ليلى … وحكاية الألف (ليلة الفصل الخامس عشر والأخير )

عبدالباري المالكي

لاحظ الطبيب أني لستُ على ما يُرام ، فقد رشح جبيني وسكن أنيني وأنا أمدّ يدي تحت القميص على صدري من جهة قلبي  ، فلما رآى الطبيب يدي  حيث أصابعي تتحرك ، فتح أزرار القميص فوجدني أمرّرها على جرح لم يندمل ، ومازال نديّاً للآن .

كان ذلك منذ سنوات …
حين صرخت أمي صرخة عالية وقد رأت دماً ينزف من صدري من جهة القلب ، فقالت بصوت عالٍ وهي خائفة جداً :-
ماالخطب يايوسف ؟
قلت :- لاتخافي ياأمي ، ثمة جرح بسيط جاء خطأًً مني بموسى الحلاقة .
قالت :- ياولدي ، ماذا جرى لك ؟ … ماالأمر ؟
أي حلاقة في القلب ؟
لاادري ياولدي لماذا اشعر أنك لستَ بحال جيدة .
وإنما نحن منكَ بين حالتين اثنتين :-
الإشفاق عليك مما فيكَ مما لا نعلمه ، والخوف عليك أن تؤذي نفسك لأمر لا نعرفه  ، فما الخطب يابنيّ ؟
قلت :- أمي … لاشيء يستوجب الخوف علي ، إطمئني كثيراً .
قالت :- كيف أطمئن وأنا أشاهد بأمّ عينيّ ولدي الحبيب وقد جرح نفسه متعمداً بسكينٍ ذات شيفرة حادة جداً ، ولدي الوحيد الذي أنجبتُهُ بعد دعاء عريض لسنواتِ عقمٍ مضينَ ، ثم احتضنتُه وأنشأته بين يديّ ، وكنت أراقبه عن كثب ، حتى إذا صار شاباً ، ونضج ،  رأينا منه العجب ، ولا نعلم مابه ؟
فيا ولدي العزيز ، وروحي التي بين جنبيّ ،  أستحلفك بالله … أخبرني لمَ فعلتَ ذلك ؟ ولأجل مَن ؟
إن أباك لا ينفكّ عن سؤالي عنك كل يوم ، إذ يشعر بكَ وأنتَ تعيش ألماً لاندرك نحن كنهه ؟
أخبرني…. أتعشق يايوسف؟
ومَن هي هذه الفتاة المحظوظة التي تعشقها ؟
أتحبها لهذا الحد ؟  مااسمها ؟
أخبرني … وسنزوجها إياكَ مهما كلّفنا الأمر .
كنتُ على موعد مع ليلى في ذلك الوقت ، فتعجّلتُ في أمري وقد ابتسمتُ لأمي وقلت لها :- حسناً ، سأخبركِ بكل شيء في حينهِ يا أمي العزيزة .
هربتُ من أمي بسرعة ، ورحت أمرّغ منديلاً أبيض بالدم النازف من صدري ، إدخرته لليلى ،  وأخرجتُ من أحد أدراجي زجاجة العطر التي نويتُ أن أهديها لليلى في ذلك اللقاء المرتقب ، ولم أكن أعلم أنه سيكون اللقاء الأخير …
بعد ساعة … إلتقيتها …
كانت ابتسامتها أشبه بنار تستعر بقلبي وهي تمدّه بأشعة لهيبها دون أن تفكّ أواصرها منها ، فلا تخبو فيه ، وكلما حدّقت بي بعينيها زادت نارَه حطباً… وصاح :- هل من مزيد ؟
شعرتُ حينها وكأن الجنة ذاتها تمثلت عندي الآن في ليلى ، وأنا أقف على أبوابها ، أرى أنهارها وحدائقها ، أتمعن بممالكها وقصورها ،  وأنتظر الإذن بالدخول إليها ، فإن أُذِنَ لي كنتُ من الفائزين .
وأنا أقف قبالتها … كنتُ كمن ينتظر أن يُسقى من رحيق مختوم … ختامه ليلى .
