ليلى … وحكاية الألف ليلة ا(لفصل الرابع عشر) بقلم: عبدالباري المالكي

بعد شهرٍ تقريباً … صاحبت حرارتي المرتفعة بعض الأعراض النفسية التي انتابتني بعدئذٍ ، والتي ولّدت شكوكاً لدى والديّ بسلامة عقلي ، وإصابتي بالجنون .
فخلال تلك الفترة …  كانت هيئتي وتصرفاتي اليومية تثير القلق لدى أهلي الذين كانوا لا يتورّعون عن إبداء شكوكهم سرّاً وعلانية  ، إذ كانوا يرجّحون أنّ طائفاً من الجنون قد مسّني ، ولم يفصل عن يقينهم هذا سوى أن يتأكدوا من ذلك بدليل جليّ .
إذ أصبحتُ أشعثَ الشعر وطويله ، كثَ اللحية ، غير مهندَم بملابسي ، فضلاً عن أنها جدّ ممزقة ، غير آبهٍ بشيء من ذلك القبيل ، مغايراً لِمَا كنتُ عليه في السابق .
وإضافة إلى ملبسي ، كان مأكلي ومشربي كذلك .
إذ لم أكن أطعم إلا القليل ، حتى إني أفوّّت طعام وجبة أو وجبتين على معدتي كل يوم ، ولا أشرب إلا ما يسد رمقي ،
رغماً عني ، لأني لا أشعر بشهية الأكل  .
كنتُ حينئذٍ قليل النوم ، سارح الفكر ، صامتاً على كل حال ، وإن تكلمتُ فإنما أكلّم ليلى في نفسي فحسب .
ثم إني كنتُ لا أنفكّ عن كتابة رسائلي لمعشوقتي ليلى ، الواحدة تلو الأخرى ، دون أن أشعر بقليلِ كللٍ ، ولا بطفيفِ مَللِ ، إذ كان يُخيَّل إليّ أني أرسلها عن طريق هدهدٍ خاص يلقي كتابي إليها كل يوم وكل ليلة ، كما كان يفعل  هدهد سليمان عليه السلام لبلقيس ملكة سبأ  .
وفي خضمّ تلك الأمور التي أحاطتني ، لم أكن أعبأ بقلق والديّ عليّ ، بل لم أكن أدري بما يرون مني ، ولا ما يسمعونه .
غير أن تلك الساعة كانت هي الحد الفاصل بين شكوكِ أبويَّ ويقينِهم .
ففي تلك الساعة … دخلت ليلى عليّ وأنا في غرفتي دون سابق إنذار ودون أن تطرق الباب ، في اللحظة التي كنتُ أتمنى زيارتها لي بفارغ الصبر .
وحين رأيتها … قمتُ لها إجلالاً ، وانحنيتُ لها إكباراً ، فمثل ليلى يجب على مثلي أن يقوم وينحني ، وأن يستقبلها كما يستقبل الأمراء نظائرهم .
وكنت  أغضّ البصر عنها كما يغضّ العامة أبصارَهم عن أميرتهم  حين تجوز بين الصفوف ، فأجلستها قبالتي كما يجلس الوافدون ، ورحتُ أرحب بها ، وأسألها عن حالها ، وأسترق منها نظرات العشق التي أذابتني بين يديها .
وكما هي عادة المستقبِلين … أعددت لها طعاماً وشراباً خاصينِ بأرباب الجلال والجمال ، ولم أسبقها في لقمةٍ حتى تمدّ يدها هي ، ولم أشرب من كأس حتى تشرب هي .
وتوالت أحاديثنا … وتطرقنا الى عشق لم يُخبَر به أحد ، ولم يُبتلَ به أحد بمثل ما ابتلِينا به نحن .
بعدها توالت ضحكاتنا وقهقهاتنا التي كانت ترجمة حية وصادقة  لأعيننا ، وما يجول في أفئدتنا .
