مسؤول الضرائب/قصة الروائي مارك توين/ترجمة محمد عبد الكريم يوسف

أتيت إلى هذه المدينة منذ عدة سنوات . وبعد فترة قصيرة لاحظ وجودي رجل أنيق  زارني في منزلي وقال إنه ” المخمن ” . ولأنني لم أفهم معنى تلك الكلمة جيدا قلت له :    ” لم أسمع بهذا النوع من العمل من قبل .طبعا ، يسرني لقاؤك .تفضل بالجلوس ” .

جلس الرجل . لم يكن هناك ما نتحدث عنه ولم أعرف ماذا أقول . لكن فكرت للحظة أن الناس الأغنياء الذين يعيشون في منازل كبيرة يجب أن يتحدثوا بود ولباقة مع كل الناس . ولكن في حقيقة الأمر لم يكن هناك ما يمكن أن نتحدث عنه . أخيرا  سألته : ” هل لديك حانوت في الجوار ؟ ”

أجابني الرجل : ” نعم . لدي حانوت “.

لم أرغب أن أظهر كمن لا يعرف شيئا . كان أملي أن يقول لي شيئا عما يبيعه في حانوته . لكنه لم يفعل . وبعد فترة صمت قصيرة  سألته : ” كيف التجارة ؟ ” .

أجابني الرجل : ” جيدة ” .

تابعت قائلا : ” يشرفني أن أزورك في متجرك . إن أحببت تجارتك . سأتعامل معك دوما”.

رد قائلا : ” أعتقد أنك ستحب مكان تجارتي ولن تتعامل مع أحد آخر غيري . لم أصادف قط أي شخص  ذهب وتعامل مع شخص آخر  له نفس نوع تجارتي بعد التعامل معي  ولو لمرة احدة ” .

تأملته قليلا ورأيت أنه كان متأكدا مما يقوله . كان هناك شيء غريب على محياه . لكن فكرت للحظة أن ذلك قد يكون شيئا طبيعيا فكل إنسان لديه شيء غريب في محياه وقد لا يكون إنسانا شريفا .

لم اتذكر ما حدث لاحقا  لكن بالتدريج بدأنا نصبح ودودين في تجاذب أطراف الحديث ثم جرى كل شيء على ما يرام .

تحدثنا وتحدثنا  ثم ضحكنا وضحكنا . تحدثت كثيرا وضحك الرجل كثيرا . لكن ذهني ظل متيقظا بشدة طوال الوقت وكنت أنتبه لكل كلمة يقولها . قررت أن أعرف كل شيء عن تجارته رغم أجوبته الغريبة .كنت أحاول أن أنتزع منه المعلومات من دون أن يشعر  أو يشك بما أقوم به . حاولت بشدة أن أستدرجه للإجابة . أخبرته كل شيء عن عملي  وهو أحبني لأنني كنت طبيعيا معه ونسي تكتمه بالتدريج . أحاول أن أعرف كل شيء عن الرجل قبل أن يشك بالأمر . فكرت أن أقول له : ” أنت لا تعرف مقدار ذكاء صديقك الذي تتحدث معه ” .

لكنني قلت له : ” الآن لن تخمن مقدار المال الذي جنيته من حديثي مع الناس هذا الشتاء وفي الربيع المنصرم ” .

أجابني : ” كلا. ليس بإمكاني أن أخمن . دعني أرى ..هات أخبرني .ربما ألفي دولار ؟ لكن. لا .لا .يا سيدي لا يمكن أن تكون حققت هذا المبلغ الكبير جدا . قد يكون المبلغ سبعمئة دولار . ربما ؟  ”

قلت له :” ها .ها. كنت أعلم أنك لن تخمن ذلك . لقد حققت من حديثي مع الناس الربيع المنصرم وهذا الشتاء  مبلغ أربعة عشر الف وسبعمئة وخمسين دولارا . ما رأيك بهذا المبلغ ؟ ”

أجاب الرجل : ” إنه مدهش ..إنه مدهش ..سأسجل المبلغ. أتقول أن هذا لم يكن كل شيء؟”.

قلت له : ” كل شيء ! لماذا ؟ يا سيدي هناك دخلي من جريدة ” وور- ووب اليومية ”  فقد حققت خلال أربعة أشهر مبلغا  يقدر….يقدر ..حسنا.. لنقل ثمانية ألاف دولار. ما رأيك بهذا المبلغ؟ ”

أجابني الرجل ” أوه…أعتقد أن علي أن أحلم أنني أسبح في بحر من المال . ثمانية آلاف ! سأسجلها أيضا . لماذا يا رجل ؟  و بالإضافة إلى هذا المبلغ هل علي أن أفهم أن هناك دخلا آخر” .