كنتُ على يقينٍ أني عاجز تماماً عن لملمة أحرفي ، واستحضار كلماتي ، وكيف لا أعجز ؟ وأنا في حضرة حوريةٍ استأذنت النزول الى الأرض ، لتصبيَني ، فيغشاني منها ما يغشى ، فأعيش فيها بين اثنينِ :-
لهفةِ اللقاء .
والعجزِ عن البوح فيه .
قلت لها :- ليلى … ماالجدوى أن يكون العشق مخبوءاً في حنايا الصدر دون ان يفتح العاشق لمعشوقه نوافذ قلبه وأبوابه ؟
قالت :- صدقت يايوسف … لا جدوى ، لكن ماالمناسبة لهذا السؤال ؟
قلت :- أترين هذا النزف في صدري من جهة قلبي ؟
صرخت ليلى وقالت :- ماهذا يايوسف؟ أأُصِبتَ بسوء ؟؟
قلت :- لا … لكني أردت ان يكون بيننا موثق  أمام الله تعالى وأمام قلبينا … فمنحتُكِ دماً من صميم قلبي ليكون شاهداً عليّ
أني أعشقك حد الجنون ياليلى ، وأني لن أخون عشقكِ ، ولا أتزوج سواكِ ما حييتُ ، فأحدثتُ في  صدري جرحاً بليغاً لتعرفي مقدار عشقي إليكِ ، وليشفع  لي هذا الجرح عند الله يوم  الحشر … ياراهبتي الجميلة والجليلة .
ثم أردفتُ القول لها ، وقلت :-
ليلى … إنه ورغم المسافات التي تفصلكِ عني ، فإني أجدني بالموضع الذي أنتِ فيه ، فوالله إني لأشعر بحرارة أنفاسكِ بين يديّ وأنتِ في مسكنكِ ، وأشعر بخصلات شعركِ الأشقر وهي ترفرف على وجهي رغم بعدكِ ، فلا يزيد ذلك إلا إحتراراً في  الكبد ، ولا ينقص من قلبي شيئاً من  الكمد ، فلا موضع إستئناسٍ لنفسي تألف فيه ، وتولَع به  سواكِ ، ولا منبع لخيالاتي إلّاكِ .
قالت :- ويح قلبي يايوسف ، كيف فعلتَ ذلك بنفسك ؟ وشققتَ صدرك لأجلي ؟ فما أجملني بك  ، وما أشد خوفي عليكَ .
أمَا والذي فلق الحبة يايوسف لن أجد رجلاً مثيلاً لك بهذا النبل وهذه المروءة ، أمَا والله … لا امرأةَ أسعد مني الآن وذلك لِمَا وجدتُ من رجولة فيكَ وشهامة لا تضاهَيانِ  .
قلت :- ليلى … أنتِ الجمال كله ، فلا لون عندي أجمل من لون عينيكِ ، ولا طعم أشهى من طعم شفتيكِ ، ولا طيبَ أزكى من طيب رائحتكِ ، ولا لذة لي الا بوجودكِ .
وقبل أن أهديها زجاجة العطر ، أخرجتُ  منديلي الممرّغ بالدم ، وأهديته لها ، فكان الجرح والمنديل أصدق شاهدينِ على عهدٍ لا ننكثه ، ووفاءٍ لا نخونه .
ثم راحت ليلى تقلّب المنديل وتقبّله ، وهي تذرف الدموع ، لِمَا رأته مني من صدقٍ في المشاعر ، ونبلٍ في العشق .
ومنذ ذلك الحين والى الآن مازال هذا الجرح يعبق برائحة الوفاء والعهد القديم .

قال الطبيب :- آآآهٍ ياولدي ، إن جرحكَ مازال ندياً ، وكأنكَ اليوم قد أحدثتَه في بدنكَ .
قلت :- نعم ياسيدي … فإني أجدّد هذا الجرح ما بين آنٍ وآنٍ ، فتجديد البيعة لعشق امرأةٍ مثل ليلى واجب على رجلٍ عاشقٍ مثلي ، فالعشق ياسيدي هو أعلى درجات السموّ ، يسمو به العاشق حتى يتحوّل ذلك العشق عنده الى مَلَكةٍ راسخةٍ في نفسي .
