لغز الرجل المجهول / بقلم: طارق قديس 

تمرَّن على أداء مقطوعته للمرة الخمسين. تعثَّر مجرى العزف بأصابعه على آلة الأورغ كثيراً حتى بصمَهُ بصماً. حفر النوتَةَ في عقله كما تُحْفَرُ خُطوط الكَفِّ في باطن اليد، لكن شبح الخسارة في المسابقة أفقده الشهية للفرح!

ألقى بجذعه على سريره. فرجَ ذراعيه فوق المرتبة على طولهما. سحبته ريبة سوداوية في قُدرته على حصد المركز الأول كما حصل في آخر محفلين أقامهُما المعهد الوطني للموسيقا إلى جحيم الخوف. سقط قلبه في قدميه كما يسقط ورق الخريف الهش فوق التراب. تدثَّر بالملاءة المطوية على طرف الفراشِ هرباً من ظلال هزيمة متوقعة. 

زادت من تعكير خاطره صورة أخيه الأكبر الراقد على سرير الشفاء، بعد أن شلَّته جلطةٌ دماغية يوم عرف أن مرؤوسه في العمل ترقى إلى رتبة مدير، فيما شائعة حصول أخيه على هذه الترقية تَدُكُّ أركان المؤسسة دكّاً، وهو الذي لطالما أثبت جدارته في أكثر من قضِيَّةٍ بشهادة رؤسائه أملاً بأن يحظى يوماً بقطف ثمار كفاحه، إلا كفة الكفاح آلت في النهاية لشخص اعتاد التملق لمن هم في الأعلى، وأن يجعل من كرامته مَداساً للآخرين، ثقةً منه بأنه المذلة ستقود هواجسه لاقتناص كرسي السلطة الذي لا متسع فيه لشخصين إلى بر اليقين.

تذكَّر منظره يوم عاده في منزله. أبصر هناك بدلاً من ذلك الشاب المشرق بالحماس نصف إنسان هَدَّته الفاجعة، لم يظفر من شرف المنافسة سوى بانكسارٍ  قاهر في النفس، ورُقادٍ طويل الأمد. رأى ماء الخيبة يتقلَّب في مُقلتيه، وحزناً يغيم في عينيه، وحروفاً توشك على التَّدحرج من فمه إلى الخارج لولا ثقلُ لسانه.

قضَّ مضجعَ كوابيسه اليَقِظَةِ نقرٌ على باب الغرفة. أنصت قليلاً للتأكد مما يسمع، لكن أزيز فصّالات الباب وهي تتحرك أكدَّ له أنه لا يحلم، وأن غارةً عائلية على أعتاب الوقوع.

قام باحتداد، وإذا بوالدته، وجارتهم أم الوليد، وابنتها الصغرى “لُباب” ابنة الستة عشر ربيعاً، والتي تصغرهُ بعام واحد يقفن أمامه بجمود مؤقت يعادل في هيئته جمود اللات والعزى في زمن الجاهلية. وقفن وعلى وجوههن كِمامات زرقاوات حرصاً على تفادي الإصابة بوباء كورونا المستجد الذي استبدت فيروساته بأرواح العباد. 

انفكت عرُى السكوت المطبق مع عبارات التحية التي ألقتها عليه الجارة، وطلبت والدته منه بأن يُعين ريم في حلِّ بعض الفروض المعقدة في مادة الرياضيات.

فتَّت النبأ السعيد جبلاً من خياله الأسود، فقد سبق له أن ساعدها منذ مدة طويلة في منزل أهلها، إلا أن حضور ذويها آنذاك كبح فرامل الشهوة للعق عسل خديها آنذاك، ولم ينل منها لو حتى احتكاكاً عارضاً بالأرجل، أو تلامساً بريئاً بالأيدي سبَّبه تَنَقُّل الأنامل ما بين تقليب أوراق الكتب، وخطِّ السطور فوق صفحات الدفاتر. 