وفي ذلك الوقت … ونحن في أشد حالاتِنا رومانسيةً ، وساعاتِنا حميميةً … دخل والداي بغتةً الى الغرفة وكأنهما كانا يراقبانني عن كثب ، فيشاهدان ما أفعل ، ويسمعان ما أقول .
لم تستطع أمي أن تكتم صرخة عالية أطلقتها ، وسقط أبي على ركبتيه جاثياً وهو ينوء برقبته من الذهول والحيرة . وحين رأيتُ ذلك المشهد الذي هما فيه ، أشفقتُ عليهما جداً لما رأيتُ ما بهما من شدَهٍ ، فسألتهما أن يدنوا منا ويسلّما على ليلى التي طويَت القفار لأجلي ، لكني حينها أشفقتُ على نفسي أضعافاً مضاعفة ، إذ عرفتُ أن لا وجود لليلى معي في غرفتي ، وإنما كان وهماً محضاً بدأتُ أعيشه من فرط ولَهي بها ، وبالقدر الذي حزنتُ فيه  على والديّ ، كنتُ بنفس القدر قد تيقنتُ أنني قد جننتُ لا محالة .
إحتضنتني أمي بكل قوة ، وهي تذرف الدموع بلا توقف ، وأبي كان يعيش حالة انهيار لا مثيل لها بسبب جنون ابنه الوحيد الذي انتظره لسنواتٍ كي يشبّ بين أبناء المحلة ، فيزفّه الى عروسه بيديه .
ولقد رأيته يلطم على رأسه وهو يقول :-  الآن قد تيقنّا من جنون يوسف .
لا أستطيع أن أصف لكم — أيها السادة — تلك الساعة التي تيقّن فيها والداي من جنوني ، وهما يحاولان أخذي الى أحد الأطباء النفسيين … كما لا يسعني أن أصف لكم أيضاً حالة الخوف التي اعترتني من أن قد أساق بعد ذلك الى مشفى المجانين ، فتنقطع بي السبل عن رؤية معشوقتي الأبدية ليلى ، لاسيّما أن والديّ وجدوا رسائلي تحت وسادتي ، وهي التي ظننتُ أني قد أرسلتها الى ليلاي بأجنحة الطير الساربة كل نهار وليلة . فأجهشت أمي بالبكاء ، وعلا نحيبها وهي تقرأ إحدى تلك الرسائل على مسمع أبي الذي لم يعد يعرف طريقاً للخلاص مما أنا وهو فيه :-
(أميرتي النبيلة …
ولقد أرسلتُ إليك ِ رسلاً تترى …
فمنهم من أوجزَ فأبلَغ ، ومنهم من اجتهدَ ففصَّل ،
ومنهم من ألقى كتابي وتولّى ، ومنهم من جثا على ركبتيه وانتظر .
فما كان من أمركِ إلّا أن قابلتِهم بالصمت ، وازدريتِهم باللّمز ، وكأنّي ما أرسلتُهم إليكِ  ، ولا كتباً ألقيتُ عليكِ ، ولا بأحرفي إيّاكِ عنيتُ ، فلمّا طال بقاؤهم بين يديكِ من دون طائل ، وزاد مكوثهم في مجلسكِ من  غير نائل ،  همّوا بالعودة مسرعين ، يخبّون الصحراء خبّاً ، ويستهدون بأنجمها شرقاً وغرباً ، فلما علمتُ بقدومهم ، استقبلتُهم على أبواب مدينتي شوق الظامئ لقطرةِ مطر ،  تعجّلاً منّي  لمعرفة جوابكِ ، وأمَلاً  عندي في ريحِ ثيابكِ ، ولقد أذهلَني أنّهم جميعاً عادوا خالي الوِفاض .
والسلام …)
في اليوم التالي كان لنا موعد ضربه لي أبي مع طبيب نفسي حاذق في شارع (المغرب) في بغداد .
إنتظرتُ مع أمي في صالة العيادة ، ودخل أبي بمفرده غرفة الطبيب ، وقد أخبره عني كل شيء ، على أملٍ منه أن يمنحني الطبيب جرعة دواء ، تعيد لي سابق عقلي الذي ضاع .