أجبته:” ها ! ها! ها! كلا . أنت لازلت في البداية . كتبت كتابا عنوانه ” الأبرياء في الخارج” (3) . بيعت النسخة بأربعة دولارات . أصغ إلي . أنظر بعيني . خلال الأربعة أشهر والنصف الأخيرة ، ولن أخبرك عن المبيعات من قبل ، خلال الأربعة أشهر والنصف الأخيرة بعنا خمس وتسعون ألف نسخة من الكتاب . خمس وتسعون ألف نسخة ! أتصدق ذلك ؟ هذا يعادل اربعمئة ألف دولار يا سيدي العزيز .أنا حصلت على النصف . ”

تابع الرجل قائلا : ” يا الهي ! سأسجل المبلغ أيضا . أربعة عشر – سبعة – خمسون – ثمانية – مئتان  ..الاجمالي يساوي تقريبا …حسنا ..بالكاد أصدق ذلك. المبلغ مئتان وثلاثة أو أربعة عشر الف دولار . هل هذا ممكن ؟” .

قلت له : ” ممكن. ليس هناك أي خطأ في الحساب .”

عندئذ نهض الرجل ليذهب وهذا ما أغضبني . ساورني القلق خشية أن أكون أعطيته هذه الأسرار مقابل لا شيء. كما أنني لاحظت صرخات دهشته فأنا ضخّمت قيمة المبالغ التي حصلت عليها . ولكن في اللحظة الأخيرة  سلمني ظرفا كبيرا وقال إنه يحتوي ملاحظاته.

قال الرجل : ” ستجد في هذا الظرف كل شيء عن عملي . سررت جدا أن أعرف نوع عملك . في الحقيقة سأكون فخورا بنفسي لو حصلت على عمل مثل عملك يدر علي كل تلك المبالغ مثلك . ”

ابتسمت في حين استمر الرجل في الكلام قائلا: ” اعتدت على الاعتقاد أن هناك الكثير من الأثرياء في المدينة لكنهم عندما يأتون للمتاجرة معي اكتشفت أنهم  بالكاد لديهم فقط ما يكفيهم للعيش . في الحقيقة ، منذ زمن بعيد لم أقابل رجلا غنيا وجها لوجه و لم أتحدث لرجل غني  أو ألمس يديه . الآن  أشعر أنني لا أستطيع أن أمنع نفسي من معانقتك . سأكون سعيدا إن سمحت لي أن أطوقك بذراعي هاتين . ”

سرني ذلك لدرجة أنني لم أقاوم رغبته . سمحت لهذا الغريب الطيب القلب أن يطوقني بذراعيه وأن يذرف دموعه على كتفي وهو يطوقني. ثم ذهب في سبيله .

بعد رحيله  ،  فتحت الظرف على الفور وتفحصت الأوراق  بحرص لعدة دقائق . ثم ناديت الطباخ وقلت له اسندني لأنني أشعر بدوار “.

بعد ذلك ، وعندما صحوت . أرسلت الطباخ إلى زاوية الشارع ليستأجر رجلا أدفع له أجرة أسبوعية لكي يجلس طوال الليل يلعن الرجل الغريب.

كم كان شريرا وماكرا هذا الغريب ! لم يكن الظرف يحتوي إلا استمارة  فارغة علي أن أعبئها مصرحا عن دخلي للضرائب . كانت تحتوي قائمة من الأسئلة الفجة مطبوعة بخط ناعم حول عملي. كانت أسئلة مكتوبة بمهارة لدرجة أن لا أحد في الكون يستطيع أن يفهم معناها .  كانت مرتبة بطريقة تشجع الانسان أن يصرح بأربعة أضعاف دخله ليتجنب الكذب . بحثت عن طريقة للخروج من مشكلاتي لكنني لم أجد أي سبيل لذلك .

كان السؤال الأول يغطي  حالتي بأكملها : ” ماذا كانت ارباحك خلال السنة السابقة ؟ من أي عمل أو شغل أو تجارة أو أي شيء آخر؟ ”

وقد أتبع ذلك السؤال بثلاثة عشر سؤال أخر وكلها من نفس النوع . كان ألطفها يسأل إن كنت في يوم الأيام نشال طرق  وفيما إذا كنت قد أشعلت النار في أي شيء  أو أي أسرار أخرى حول الحصول على المال أو إن كنت قد استلمت أي مبالغ مالية ليست مذكورة في هذا التصريح  المذكور أعلاه ( في الجواب للسؤال الأول ) .