رحَّب بالفكرة. أسعده أن يقدِّم لها تلك الخدمة، وما زاده سعادةً أنه سيختلي بها بعيداً عن أعين الرقباء، وأمها ستبقى في ضيافة والدته لاحتساء فنجان قهوة مُعْتبرٍ في الشُّرفة المُعرَّشة بسيقان النباتات، إلا أنه وقبل خروجهما أخذ إذناً من الأم بأن هناك معزوفة يرغب بإسماعها لها ليشتفَّ رأيها فيها، ويتعرَّف على جودة أدائه، فلم تُبْدِ غضاضة في ذلك، فوسَّعت موافقتها من انشراح صدره، وبالكاد حجبَ فرحته عن أبصارهن بصعوبة. 

وقفت بقربه متحرجة، بعد أن نزعت الكِمامة عنها، تنتظر أن يُبادر بدعوتها للجلوس. منح نفسه الفرصة لتأمُّل فِتنتها قطعة واحدة على امتداد قامتها متوسطة الطول، كمزهرية خزفية ثمينة راسخة فوق قاعدة من حجر الجرانيت.

ملأ عينيه بريعان أنوثتها فيما هي تدفعُ خصلة شعرٍ سابلة خلف أذنها. استحالت فيهما إلى جنية ساحرة تحرَّرت من حكاية أسطورية حبستها في كتب التُّراث العتيقة. تفحَّص جسدها عضواً عضواً كمن يتفحَّص رسوماتٍ مبهرة في معرضٍ فنّيٍّ ذائع الصيت. تلذَّذ برؤيتها لو رؤية خاطفة تكاثف فيها كبت الشباب المقبل على الشهوة إلى أقصاه، وقد ارتفع معه منسوب فحولته إلى الذُّروة. 

حدجها بشمول. دار ببصره في ملكوت بهائها المفرط. أبهته نفور صدرها البالغ، وذراعاها المكشوفتان اللتان بزغتا من طرفي قميصها الأبيض كأنهما غصنان يافعان، وأنفها المدبب، وفمها المُحمرُّ كجمرة حارقة. ووجهها المتكور على بعضه كقرص شمسٍ دافئ يتلألأ في فصل نيسان. وساقاها الحنطيتان المصقولتان المسكوبتان من تحت تنورتها البرتقالية القصيرة. 

دعاها للجلوس خلف طاولته الدراسية، فاتخذت مكانها. وانكمشت على ذاتها في المقعد الخشبي. وضعت كتبها في الوسط، ثم شرعت تفتح أدسهم على الواجب المدرسي.

جرَّ مقعداً من حافة الخزانة. دنا منها. سألها عن الدرس الذي يجب أن يساعدها فيه، فدلَّت بإظفرها على الصفحة. غمس نظره فيه، وبعد أن راجع المطلوب في عقله هزَّ  رأسه، ومضى يحلُّ معها الفروض، ويميط غموض ما اسشتكل عليها.

نصف ساعة أفرغها في فك المعادلات لها دون انقطاع. اندمج في تدريسها بكل جوارحه حتى تدلت خصل من شعرها الشهي على أنفه وهو يتابع تدوينها للملاحظات في الهوامش. انتكهت رصانته كما تنتهك موجة مرتفعة عذريَّة شاطئ هادئ.

ترك أنفه رهيناً لمداعبات الخصلات المتراقصة في الهواء. دوَّخته رائحة عطرة انبعثت منها غسلت قراره بطيبها كماء مقدس يغسل قلوب المؤمنين من ذنوبها لحظة التعميد.   

التفتْ نحوه. طرحت عليه سؤالاً عن صحة جوابها في المربع الأخير. تاهت ابتسامة طفيفة على خديه بعد مراجعته، وقال بها بشموخ: “مبروك! جوابك صحيح.”، فبادلته الابتسام، ولوت شفتيها مطلقة نفساً قصيراً في الفراغ فرحاً بتكلل مهمتها بالنجاح.

شكرته، وسعت للخروج من الغرفة وهي تزم أغراضها. فاعترضها بكفه، راح يمهِّد بحنوٍّ لطلبه قائلاً: “إلى أين؟ وعد الحر دين!”، قطَّبت حاجبيها متسائلة عن مغزى جملته. جحظت عينيها وهي تفتِّش في سوابق لقاءاتها معه عن دين قديم ما زال عالقاً ولم يُوَفَّ.

