ليلى … وحكاية الألف ليلة الفصل الثالث عشر

بقلم :عبدالباري المالكي

أخفق الأطباء في معرفة ما أصابني من داءٍ ، إذ أن جميع القرائن قد أشارت إلى أنني غير مصاب بداء الكورونا .
ورغم مرور ثلاثة أشهر وأكثر على المراجعات الطبية ، فإنني مازلت سقيماً جداً وحرارتي قد بلغت ذروتها ، فلاينفع مع سقمي أي دواء  .
ولكُم أن تعلموا  كيف يمكن ان يكون للمصادفة دورها الكبير أحياناً في معرفة الإنسان لحقيقة نفسه ، فقد  كانت عودتي من آخر طبيب استشاري هي نقطة انقلاب كبيرة في إدراك ذاتي .
فحينما عدتُ من الطبيب رأيتُ مصادفةً ذلك الدرويش العرّاف الذي أنبأني قبل سنوات عن فراقنا أنا وليلى في يومٍ لم أجد أشدّ  منه شؤماً عليّ  ، ولن أجد .
رأيته وقد أقبل بنظراته نحوي عبر نافذة السيارة وأنا داخلها وكأنه يريد أن يخبرني بشيء ، فكانت هذه المصادفة هي نقطة تحوّل كبيرة في حياتي جسداً ، وعقلاً ، وروحاً .
صرختُ بما أمكنتني قوتي :- أبي … أوقف السيارة أرجوك  ، إن ذلك الدرويش يدعوني إليه بنظراته وإيماءات رأسه .
أوقف ابي سيارته ، ونزل مسرعاً إليه دون أن يستفهم مني عما أريده من ذلك العراف ، فلما لقيَه ، أحاطه علماً بما ينتابني من داءٍ  لا دواء له ، فاستجاب الدرويش لطلب أبي ، وركب  معنا في السيارة ، ولما وصلنا الدار ، جلس العراف قبالتي ، وفحص حرارة جسمي المرتفعة جداً ، فرأى ما بي من الانكسار والضعة ، حتى صرتُ نحيلاً جداً ، خائراً ، مغايراً عما كنت عليه في السابق من قوة وقدرة وبنان ، حتى أني لو نظرت الى نفسي في المرآة لم أتعرف عليها من هول مااستحوذ عليّ من الضعف والهوان .
ولمّا رأى العراف بي ما رأى ، طأطأ  رأسه ، وذرف دمعة من عينيه الصغيرتين ، وهوى بكفّيه يضرب إحداهما بالأخرى جزعاً مما رآه مني .
سأله والدي خائفاً :- ما الأمر ياسيدي ؟
قال :- إنه مصاب بداء العشق .
رمقه أبي برمقة استهزاء وعتاب ، وأمي برمقة تعجب واستغراب ، وقالا له بصوت واحد :- داء العشق !!
قال :- نعم … إني أرى ذلك الغرام يضطرم الآن في فؤاده ، كما أراكما الآن قبالتي ، وقد أشعلَ أضلاعَه ، ففرى كبده ، وفتّت أحشاءه ، وافترس لحمه ، ونهش عظمه ، وشرب دمه ، فلم يبقَ منه سوى ليلى في سويداء قلبه ، حتى أصبح ذلك القلب وأمسى حطباً التهبَ كلَّه ، فاحتدمت داخله كل تناقضات الحياة من لذة وألم ، وحلاوة ووجع ، وسعادة وشقاء ، وعقل وجنون ، لا هو ميت ولا هو حيّ .
صرخت أمي بصوت عالٍ :-  جنون  !!!
أشاح العرّاف بوجهه عنها وسالت أدمع عينيه بغزارة ، وهو يحاول أن يمسحها بكمّ ثوبه الهزيل .
طلب العراف من والديّ ان يخلّيانا لوحدينا أنا وهو لحديث العاشق والمعشوق ، فوافق أبواي على مضضٍ ، وخرجا من الغرفة على كرهٍ منهما .
