنا أعرفُ، ولكنْ لو أوجَدتُ لكُم عَملاً، هل تَرجعونَ؟
– وما عِندكَ مِن عَمل؟
– تَذهبونَ الآنَ، لتَحفُروا أساساتٍ لبيتٍ سوفَ أبنيهِ.
نَظرَ الأربعَةُ إلى بَعضِهِم كأنّهم يَتشاوَرونَ بالعُيونِ، أدركَ مَعنى صَمتِهِم، فقادَهم إلى مكانِ العَملِ، حَفروا حَتى إذا ما أشرَفَ المَساءُ، عادوا ويحمِلُ كلٌ مِنهمْ نِصفَ دينارٍ أجرةً يومةَ، فقالتْ لَهم زَوجاتُهم:
– لِماذا رَجَعتم؟
– لا نُريدُ النُزوحَ.
لمْ يَكنُ البيتُ يحتاجُ إلى أساساتٍ فقطْ، بلْ بِحاجَةٍ إلى حِجارةٍ ودبشٍ، ومُعلِمي بناءٍ وعُمالٍ مهرةٍ، في بِناءِ الطّوبِ ورصفِ البَلاطِ والقِصارةِ والدِهانِ والأبوابِ والشبابيكِ وتسويةِ الأرضِ وتمهيدِ الطريقِ، عَدا عَن الكَهرباءِ المُؤجلةِ التي هُيّئتْ لها أسلاكُها، أيْ أنَّ لا أحداَ في البلدةِ إلا وَشارَكَ في بِناءِ هَذا البيتِ الذي يَفوقُ حاجَتِهِ، ونالَ كلٌ مِنهم أجرَتهُ المُرضِيَةِ، إنهُ كالقُصورِ الإنكليزيةِ عَظمةً وبَهاءً، أصبَحوا يَفخرونَ بهِ ويُطلقونَ عليهِ قَصرُ البَلد، فقدْ استغرَقوا في بِنائِهِ سنةً أو يَزيد، نَسوا في غَمرةِ العَملِ النزوحَ إلى المُخيماتِ التي بُنيتْ في البَقعَةِ وَسوفٍ وشلِنًّرْ، ونَسوا الطَّحينَ والسُكرَ والسَردينَ, ونسوا أيضاً نَبُؤةَ الشّيخِ والسَبعاتِ الثلاثْ التي بشّرهُم بِها.

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!