أزال حيرتها لما صرَّح بأنه يريد رأيها في معزوفة قصيرة سيشارك بها في المحفل الموسيقي بعد يومين، فهبطت بكفها على صدرها، وعبَّرت له عن قبولها لذلك بسرور، وقد أسعفتها ذاكرتها بأنه قد سبق وحصل على الإذن من والدتها لأداء اللحن في حضورها.

عادت إلى حيث كانت، وأما هو فقد استلقى على الكرسي أمام الأورغ. استفسرت منه عن اسم العمل. رد عليها بأنه سوناته (ضوء القمر) لبيتهوفن، فأنصتت له ساهمة، وارتخت بكاهلها على المقعد تتنظر أن يبدأ العزف.

بسلاسة نشر أصابعه فوق مفاتيح الأورغ كما تنتشر كتيبة من المجندين على خط القتال، وباندفاعٍ حالم زرعها في بعضها، وجرى يلعب بها صعوداً وهبوطاً، وذهاباً وعودة، يرتفع باللحن ويسقطُ كريحٍ عاصفة تتثنّى بين سفوح الجبال ووديانها، وهي غائرةٌ في صمتٍ متواصل تُمَلِّسُ زنديها بيديها كي تطرد عنهما الخدر الذي انسلَّ إليهما بغتة.

بقيت تراقبه باهتمام إلى أن ختم الوصلة بحركة انفعالية رفع بها مُحياه عن الأورغ إلى الأعلى، وكأنه ناسك مُتعبِّدٌ في اتصال روحاني مع السماء. وقتئذٍ عَرَفَتْ أن الجوَّ المشبع بالسحر قد أتى على نهايته، فقامت وصفقَّت له بانبهار. أثنت على عرضه، فشكرها وقال: “لو أنك سمعتها على البيانو لكانت أجمل!”، ثم نهض مستمتعاً بردة فعلها.  ورجع للرُّكون إلى جوارها.

قادته حالة النشوة للتوغُّل في تاريخ (ضوء القمر)، وإدارة حديث عارض على هامش اللقاء. أفصح لها بأن هذه السوناته هي صفوة ما خطَّه الفنان الموسيقي من ألحان في حياته، وأن روايات عديدة حيكت حول ملابسات كتابتها، منها وقوع بيتهوفن في غرام الكونتيسة جوليتا جويتشاردي، ومنها ارتجاله لها في بيت صديق له مستوحياً المقام من ضياء القمر المتساقط من إحدى النوافذ، وأخرى أن انعكاسات القمر على أمواج بحيرة الكانتونات الأربعة (لوسيرن) بسويسرا أوحت له بترجمة أحاسيسه إلى أنغام.  

فجأة شملهما السكون. وجد نفسه منغمساً في التحديق بها، أما هي فقد لاحظت نظراته تنغرس في مقلتيها، فمالت بخصرها. غاصت في جلستها بمخافة،  ونكَّست بصرها إلى القاع. 

كشفت له السكينة ضآلة المسافة ما بينهما، وضيق الحيِّز الذي يفصلها عنه. لحظتها دبَّت في داخله شجاعة سندباد البحري، فأقدم بضراوة على تطويق فخذها اليسرى براحته. 

أربكتها مُداهمته. ترنَّحت في موقعها كأن ناراً قد شبَّت من تحتها. عمدت لرد شعرها إلى الوراء في حركة عشوائية دون أن تفطن إلى إبعاده. واصل إمطارها بسهام ناظريه. اقتنص الرعشة الغاشمة التي اشتعلت في جسدها، وأخذ يدعك ركبتها بباطن قبضته كمن يدعك بلهفة مصباح علاء الدين. 

وقبل أن تترتب الأمور في ذهنها دسَّ وجهه في رقبتها. مشَّطها بقبلاته. حاولت ردَّه عنها بدفعة خجولة على كتفه، إلا أن ثبات عزيمته طحن ضعف إرادتها، فزاد الصدُّ من رقعة تقبيله لها، حتى غدت القبلة تصدر صوتاً أشبه بصوت قطرة ماء ساقطة من شرخ في السقف على بلاطٍ أقرع.