وأراد والداي أن يسمعا مايدور بيني وبين الدرويش من حوار ، فوقفا خلف كوّة صغيرة من وراء نافذة الغرفة،  يستمعان لحديثنا الذي جرى .
قال العراف :- ولدي يوسف … ها قد أغلقنا علينا الأبواب ، ولم يعد هنا سوانا ، فامنح قلبَك فرصة التعبير بما نسجه من وجدانٍ ، وخيالكَ لما رسمه من صورة لها بريشة فنانٍ ، ولسانك بما ترجمَه عن كل ذلك ببيانٍ ، وأنا إليك مصغٍ بكل حواسي ، قلباً وعقلاً ، وبكل ما أملك ، كمعشوق قبالة عاشقه ، وطبيب قدّام مريضه ، وتلميذ أمام أستاذه .
قلت :- أيها العرّاف … لكأنّما أنا في ليلٍ طويل لاينزاح عني دجاه ، إلا إذا أشرقت ليلى بوجهها عليّ ، فلا آنس بوجهٍ سوى وجه ليلى ،  ولا أشعر بوحشة إلا من دون ليلى ، فإن أقبلت  إليّ ، أقبلت هي بابتسامة ، وإن أدبرت  عني ، أدبرت هي بابتسامة ، فهي دائماً ذات ميسٍ ودلال ، وكأنّ ألوان قوس قزح يموج بعضها ببعض في وجهها ويذوب قبساً ونوراً .
فتأسف العراف مما أنا فيه من وجع وقال :-
إنك اليوم ياولدي كالفريسة التي اصطيدت  بسهم ذي ثلاث شعب ، وهي تنتظر الذبح من صيادها  ، وهي لمّ تُذبَح بعد ، فالموت يستلّ الروح ، والهجر يبقيها كأنها مستلّة ، فكذلك أنت .
والعشق ياولدي … هو صفة عليائية ترفعكَ بالقدر الذي يجعلك لا تعرف من معشوقتكَ  سوى ما يملأ عينيكَ وقلبكَ منها ، ولأنك لا تدرك من العشق إلا أن تهيم الى ماوراء عوالمكَ ، ولأن الداء الحقيقي هو داء الروح ، لأنه خبايا البوح الشفيف ، ومكمن أسرار الفؤاد ، فقد صرتَ أنت  سرّ ذلك العشق ، وليلى جمال هذا الوجود .
قلت : – سيدي … إني  لَأرى معشوقتي ليلى صباحاً في ضوء الفجر ، ومساءً في حمرة المغرب ، فما إن استيقظ حتى تنفذ اليّ روحها الشفافة عبر نوافذ غرفتي ، ومسامات حيطانها ، يفوح عطرها مع عطر نسيم الصباح ، وينتشر في جوّ غرفتي كلما انتشر النسيم فيها ، فإن انتهى الى شعيبات قصباتي الهوائية فقد عشتُ بها وانتعشتُ  ، وإن لم يكن ذلك فقد ماتت  روحي وذوت كما تذوي ورقة القرطاس في النار .
قال : – ولدي … إن الحب الذي يخالج النفوس إنما هو داء ليس له دواء إلا هو .
فالعشق داء ودواء بنفس الوقت ياولدي .
قلت : – سيدي … لكَ أن تعلم أني لطالما نثرتُ عليها من قصائدي ، وطوّقتُ جِيدَها بلوحات رسائلي ، ورسمتُها بريشة حكاياتي ، وصوّرتُها بشتى قصصي ، لكني لم أجد منها إلا الهجر  ياسيدي .
قال : – إن ألم الهجر ألم ما بعده ألم ، وجرح ما بعده جرح ، لاسيّما وأنت فنان ، فلابد أن يكون ألمُكَ أشدّ ، ووجعك أبلغ .