كان من الواضح أن الرجل الغريب قد خدعني . كان ذلك واضحا جدا لهذا السبب استأجرت رجلا ليلعنه . جعلني أشعر أنني فخور جدا بثروتي وأصرح بدخلي البالغ مئتين وأربعة عشر الف دولار . وفق القانون ، كانت الجملة الوحيدة التي وجدتها جيدة هي ” تعفى الألف الأولى من الضرائب ” لكنها تبقى قطرة من محيط . وعلي أن أدفع للحكومة خمسة بالمئة من قيمة دخلي أي ما يساوي مبلغ عشرة الأف وستمئة وخمسين دولارا !

( قد اقول هنا أنني لم أدفع المبلغ )

أعرف رجلا غنيا يعيش في قصر فاخر ويصرف الكثير من المال ورغم ذلك ليس لديه دخل . هذا ما لاحظته من قائمة الضرائب والناس الذين يدفعونها فذهبت إليه كي ينصحني في حل مشكلتي .

أخذ أوراقي . ثم وضع نظارته و وتناول قلما وقال فجأة : ” انت لست رجلا غنيا ” كانت هذه أجمل جملة سمعتها حتى الآن . ببساطة قام بترتيب قائمة ” الحسومات ”  بذكاء .

وكتب إلى الحكومة وضرائب المدينة : كثيرة هي الخسائر في بيع الأملاك والحيوانات.  كثيرة هي الخسائر في تحطم السفن والحرائق الكثيرة . كثيرة هي الخسائر في المدفوعات على ايجار المنزل . كثيرة هي الخسائر على الإصلاحات والتحسينات . ثم تابع يكتب      ” والراتب خاضع سلفا للضريبة  كضابط في الجيش أو أي خدمة حكومية أخرى ” وكتب أشياء أخرى كثيرة . ثم أضاف حسومات لكل بند من البنود المذكورة . وعندما انتهى  سلمني الورقة وقد عرفت في الحال أن دخلي كل السنة كأرباح كان فقط ألف ومئتان وخمسون دولارا لا غير .

ثم تابع قائلا : ” الآن  . الألف الأولى معفاة من الضرائب بموجب القانون . وما عليك إلا أن تذهب وتحلف أن الحقائق المذكور في بيانك صادقة  ثم تدفع ضريبة  على المئتين وخمسين دولارا . ”

وأثناء حديثه معي  تسلل طفله الصغير ويللي وأخذ ورقة من فئة دولارين من جيبه خلسة ثم اختفى . أشعر أنني متأكد أن الغريب – الذي أتى إلى منزلي  – إن قابل الصبي الصغير  غدا سيكذب الصبي في اخباره عن دخله .

سألته : ” هل ترتب دائما أمر الحسومات على دخلك بهذه الطريقة .. يا سيدي ؟ ”

أجابني : ” طبعا  إذا لم يكن لدينا هذه الأسئلة الإحدى عشر تحت بند الحسومات  سأصبح شحاذا كل عام لكي أدعم هذه الحكومة الشريرة القاسية المخيفة ” .

هذا الرجل الأنيق يقف منتصبا بين أكثر رجال المدينة ثراء – رجال الشرف والاخلاص . لذلك قبلت اقتراحه ونزلت إلى مكتب الضرائب وهناك وقفت أمام عيني زائري القديم وأقسمت أن أكذب  كذبة بعد أخرى وخدعة بعد أخرى حتى سَمُكت ثياب روحي بوصة إثر أخرى  من الكذب بسبب التصريحات الكاذبة .

وشعرت أن احترامي لذاتي   قد رحل للأبد ….رحل للأبد…

 

الحواشي :