غافله حِسٌّ طارئ بأن هذا الحدث حدثٌ أَدارته الصدفة وحدها ولن يتكرر،  ووجب عليه الاعتراف بضرورة أن يغنم منه أعلى المكاسب وقد تعاظمت فيه الرغبات الدفينة حتى طفت على السطح، وتحوَّلت إلى سيولٍ بركانية مدمرة، فجسرَ ونقل يديه إلى عَجُزها، وجذبها إليه لما لمح الذبول مستحكماً من جفونها، وبشرتُها قد غرقت في شرك الشغف، وقد أجبرها على الانصياع إليه. 

ارتفع بلثمه إلى ذقنها، إلى فكِّها، إلى خدَّيها، حرثهما حرثاًـ إلا أن شفتيها ظلتا عصيَّتين عليه. فكلما تخيَّل أنه على مدى ومضة من أن يطوقهما برضاب ثغره فرَّتا منه كما يفرُّ الماء المنسكب من بين الأصابع. 

كثَّف من تفتيشه عن شفتيها دون أن يتخلى عن نحت القُبَلِ فوق عظمتي وجنتيها الناتئتين حتى لانت مقاومتها. عثر عليهما بعد عناء. انتهك عنادهما، وطوَّع من جبروتهما. افترس رحيقهما باعتزاز. حاول أن يبتدع موقفاً يبقيه رابضاً فوق هضبة شفتها السُّفلى.

انفكت بصعوبة من أسره، وأنَّت بخًفوت: “ستفضحنا”. ذهب قولها كنفخة في رماد. رد عليها بصوت متراخٍ: “اطمئني!”. لم يبالِ لتحذريها، بل زاد من سطوته عليها. فضمَّها إليه بعنف حتى كادت عظامها أن تتطبَّق بين يديه كعلبة شراب غازيٍّ فارغة.

أدركت وجاهة الاستسلام، وأن الأمل في الخلاص قارب التبدُّد، فأسبلت يديها بعد أن أجهدتها محاولات صدِّه العابثة، فمكَّنته منها، ومن اقتحام حدائقها المحصنَّة بدفاعاتٍ هشة، ومن أن يضرم في شرايينها جحيمَ تمّوز لاهب.

أوقف قرع على الباب قطار قُبلَةٍ دهسَ جبهتها. نشف الدم في عروقها. نبَّهته للصوت الآتي من الخارج، فأنصت له فيما يداه تتوسدان ظهرها. إنه صوت والدتها يدعوها للذهاب. أفسد صدى المداهمة متعة الجسد. حار ماذا يفعل ومقبض الباب يدور في محيطه. ارتد إلى مكانه باضطراب، أما “لُباب” فاتجهت للاطمئنان على تسريحة شعرها، وترتيب ثيابها في حالةٍ من التخبط. 

بعجلة دخلت أمها إلى الغرفة، وبلكنة آمره دعتها لتوضيب حاجيّاتها والرحيل. حملت كالبرق الكتب باستعجال دون أن تناظره. ودَّعته شاكرة باقتضاب، وكأنها تقول في نفسها “ما الذي رماني في أتون هذا الفُرنٍ البشريٍّ الساخن، وجعلني حقل تجربة لشاب أفلت عليَّ كلاب غريزته المُسْتعرة؟”.

خلَّف انسحابها وجعاً لديه. كَوته بنار اختفائها وطيف احتضانها الذي أصرَّ على لسعه. ضرب بقبضته على الطاولة وقد خاب مسعاه في اكتشاف المزيد من كنوزها الأنثوية المتوارية. اختنقت روحه نتيجة إخفاقه، واكتست غمّازاتاه بالشحوب بعد أن غادرت العصفورة المُغرِّدة  قضبان القفص، وعاد للانكماش تحت الملاءة واضعاً همَّه في التحدي الأهم، طاوياً صفحة ما جرى معه قبل دقائق.