قلت : – سيدي … شتّان مابين عشقي وعشق غيري .
فغيري حين يعشق فإنه يمنح معشوقته كل مالديه من روح وحواس ، وأما أنا … فإني  حين عشقتُ ليلى  فقد وهبتُها كل مالديّ مما في عالمي وكل ما يحوطني من عوالم أخرى ، بل وما وراءها أيضاً ، فقد منحتُها أحاسيس فؤادي كلها ، وأحاسيس الدنيا بأجمعها ، بل وأحاسيس هذا الكون بأكمله ، وكأنّ المجرّة قد خلقَت لمعشوقتي ليلى  فحسب ، وكأنّها بجميع عوالمها المادية والمعنوية ، بكل تجاذباتها وتطارداتها ، بكل محتوياتها وفراغاتها ، وكأنّها حين صنعت بيد الله تعالى وقال لها ( كن ) فإنها كانت لي ، أهبُها قرباناً لعشقٍ بدأ ببدء الخليقة ، ولا ينتهي حتى بالحشر .
وإني لأدرِكَ يقيناً  أن غيري يرى معشوقته بعينيه وقلبه فقط ، أمّا أنا … فإني أرى معشوقتي بأعين جميع البشر ، رجالاً ونساءّ ، صغاراً وكباراً ، وكأنّ أعين البشر كلها في رأسي أنا ، أراها بزوايا مختلفة على عدد تلك الأعين ، وأراها على عدد الصور التي انطبعت في تلك الأعين ، فتكوّنت صورتها بأكمل صورة ، وأنا أبصرها ببصيرة قلبي وقلوب جميع البشر لتتشكل لوحتها التامة في قلبي على عدد تلك القلوب التي أبصرتُها بها .
ولكل قلب عندي مائز يميز به عن الآخر …فقلب استوحى لون محبوبتي من ورق الأشجار  الخضراء ، وقلب صبغ معشوقتي بلون الياسمين الأبيض ، فتمايزت أوراق الأشجار والورود والأزهار في ألوانها ، وتنافست في  تركيبتها ، واشتركت على مختلف فصولها ، حتى اكتملت صورة ليلى بأزهى الألوان .
ثم إني … ياسيدي … عشقتُ ليلى بنبض فؤادي ، وأنا أفيض على الأشياء بهمس وجداني ، فما حسيس أوراق الأشجار إلا نفحات صوفية تتكاشف حين تعجز الألسن عن المكاشفة ، والعيون عن الملاهفة .
ولكأنّ أوراق الخريف الصفراء المتساقطة من أغصانها وهي تتماهى في جوّ الهواء ، ماهي إلا شعور حزين يكاد يتفجّر لكل المحسوسات عن هجر ليلى لي ، وهي إذ تتهاوى على الأرض بين أقدام الناس وحوافر الخيل ومخالب الوحوش ، فإنما هي تعبير لا أدقّ منه على أن فؤادي وإن داستهُ معشوقتي بكل أنواع الهجر والخذلان ، فإن قلبي مازال عامراً بصورتها الفاتنة ، وصوتها الرقيق ، ورنّتهِ الآسرة التي تتهادى على أوتار فؤادي ، كما تتهادى قطرات الندى على الأزهار والورود .
وإذ يرسم نثيث المطر على الأرض وجه ليلى مبلّاً ، فإنما هو يرسم حلماً ممتداً لا آخر له للقائي بها ، حتى لكأنّ ذلك الودق حين يخرج من خلال سحابة تشتدّ ولا تهون ، فكأنما هو تمثيل حقيقيّ عما يدور في ثنايا روحي وهي تشتدّ ألماً ، وتبذل صبراً ، وترقب أملاً ، وتنتظر معجزة .
قال : – ياولدي … وما عليكَ إلا أن تنتظر من السماء معاجزها ، وترقب في الأرض ركائزها ، فلا شيء يحيل حجر المرأة التي بين أضلاعها الى قلب سوى معجزة .