قال :- صدقت ياولدي ، فالعاشق كزهرة لاتنمو دون ان تضفي عليها الش العاشق ، ويهبه القدرة على تحقيق ذاته في ذاته .
قال :-  ياولدي … ألا يكفيك جرح واحد ليكون عهداً ثابتاً أبدياً منك الى ليلى؟
قلت :- لا ياسيدي ، من اليقين إنه لا يكفي ، إذ إنه لا يفي بالمراد نفسه . فكما يعرف جنابك … إن الخلايا تتآكل وتتحاتّ من وقت لآخر ، وتتجدد خلايا غيرُها في موضعها ذاته ، فالخلايا التي انجرحت في جرحها الأول قد ذبلت وتلاشت وانقضى عهدها ، ووجب على الخلايا الجديدة أن تعقد البيعة لليلى ، وتجدد طاعتها لها بدمٍ عبيط ، وجرحٍ نديّ … وهكذا دواليك تضمر وتتلاشى الخلايا القديمة ، وتنبت وتنمو خلايا غيرُها بين وقت وآخر .
قال :- أرى أن في جرحكَ النديّ صورة الوجد الذي يغوص في فؤادكَ ،  فإذا أنّ هذا الجرح كانت فيه شهقة روحكَ ، وزفرة أشواقكَ .
قلت :- سيدي … إنه العشق الذي نزل بساحة قلبي حتى نَحتَ صورة ليلى فيه ، فأصبح الشوق أشد إيلاماً بي مما يُتصوَّر ، فقد كان يبثّ بي أوجاعه ، حتى نخر عظمي وهرّأ لحمي ، فلما هجرتني ليلى نزعت ما تبقّى فيّ من عافية ، وتركتني قطعة من الجمر اشتعلت ، فتحولت الى كومة من الرماد تلتهب ولا تخمد .
قال الطبيب :- إن أعجب العجب فيكَ ياولدي إنك تعلم أن العاشق لايجني من ثماره سوى الجنون أو الموت ، وتأبى إلا أن يُحتسَب ذلك فيك ، وتصرّ عليه ، وهاهو الجنون بذاته قد أبرأكَ من علةٍ هي متجذرة فيكَ ، فتجذّر هو بكَ ، ولا أظن بإمكاننا ان نستأصله منكَ .
قلت :- ولَعمري ياسيدي … إنه في ليلى ، يكون العشقُ لا إسرافَ فيه وإن أسرفتُ ، والوحشةُ لا خبالَ فيها وإن خبلتُ  ، والخيالُ لا توهّمَ فيه وإن توهّمتُ ، والحقيقةُ لا إدراكَ لها وإن أدركتُ ، والجمالُ لا غاية له وإن إليه وصلتُ  .
فإن ليلى عندي كالسماء تكاثرت فيها النجوم ، وتعددت كواكبها ، وتعسر عليّ معرفة الأجمل فيها من غيره .
فبوجهها فاض الشعر مني ، وفي عينيها قامت رسائلي الخمسون ، فتفتّقت في ليلى قريحة كل عنصر من عناصر الحياة عندي ، بتوافقاتها وتناقضاتها ، فلكأنّ الله تعالى خلق ليلى لتلدَ الجمال كله ، ويورثَني التَيه كله .
قال الطبيب :- إذن … فاعلمْ  ياولدي … أنك دخلتَ دنياك التي تنتظركَ ، دنيا الجنون ، حيث وجدتَ نفسك فيها لا في سواها ، فكن فيها ذلك العاشق المنقطع في الفلاة ، لا يرى لنفسه بها إلا عزّاً ،  ولا يعرف منها إلا أماناً ، وتزوّد من الوحدة فيها تزوّدكَ من الطعام ، وسِر وحيداً وأنت تفتش عن ليلاكَ ، لا يعينكَ في ذلك إلا قدماكَ الثقيلتانِ ، ولا يهديكَ إلا فؤادكَ المكلوم .