وفي يوم المسابقة تدرَّب بعناية أكثر. زار صديقاً له وجرَّب حظَّه مع البيانو القديم في بيته رغم اختلال دوزانه، والعطب الذي أصاب بعضاً من أركانه. شاهد نجاحه في التدريب يُغلِّف تعابير صديقه الذي لم يتفوَّه بكلمة مكتفياً بتقويس فمه دلالة على اندهاشه.

فرحَ بثمر تدريباته. خفَّ توتره المكسوُّ بالتشاؤم إلى حدِّ كبير. أنهى زيارته مُعلناً رضاه عن مستواه، وافترق عن صديقه كلٌّ في طريقه تأهُّباً للمعركة مع هبوط الظلام.

مع أفول الشمس على حدود الأفق، انحدر من العمارة والهمُّ يحتشد بين أضلاعه، بعد أن غطى جبين أبيه بقُبلة عجولة، وأخرى مثلها على ظاهر يد أمه. ركب سيارة التاكسي التي استجابت لصراخه وتلويحه لها على اتساع مرفقيه. ثبَّت كمامته على أنفه، وارتمى في المقعد الخلفي، فيما عجلات السيارة تنهب الشارع وتخلِّف غيوماً من الأتربة وراءها.

لم يكد يهبط بزجاج النافدة حتى غدرته نسمة جافة ولطمته، تكفَّلت سخونتها بإذابة تماسكه والكشف عن أسماء ووجوه لمنافسين تصارعت في مخياله، وشكَّلت جمجمته وعاءً لها، أحدها: “مغزل” ابن حي الأثرياء، الذي غالباً ما يشارك بهدف استعراض غروره، ومقدار الحظوة التي حظي بها من المعاهد الموسيقية، ومهَّدت له أن يضع قدماً كعازف مُعاون في الأوركسيترا الوطنية، والثاني: “نهيل” ذات الأنف المدبب، والذقن المعقوفة، تلك التي رهنت طليعة عمرها للموسيقا، وأنفق والداها مالاً وفيراً بين المراكز والدور المتخصصة لتعليمها أُسس العزف وضوابطه، ودوما ما ارتاحت لحجب ثدييها المرفوعين عن الباقين بحقيبة النوتات، أو آلةٍ صاحبتها في قاعة الفحص، حتى التصق بها لقبٌ في الخفاء “سيدة الحقيبة”. أما الثالث فهو أم المعضلة وأبوها، إنه ذلك الشاب المجهول “رستم” الذي لم يحفل بمعلومات عنه قط، ولم يلتقِ به قط،  فقط رأى واجهته الخلفية وهو يطير بأصابعه فوق مفاتيح البيانو للعزف بألق واحتراف مقتنصاً جائزة المعهد في محفلين متتاليين.

كلُّ ما يعرفه عنه هو ظهره! لم يهتم بالتنقيب عن أصله وفصله، عن تفصيل  معالمه، أو حتى معرفة اسمه. منعه عن تحيَّته والاحتكاك به آنذاك أمران: جمهور المشجعين الحائل بينهما، والغيرة منه. لذا فضلَّ في الجولتين أن يمتنع عن مصافحته ومباركة الانتصار، وأن يتوارى عن أنظار الكل محمولاً بأغلال ذاته المهزومة. 

أيقظه السائق من تهويماته هاتفاً: “وصلنا!”. انطلقت منه زفرات إنسان خائف. ترجلَّ بتباطؤ من السيارة. ناوله الأجرة من فتحة الزجاج المشقوق إلى النصف، وصعد إلى الرصيف، ومن ثم امتطى الدَّرجات المؤدية إلى مدخل المعهد.

دخل باعتداد مُصطنع. سلمَّ على السكرتيرة، وبعض المدرسين في قسم الكمان، وختاماً أستاذه من بعيد. أجاب على استفساره عن استعداده بأن طبع له بإبهامه في الهواء إشارة تدلُّ على تمام جهوزيته. فعل ذلك، ثم اتخذ في قاعة الاحتفال موقعه. احتلَّ وحقيبته الكرسي الأقصى في الصف الأخير، واسترسل يغربل القادمين بتأملاته.