وإني لأعلم أن ألم العشق ولذّته يمتزجان فيكَ سوياً حتى لَتخالَ  أن أحدهما مكمّل للآخر ، وهو ما لايحدث عند غيركَ من العشاق .
قلت : – صدقتَ ياسيدي ؟ إن غيري لَيشعر بالفرح حين يرى معشوقته ، ويحس بالحزن حين تهجره .
وأما أنا فإني  أشعر بكلا الشعورين سويةً تجاه ليلى ، اللذة والألم ، حين وصلها لي ، وحين هجرها .
فأمّا شعوري بالفرح حين تصلني ، فلشوقٍ  لها ، وأما شعوري بالألم ، فلخوفٍ من انصرافها عني .
وإني لَآمل أن عقارب الساعة لو توقفت عن حركتها ، وأن الأرض لو سكنت عن دورانها ، وأن السماء لو كفّت عن دويّها ، كي أرميها بسهم نظرات من قوس عينيّ الى عينيها فيجوس هذا السهم بياضها وسوادها بما قَوِيتُ ، ويطوف حول أهدابها بما تسنّى لي ، ويستنجد بأجفانها بما وسعني ، ويغازل أطرافها بما  أمكنني ، فلا شيء يضاهي سروري برؤية عينيها إلا خوفي من بعادهما عني .
قال : – إن حصيّاتيَ السبع أخبرتني أن ليلى الآن  كحبةِ زيتونةٍ ، زرعها رجل بأرض غير أهلها ، فتجذرت جذورها ، واستوت سيقانها ، وامتدت فروعها ، عرقاً بعد عرق ، حتى إذا كملت شجرةً ، وهبّت الريح العاصفة ، لم تشأ تلك الشجرة أن تُقتَلَع حتى وإن كانت في أرض غير أهلها  ،  رغم أنها تتمنى أن تغرسها أنتَ  بكلتا يديكَ في  أرضكَ ، فهي تراكَ في قلبها سلسبيل عشقٍ لا ينفد ،  وكذلك ليلى فإنها نبتت في بيت زوجها ، واستوت في سنواتها معه ، وامتدت فروعها بأولادها ، حتى اذا كملت عائلتها تلك لم تشأ ان تتركهم وتأتيَك ، لأنها تجذرت فيهم جذورها حتى وإن كانت تتمنّاكَ طوال حياتها ، وتحلم بك في كل ليلة ، فإنها غير قادرة على تركهم والمجيء إليك .
قلت : – سيدي … وايمُ الله … إنني لأعشقها بكل خلية من خلاياي ، حتى إذا هجرتني ، صرختْ تلك الخلايا نادبة نفسها ، وهي تتلوى من ذلك الهجران ، فتضجّ الى كل قطرة من دمائي كي تنقل ذلك الثكل الذي أصابها الى قلبي وكبدي وأضلاعي ، حتى إذا بلغ اللحمَ والشحمَ والعظمَ هاجت خوفاً من الذوبان ، وارتجّت مثل آنيةٍ تكسرت بين يديّ طفلٍ مشاكس ، واستولى عليها اليأس من كل جانب كما يستولي النعاس على أعين الناس فتغفو شاءت أو أبَت .
قال : –  إن الهجر ياولدي هو وجع ما بعده وجع ، وقسوة مابعدها قسوة ، وأكاد أجزم أن ليلاكَ تملك رقة لا تعلوها رقة  رغم قساوتها عليك  ، وحناناً لايرتقيه حنان  رغم مكابرتها لك .
وإن أسباب هجر ليلى لك قد كثرت وتعددت ، حتى حيلَ بينها وبين خياراتها للوصل إليكَ ، فما كان لها إلا أن تكون مجبرَة في خيارها على هجرٍ لك بعد وصل ، وقسوة عليك بعد رقة ، ومكابرة فيك بعد وئام  .

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!