بعد فترة قصيرة … أدخلوني على الطبيب .. فأجلسني هو على السرير الخاص بالمريض بكل احترام ، وجلس قبالتي …
قال لي الطبيب :- إذن … أنت تعشق ليلى … فدعني أسألك أيها العاشق  ، لماذا عشقتها الى هذه الدرجة من الهيام ؟
قلت :- ياسيدي … لأنها ليلى … ومثل ليلى لا تتكرر في دهرٍ مرتين .
قال :-  ألم يكن بالإمكان أن تعشق امراةً غيرها ؟ لاسيّما أنها  هجرتكَ ياولدي .
قلت :-  ياسيدي … إن ليلى هي جميع النساء ، فلا امرأة تكون دون أن يكون فيها من سحرها شيء ، ولا لها أن تطيب دون أن يكون لها من عطرها عبَق .
قال :- وهل تعشقكَ هي ؟
قلت :- لم يعد مهماً أن تعشقني هي أو لا  …
نعم ياسيدي … كنتُ في ما مضى أسأل نفسي وأصحاب الحكمة والخبرة عن عشقها لي ، وكنتُ أمضي سنواتي بالحيرة والخوف ،  إذ كنتُ أفتش عن برهان يريحني ، ويطيّب خاطري ، ولم أحصل على جواب مقنع ،  ، حتى تغلغل عشقها في دمي ، ونفذ في كل جزيئاتي ، فلم أعد قادراً على أن أتقي عشقها ، ولا أن أتنحى عنه قيد أنملة .
قال :- يبدو أنك عاشق لا كغيركَ من الرجال ، دفقتَ عشقاً .
ولا هي كغيرها من النساء تجلّت حسناً .
فكما يبرع الصائغ في صياغة قلادةٍ ما ، فقد برعت الحياةُ في جمالها ، وأبدعت في عشقكَ .
قلت :- صدقتَ ياسيدي ، لقد خامرت أزهار الربيع قلبها ،   وعاشر نور القمر وجهها ،  وصاحبت قطرات المطر روحها ، فطهرت هي بأشعة الشمس ، حتى إذا بلغت مبلغها من النضج ، إشرأبّ لها عنقي رجاءَ الوصول الى ذلك النبل والطهر الذي فيها .
قال :- إن الأشواق لترتوي من حسنها ، فتنبت في قلبك النبيل ،  فإذا سقطت قطرة من تلك الأشواق في نبعٍ ما  ،  إنفجرت منه اثنتا عشرة عيناً ، من حيث تدري ومن حيث لا تدري .
قلت : – وكيف لا يكون ذلك ياسيدي …؟
فليلى لا تغيب عن ناظريّ ، فأينما أولِّ وجهي في هذا الفضاء الوسيع فثمّةَ تجليات لها فيه .
قال متعجباً : – تجليات لها  ؟
قلت :- نعم … تجلّياتها في كل زاوية من زوايا هذا العالم … في سمائه ونجومها ، في شجره وأوراقها ، في أبحره وأمواجها، في أرضه وباطنها ، في ناره وأوارها ، في النفس وأسرارها ، والطيور وأعشاشها ، والعصافير وزقزقاتها ، بل هي في كل حجرٍ ومدر .
قال :-  فأين تجد وجهها ؟
قلت :- إني أنظر الى السماء فأجدها مرآة لوجهها ، وأرى القمر تجلٍّياً لنور ذلك الوجه ، حتى كأن النجوم قد تناثرت كحبات لؤلؤ على جيدها فانعكست أنوارها على  جميع الكائنات وهي ترى ذلك الانعكاس بكل تجلٍّ .
قال :- وأين تجد شفتيها ؟
قلت:- أراها متجلّية في  ورود الأقحوان بألوانها المتعددة .
قال :- وأين تجد أجفانها؟
قلت :- متجلّية في أزهار البنفسج .
قال :- ووجنتيها ؟
قلت:- متجلّيةً في حمرة الشفق .