اقتصر الحفل على عدد ضئيل من المدعوين جراء تفشي الوباء في البلاد، وازدياد حالات العدوى مقابل ضآلة العتاد. تعامل مع الوفود بحذر، فالسلام يحدث بالإشارة، والكلام تحكمهُ مسافة الأمان.

طال انتظاره لبدء المسابقة. قام بإخراج هاتفه الجوّال من جيبه. أضاء شاشته، وابتدأ بمشاهدة بعض الرسائل الواردة إليه، والمنشورات على صفحات الفيسبوك قتلاً للملل، وإذا بالمنظمين ينسلّون إلى المنصة متخذين أماكنهم لإلقاء كلماتٍ ترحيبية مختصرة.

مع انتهاء المقدمات انفتح المجال للمتسابقين كي يشمِّروا عن سواعدهم للَّجْنَة، ويعلنوا عن مواهبهم واحداً تلو آخر على آلاتٍ من مختلف المشارب. كانت الأسماء تتناقص، والفقرات تتقلص. مشاركون جدد أثخنوا المناسبة باختياراتهم التي اتسمت بالبلاهة، وتعاملهم مع المقطوعات العالمية بأساليب وقحة وهزيلة ومُذلة. خلخل غياب اسمه عن المشهد مفاصله. عذَّبه احتمال الإقصاء المجحف، إلا أن غمزةً من أستاذه للتأهب كانت كافية لإزاحة الغُمَّة من فضائه. 

نجح في بتر شأفة المهابة من كيانه، وانتقل إلى المنصة بمشية جادَّة. فَرَدَ أوراقه على حاضنة النوته. استنشق نسمة عميقة، حط بأصابعه على مفاتيح البيانو كطبيب يجس بدن مريضه. أغمض مقلتيه وانكفأ يضغط بأطرافه عليها وأعين المتفرجين ترقبه بانجذاب. تمطَّر النغم من خيوط البيانو في الآذان كغيومٍ أرخت حمولتها في حقل يتربَّص مجيء الربيع. جلجلت إيقاعات السوناته برونقها ما بين الحيطان المطبوعة برسومات فنية غنية بالألوان. تفجرت في أوردته بالحماسة للعطاء كأن شيطاناً قد سكنه. 

استعذب التحليق مع السامعين على بساط التموجات الآسرة، وتمنى لو أنه لا يتوقف عن السفر  في النغمات تنضب الأرض من مياهها، لكنه عند الخاتمة كفَّ بنقرة ناعمة عن التلاعب بالمفاتيح والمطارق والدواسات، واكتفى بحبس أنفاسه والانحناء بهامته نحو البيانو بخشوع.

حينها كفَّ عن مواصلة العرض، لكن أكف الحاضرين المبهورين بما تناهى إلى أسماعهم لم تكفَّ عن التصفيق بحرارة. أطبق كفيّه امتناناً لهم كمن يرفع صلاة إلى ربه. حَنا قامته باتضاع، ثم احتجب عن الناس، واجتازهم كي يُفْرِغَ في الحمام حاجته.

تمتع بغلبته على من سبقه. لمعت عيناه في المرآة. تهلل افتخاراً بما فعل. وفي أثناء ذلك جاء صوتٌ من فجوات الباب أثار استغرابه، صوتٌ بعث تيارات الشجن في وجدانه. “أحدهم يعزف. إنه هو!.”، حدَّث نفسه بهذا وهو يطالع ذهوله المنعكس في المرآة. انتزع الباب من سكونه، ورمق العازف من آخر الردهة. انصدم لما تعززت شكوكه. إنه ذلك الرُّستم. اصطبغت طبقة بشرته بلونٍ قاتم. حسب أنه لن يأتي، وسينضم إلى ركب المنسحبين من المنافسة: مغزل ونهيل اللذين تخلَّفا عن ركب المشاركين، الأول بسبب وفاة عمِّه، والثانية بداعي الإصابة بفيروس كورونا المتحور، إلا أن شكَّه تحوَّل إلى سراب، ورستم يؤدي فقرته بأبهى صورة.

