محو .. (قصة قصيرة) بقلم الأديب السعودي – محمد سعيد الراشدي

لصحيفة آفاق حرة:

ــــــــــــــــــــــــــــ

 

محو..

قصة قصيرة

 

بقلم – محمد سعيد الراشدي

 

في درس الإنشاء خالف المعلم ظنون الدارسين. التعاون، بر الوالدين ، أضرار التدخين، وصف رحلة …؛ موضوعات دارجة ومحتملة. لكن المعلم لم يختر شيئا من ذلك، وكل الذي فعله حين دخل الفصل صباحًا أنه رفع ممحاة السبورة بيده حتى رآها الجميع، ثم انصرف إلى السبورة وكتب: كيف قضت ممحاة السبورة ليلة الأمس في المدرسة؟!. ثم أخمد الدهشة والتساؤلات بأمر قاطع: اكتبوا إجابة لهذا السؤال.
وعند تصحيح الأوراق في المساء؛ عثر المعلم على الإجابات التالية:
-الورقة الأولى:
قضت ممحاة السبورة ليلة البارحة كما قضت الليالي السابقة، ومثلما ستقضي الليالي القادمة؛ فالممحاة التي تنفق النهار في المحو، تستعيد في الليل كل السطور التي قامت بمحوها، ثم تفك اشتباكات الكلام في ذاكرتها ، وتعيد تنضيد الحروف والأرقام والرموز والخطوط والأشكال الهندسية وتنظيم الجمل، وتقسم المواد في ذاكرتها بطريقة تشبه الجدول الدراسي. ولأن هذه العملية شاقة جدا؛ فإن الممحاة تخلد للنوم قليلًا قبيل الفجر لتستعيد عافية المحو في اليوم التالي!
-الورقة الثانية:
الممحاة تقضي الليل كله في السعال!
ذرات الطباشير التي تتكدس في رئتيها تخنق أنفاسها.
في النهار تكابد الممحاة كثيرا من الوجع والاختناق لكنها تكتم السعال وتقاومه حتى لا تشتت سكينة الدارسين.
لست متأكدًا إن كان سعال الممحاة يشبه سعال جدي الذي قضى بالسل، لكنه سعال مثقوب الرئة، وأظننا سنضطر لاستبدال هذه الممحاة قريبا.
-الورقة الثالثة:
الممحاة ترقد الليل كله. وقيل إنها تصلي شيئا من الليل، وتقرأ أورادًا وتبتهل، وتستعيذ من الغفلة والنسيان.
-ورقة ترك صاحبها كتابة اسمه:
الممحاة تتسلل ليلًا لتمحو الأسماء من ذاكرة الورق.
-الورقة الخامسة:
في الليلة الماضية بكت الممحاة بحرقة طوال الليل. شظايا الطباشير المتناثرة في الفصل روت أسبابًا مختلفة لبكاء الممحاة. الطبشورة البيضاء قالت: إن الممحاة تعاني الوحدة حين يغادر الجميع المدرسة. بينما الطبشورة الحمراء تقول: إن الممحاة اتسخت كثيرا وكثيرا لكنها تعجز عن تنظيف نفسها، ولا أحد طبعا يفكر في تنظيف ممحاة. الطبشورة البيضاء المكسورة قالت: الممحاة سئمت المحو وتريد يوما أن تجرب الكتابة!

-الورقة التي ثنى صاحبها زواياها على هيئة طائرة وظل يلعب بها بقية زمن الدرس:
الممحاة تحتضن السبورة وتحكي لها الحكايات طوال الليل!
-الورقة السابعة:
كتبنا الأسامي ومحينا الأسامي!
– ورقة غير مسطرة :
في الليل تستذكر الممحاة ملامحها القديمة بحزن وافر!
الممحاة ضيعت العمر تلاحق الحروف، تطمس تفاصيلها..تجلو ملامح السبورة .. تتعهدها بالمحو الذي يحيل الكلام رذاذًا من طباشير يهيم في فضاء راكد أبدًا.. لكن الحروف تتناسل على الدوام.. وتكثر فوق طاقة الممحاة وشراسة الفناء .. الحروف سرقت عمر الممحاة وملامحها وتفاصيلها لكنها لم تخمد في روحها نهم المحو، والمحو لم يقتل في الكلمات شغف الولادة .. لم يربح الحرب أحد ولم يخسر .. أكلت الحرب أطنانًا من الطباشير وشردت أطنانًا من حطامها في زوايا الفصول .. والسبورة ساحة الحرب؛ وحدها تبتسم بسخرية وتتجدد مع كل كتابة أو محو !

– بقية الأوراق تضمنت إجابة واحدة بصيغ مختلفة: الممحاة جماد!
صبيحة اليوم التالي كانت الممحاة في يد معلم التعبير تمحو عن السبورة سؤالًا ظل معلقًا منذ يوم مضى: كيف قضت ممحاة السبورة ليلة الأمس؟!.

…..

السعودية

عن محمد فتحي المقداد

كاتب وروائي. فاز بجائزة (محمد إقبال حرب) للرواية العربية لعام 2021م. الروايات المطبوعة هي تشكيل لرباعية الثورة السورية. -(دوامة الأوغاد/الطريق إلى الزعتري/فوق الأرض/خلف الباب). ورواية (خيمة في قصر بعبدا)، المخطوطات: رواية (بين بوابتين) ورواية (تراجانا) ورواية (دع الأزهار تتفتح). رواية (بنسيون الشارع الخلفي)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!