(1) مارك توين : هو كاتب أمريكي. يعتبر رائد الكتاب في غرب الولايات المتحدة الأمريكية، حمل لواء الروائيين، وأراد من خلال أعماله التعريف بأمريكا العميقة عن طريق وصفه للفلكلور المحلي والعادات الشعبية: مغامرات توم سوير؛ مغامرات هوكلبريري فين.اشتغل مهنا عديدة من بينها ربان باخرة نهريةوقد بدأ يكتب للصحافة منذ الصبا الباكر وامتاز بأسلوبه الرائع و المتميز بروح الفكاهة التي جعلته يشتهر من بين الكتاب الشبان الذين كانوا من سنه في تلك الفترة.صمويل لانجهورن  كليمنس هو الاسم الاصلي له ولد في ولاية ( ميسوري ) في نوفمبرعام 1835 ، وسرعان ما انتقلت اسرته إلى قرية ( هانيبال ) التي خلدها في الادب الامريكي ، وتوفي أبوه وهو في سن العاشرة ، ليبدأ الصبى كفاحهالمضنى من أجل البقاء ،وهو الكفاح الذي رسم كل خط في أدبه فيما بعد وأكثر شخصيات كتبه مارست الوجود فعلاً وقابلها في مشوار حياته الشاق . عمل الصبي عامل طباعة ،ثم استجاب لحلم قديم طالما راوده، هو أن يعمل على قارب بخاري في نهر المسيسبي ،وكانت له مع النهر قصة حب خلدها في كتابه (الحياة على الميسيسبي) . بعد هذا حارب في أثناء الحرب الأهلية عام 1861 م ،وهي بدورها خبرة لم ينسها قط : “الحرب هي قتل مجموعة من الأغراب الذين لا تشعر نحوهم بأي عداء، ولو قابلتهم في ظروف أخرى لقدمت لهم العون أو طلبته منهم”.

في عام 1910 م توفي (توين) بعدما رأى -في نفس الليلة- مذنب (هالي) يشق السماء ، وهو ذات المذنب الذي شق السماء ليلة ولادته،وبشكل ما كان توينيتوقع ويرجو أن يمتد به الأجل حتى يراه مرة ثانية وأخيرة  .

(2)محمد عبد الكريم يوسف (1965-) مواليد قرفيص/ سورية . مدرب ومترجم وأكاديمي و محاضر في الجامعات السورية   / رئيس قسم الترجمة سابقا في الشركة السورية لنقل النفط / رئيس دائرة العقود والمشتريات الخارجية سابقا في الشركة السورية لنقل النفط / حاليا رئيس دائرة التنمية الإدارية في الشركة السورية لنقل النفط.  كاتب في العديد من الصحف العربية والأمريكية .مؤلف ” معجم مصطلحات وقوانين الشحن البري البحري الجوي” وكتاب ” الصياغة القانونية للعقود التجارية في القطاع العام والخاص والمشترك باللغتين العربية والانكليزية  ” .

(3)الأبرياء في الخارج (1869) : كتاب رائع لمارك توين .  جاء صدور هذا الكتاب إبان الانتهاء من الحرب الأهلية الأمريكية، حيث شهد مناخ هذه الفترة تحولات فكرية وثقافية وعلمية ودينية خطيرة، خاصة أن أوروبا كانت قد بدأت إرهاصات ثورتها الصناعية مع ما واكبها من أحدث كبيرة وظهور رواد لحركة التنوير والانطلاق نحو التغيير ومنذ ظهور هذا الكتاب حتى اليوم لم يتوقف الجدل حوله، ومهما كان رأي القارئفي الكتاب والكاتب فإننا لا نستطيع أن نغفل أهمية ما ورد فيه من قضايا تتعلق بنا مباشرة، وتمس العقيدة والسلوك والمناخ الذي كانت تعيشه المنطقة العربية في ظل الحكم العثماني. الكتاب يعد من أدب الرحلات حيث تبدأ الرحلة من نيويورك لتجوب الشرق والبحر المتوسط وتنتهي بفلسطين، محاولات إثارة قضايا تهم القارئالعربي المسلم والمسيحي. يصف توين مدينة دمشق بكلمات جميلة حين يقول :

“To Damascus, years are only moments, decades are only flitting trifles of time. She measures time, not by days and months and years, but by the empires she has seen rise, and prosper and crumble to ruin. She is a type of immortality.”
–from THE INNOCENTS ABROAD , Mark Twain (1869).

ترجمتها :

” بالنسبة لدمشق السنوات لا تقاس بالدقائق فالعقود ليست إلا اشياء تافهة تذهب مع الريح . دمشق لا تقيس الزمن بالأيام والشهور والسنوات  لكنها تقيس الزمن بالإمبراطوريات التي شهدت نشأتها ورفاهها وسقوطها . دمشق نوع من الخلود ”

من كتاب ” الأبرياء في الخارج ” لمارك توين  ( 1869) .

(4) مصدر القصة وعنوانها:

Income-Tax Man, Mark twain, Ten Short Stories, Ministry of Education, Syria, 1982-1983.

 

 

 

 

 

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!