مع اقترابه رويداً رويداً من بوابة القاعة تجلَّت الألحان الخلّابة له كرِماحٍ أغمدها في رئتيه، فأناقتها لا تقاوم، والرِّهانُ على فرادتها لا يُساوم، وقد اختار للمصادفة سوناته أخرى من إبداعات بيتهوفن، وهي سوناتة “الوداع”.

“يا له من خبيث!”، همس في سره، لقد اختار  تلك المعزوفة عن عمد لأن مؤلفها قد أرسى فيها حركتين متضادَّتين: الحركة الأولى بعنوان (الوداع)، والأخرى بعنوان (اللقاء)، تلك التحفة التي رصَّ فسيفساءها إهداءً لتلميذه الأرشيدوق رودلف إمبراطور النمسا والمجر، والذي هجر عاصمته تحت وطأة الحرب مع نابليون، وعاد إليها بعد أن عفَّت الحربُ عن قرع طبولها. فبالتضاد ما بين الحركتين تبرز الروعة، وبعبارة أخرى كما قال الشاعر: “والضدُّ يُظْهر حسنه الضِدُّ ..”.

فرغ من العزف. أنهالت الأكف بالتصفيق. حاول أن يستجمع شتات فكره، وتضاؤل أحلامه، وأن يمشي نحوه مُهنِّئاً. حالت بينه وبين قامات الحضور المتشدِّقة على مدخل القاعة، ضاقت عليه الدنيا. لم تعد العودة إلى الكرسي أمراً مُشوِّقاً.  حضَّهُ خاطر بأن يغادر المعهد دون ضجيج. تنحّى عن الجميع ومرَّ على عتبة المدخل هامّاً بالفراق، لكن نداءً من الخلف ألزمه مكانه. إنه أستاذه يدعوه للسلام على رستم.

انتصب قبالته. انخرط في تقويم عاقبة اللقاء في لحظة تبدّى فيها الصمت أكثر وحشية من أسدٍ جائع، ثم تخلَّص من حالة الصمت العدمي التي اجتاحته. وبخطوات بطيئة رنا إليه. تفصَّد العرق من جسمه. للمرة الأولى يرى ملامحه بهذا الوضوح. يرى ظهره المحني صوب البيانو، ولحيته الخفيفة، وشعره الحاسر الأفحم، وجسمه النحيل المتواري في قميصٍ أصفر وبنطالٍ كُحْليٍّ داكن.

حيّاه بلباقة متكلِّفة مؤهِّلاً: “يسرني لقاؤك. للأسف لم تسمح لنا الظروف للتَّعارف من قبل!”. رد له تحية متبادلة وهو جالس دون أن يدع المجال للعينين للتلاقي، وباح له بإعجابه بطريقة عزفه لمقطوعة “ضياء القمر”. شعر بأن هنالك علَّة ما تسكن فيه، لم يعرف كُنْهها أو مردُّها، إلا أنه أهمل ذلك فيما سحاب حوار مُشوِّق بزغ مُعبِّداً الدرب نحو جدالٍ ثنائيَّ الأقطاب.

وقبل أن تبدأ عجلة الحوار بالدوارن، أعلن أحد أعضاء اللجنة أنه سوف يتلو على الملأ اسم الفائز بالمسابقة السنوية لهذا العام، وأن على الحاضرين التزام الهدوء، فشحصا إليه و بترا حبل الكلام.

بأناةٍ قدَّم العضوُ  نبذة عن انطباعات الحُكّام حول ما فاضت به قرائح المتنافسين، ذيَّلها بالقول أن آراء اللجنة أجمعت على أن الجائزة لهذه السنة ستؤول إلى ( … )، ثم سكت حتى تعتمل علامة السؤال في الأذهان.

“الفائز  هو  ..”، قال هذا وكمن صامتاً يتفرَّج على تباشير الفضول التي نبتت في أعين المتسابقين، ثم في غفلة من تذمُّرهم نطق اسم الرابح كالوميض، إنه هو !