قال :- وخصلات شعرها ؟
قلت :- أراها متجلّية في سنابل القمح الصفراء .
قال :- وبراءتها ؟
قلت :- في أزهار الياسمين البيضاء .
قال :- ومَيسها ؟
قلت:- متجلّياً في الظباء  .
قال :- وغنجها ؟
قلت :- متجلّياً في تبختر الطاووس .
قال :- وأين تجد نرجسيتها ؟
قلت :- متجلّيةً في أزهار النرجس  .
قال :- إذن شغلتكَ ليلى بأثيرها عن كل الآفاق ؟
قلت :- نعم ياسيدي … فما رأيتُ الشمس إلا تجلّياً لروحها المتوهجة ، وما وجدتُ نسيمَ الهواء إلا تجلّياً لشفافيتها ،
والمطرَ إلا تجلّياً لندى شفتيها ، والسحاب إلا تجلّياً لما تضمره من خير للناس ومحبة ، ثم إن جريان الأنهار هو الآخر تجلٍّ لهدوئها .
قال:- وماذا جنيتَ من هذه التجلّيات أنتَ ؟
قلت :- رأيتُ وجهها في  الفجر ، فأخذتُ منه بريقاً ما لا يخبو فيه فؤادي ، ووجدتُ شبابها في الربيع الأخضر ، وقد أخذتُ منه وهجاً ما لا أشيخ به أبداً ، وقد حوّطني عشقها من كل جانب فمنحتني هي منه ما أروي به ذاتي مادمتُ حياً ، فكأنّ النار المضطرمة انعكاس لعشقها .
ولا أكذبكَ ياسيدي … لو أخبرتكَ أن الذهب المصفى قد تكوّنَ من معدنها الأصيل ، والفضة قد صيغت من نقائها ، حتى هالني من أمرها مالم أتمكن من تفسير ولا تأويل مفاتنها .
قال : – حسبكَ ياولدي … فقد أخذت ليلى منك كل مأخذٍ ،  واستوت على فؤادك كالقصاب حين يستوي على جسد ذبيحته لينحرها وهي مستسلمة لسكّينه .
قلت : – نعم ياسيدي ، لقد استوت ليلى على قلبي وكل جوارحي ، واستوت على روحي وجسدي ، فلا حيلة لي منها ، ولا طاقة لي عنها .
قال :- أي فؤاد ذلك الذي تضمه بين أضلاعكَ حتى أهالكَ الى جمرة من الفحم ناطقة ؟
قلت : –  لا مناص لي من الفرار .
قال :- فمتى تهجع ياولدي ؟
قلت :- إني أجد هجيعي من الخيالات المستحيلة عليّ ، خلاف أولئك العشاق الذين  يجدون هجيعهم خيالاتٍ  ممكنة ، حتى أصبحتُ وأمسيتُ لا أرى سوى ليلى ، فلا سِنة تأخذني حتى يزورني طيفها ، ولا كرى ينتابني حتى يفيقني صوتها ، فما لي من نصيب من الرقاد ، سوى الأرق والسهاد ، حتى أُحِلْتُ الى إهابٍ متفحم لا يضمّ إلا أضلاعاً متجمرة .
قال :- ياولدي … ليتني أملك بساط الريح ، فأستقلّه ، فيمضي بي سريعاً كالبرق الى ليلى ، فآتي بها إليك ، تنعم بما فيها من جمال ،  وتتلذذ منها بالأجمل .
قلت :- إنها عندي مثل قطعة ماسٍ ، لا شيءَ فيها أجمل من شيء .
قال :-  أهي رسالتك الفريدة العارفة بأسرار كلماتكَ ؟
قلت :- نعم … فما رسائلي المكتوبة تلك إلا مجرد دواة تُخَط في قرطاس .
قال :-  فما أظنها — ياولدي — إلا أنها  قد حكمت على قلبكَ بالشقاء ما حيِيَ ، وعقلكَ بالجنون مادام ، وجسدكَ بالفناء مابقيَ .

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!