فلا حقيقة تستأهل البحث والتنقيب عندك سوى عشق ليلى .
واعلم ياولدي … أن الناس سيشيرون إليك بأصابعهم ، لأنهم يدركون جيداً أنك مجنون ، تلوذ بالصمت طريقاً لحياتك ، وهم فيك منشغلون ، فلا تأبه لغمزِهم ، ولا لِلَمزِهم ، ولا تنتبه لإشاراتهم إليكَ ، فأنت وإن جننتَ حقاً ، فإنكَ ستخبرهم بما بصرتَ به صدقاً ، فالرائد لايكذب أهله .
وأمِت جميع الناس في قلبكَ إلا ليلى ، فهي الحاضرة الغائبة فيكَ ، ولا تيأس من غايتكَ ، وإن قلّت حيلتكَ ، ولا ترتعب من عمرٍ يمضي ، ولا ترهب من قضاءٍ يقضي .
فاخرج الى ساحة العشق في الفلوات ، وناجِ ربك في كل الصلوات ، وابحث عن ليلى عساك تراها قبل الفوت ، واسال الله ان تلقاها ولو على فراش الموت .

ثم قام الطبيب من مكانه بكل حزنٍ وأسفٍ ، وأومأ إلى والديّ ، فهمس إليهما همساً خفيفاً ، طرق مسامع أذني  :-
العزاء لكما بولدِكما … فلا أمل في شفائه من الجنون ، وعلى الله المُعوَّل في الشدة والرخاء ، ولاحول ولا قوة إلا بالله العليّ العظيم .
بعد شهرينِ اثنينِ … كان والداي يذويانِ كما تذوي الورقة في الضريم ، حتى توفّي أبي لِمَا كان فيه مني من جزعٍ وجوىً ، ولم تعِش أمي بعده إلا أياماً قليلة ، إذ كانت في تلك الأيام أقرب الى الميت منها الى الحيّ ، لِمَا حملته هي من حرقة قلبٍ وكدَر .
وبقيتُ في هذه الدار وحدي لفترة قليلة ، حتى إذا لم آلفها في وحشتي ، ولم أرَ منها صاحباً لي ، وعرفتُ أنْ لا مقرّ لي فيها ، فررتُ بنفسي الى الطرقات ، أدور بين الأحياء والأزقة ، وأتجوّل في الشوارع المظلمة ، أفتش عن ليلى في ليلٍ داجٍ وفي نهار مشرق ، في شتاءٍ قارسٍ وفي صيفٍ قائظٍ ، أبحث عنها في وجوه الناس ، وفي نور القمر وضوء الشمس .
ومنذ ثلاثين سنة … وأنا أتخذ من الجنون خِلّاً ، ومن الوحدة نديماً ، فقد عهدتُ على نفسي أن أستقصي أخبار ليلى في كل أرضٍ ماحييتُ ، وأتحرّى عن مكانها مااستطعتُ ، فطفتُ العالم بأسره ، مدنِه وقراه ، شرقه وغربه ، عرَبِه وأعاجمِه ، وأنا أنادي بين الناس :-
(أين أنتِ ياليلى …؟ هلمّي وانظري إليّ …
فإنّهُ لَيعِزّ عليَّ أن اخبركِ أنْ قد احدودَبَ الظهر ، وبَليَ العظم ، وهزلَ الجسد ، ويبسَ الجناب ، وذبلت النضارة ،  وضعفَ البصر ، وصُمَّ السمع ، وقلّت الحيلة ، وخارت القوة ، وشاخَ الشباب ، وغارت الأحداق ، وكثرت العِلَل ، وزادت الأسقام ، ودالت الأيام  وتعاقبت السّنون ،  وتولّى ربيع العمر ، وحلّ خريفه ،   ولم يبقَ بي من ذلك العاشق إلّا اسمهُ ، وفؤاديَ الملتهبُ شوقاً لرؤيتكِ وسماعِ صوتِك ) .
ومنذ ذلك الحين … والى الآن …. لم أجد ليلى .

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!