لم يصدق القرار! لقد فاز. صرخ صرخة هادرة ورفع ساعديه للأعلى بقبضتيه المضمومتين كعلامة للفوز. حاول تهدئة أعصابه، لكن الفرحة انثالت منه دموعاً ترقرقت في مقلتيه.

لم يصدِّق أنه قد تجاوز رستم أخيراً، رستم الذي بارك له فوزه، وانحسر من الغرفة برفقة أحدهم وهو يمشي الهوينى. أزعجته مشيته المتحفظَّة فوق البلاطات، كمركبةٍ مُتريِّثة تتخوَّف العبور فوق مطبٍّ يترصَّد العابرين. اتجه  إلى أستاذه المتكئ على طبلةٍ كبيرة، وسأله: “هل رستم على ما يرام؟ خطواته لا تعجبني!”. أجابه والزفير الحزين يرافق حروفه: “لا، فهو كما هو منذ عرفته. والإنسان الضرير غالباً ما يتهيَّب من نقلِ خطاه.”. 

“ضرير!”، قال هذا وكتم فمه المفتوح من وقع الصَّدمة بأخاديد كفِّه. غشاه عجزٌ صارم في عموده الفقري، وجفافٌ قاحلٌ في الأحبال الصوتية. تهاوى انبساطه في بئرٍ من الغمِّ وقد مسَّ في تصرُّفاته السابقة منه حماقة فادحة. “كيف لم ألحظ أنها أعمى من قبل؟”، سأل نفسه، ولم يعثر على ذريعة واحدة يستر بها خزيه وعُرْي أفعاله. أسرع للحاق به. أراد أن يبجلَّ له مثابرته في حقل الموسيقا، أن يعوِّض ما فاته من فُرصٍ للاعتراف برفعة كعبه حينما تنافسا في الزمن الماضي، وأن يُحسِّن من صورته أمام ذاته على الأقل، وأن يقتلع شأفة ذلك الشرير الذي استوطن أوصاله من جذوره، لكن رئيس اللجنة أعاق انطلاقته حين أوقفه، ونخزه في رسغه كي يذهب إلى طاولة أعضاء لجنة التحكيم، فيتسلَّم شهادة التقدير ودرع المسابقة، وهو ما جعله يغض النظر  عن السعي في ركاب رستم.

هناك، وبعد أن تخطّى مجاملات الحاضرين جرجر قدميه، ورمى بانفعالاته المختلطة إلى الشارع، عقد يديه خلف ظهره، ومشى مُتسحِّباً إلى منزله. تأنّى في مشيته وقد قدحت لديه شرارة توقٍ بأن يختلي مع أحماله المتحفِّزة في مكانٍ فارغٍ من البشر. حوَّل وجهته إلى الحديقة الخلفية للبلدة. عثر فيها على مقعد شاغر.  جلس منطوياً يطالع الشهادة وفكره في حضرة الرجل الغامض، ذاك الرستم العنيد، الذي لم تهاجره البصيرة في غياب البصر، ولم تنقصه المهارة مع وجود قصور خلقيٍّ في واحدة من حواسه الخمس. 

لقد استطاع رستم أن يواجه واقعاً قاسياً بإصرارٍ رغم العقبات، ولم يثنه حجاب الظلام من أن يرصِّعَ حياته بموهبة خاصة تنخلق من بديعها القلوب. هذا ما خَلَصَ إليه، أعطى له هذا النموذج الحي من التفاؤل حافزاً للمضي قدماً في تنمية عطائه الموسيقي، وشطب مُفردة “اليأس” من قاموسه اليومي، تحسَّن مزاجه وهو يتذكر  مفاتيح البيانو وهي تتراقص تحت أصابع منافس صُلْب وصعب المراس. حداه ذلك للذهاب إلى بيت أخيه المريض كي يقص عليه حكايته الغريبة مع غريمه الضرير، وله في القصة عزاء أن تمدَّه الدنيا بغصنٍ غضٍّ من شجرة الأمل، فيستردَّ عافيته، ويقف على رجليه مرة ثانية، ويشقَّ له في معترك الحياة مسرباً جديداً رغم مشقة العودة وانسداد الأفق.

 

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!