مقهى الموت / بقلم : الأديبة البحرينية فاطمة النهام

                                                                                 

كانت تنسج شباكها للإيقاع بي..

لا للحب والارتباط..

إنما رغبة منها بأن أكون طبق عشائها المقبل!

أدركت حينها بأن زوار ذلك المقهى..

بالتحديد – زوار ما بعد منتصف الليل –

هم سيئو الحظ..

لقد أدركت ذلك..

ولكن..

بعد فوات الأوان..!

*                        *                         *

غربت الشمس لتصبغ السماء بلونها القرمزي. ترجلت من سيارتي وأنا أحمل على كتفيَّ حقيبة الحاسوب، مسرع الخطى نحو ذلك المقهى.

لقد التحقت حديثاً بمهنة الصحافة. اعتدت أن أرتاد هذا المقهى بين الحين والآخر، يأخذني الوقت في كتابة مقالاتي ولقاءاتي الصحفية، بعيداً عن أجواء البيت والعمل.

أدرك في الحقيقة بأنني لا آتي إلى هذا المكان لأمور العمل فقط، إنما أنساق وراء قلبي الذي عشق تلك الشقراء الجميلة، وذاب في زرقة بحر عينيها الأخاذتين.

 كنت أعشق صوتها العذب الذي ينساب إلى أذنيَّ كالموسيقى، يدغدغ أنفاسي عطر خشب الصندل الذي يفوح من شعرها الذهبي.

سرت عبر البوابة الضخمة التي تبدو كأنها إحدى بوابات قصور القرون الوسطى، استقبلتني ابتسامات نادلي المقهى، الذين رحبوا بي كفارس يمتطي جواده. إنهم رائعون ومميزون جداً في تعاملهم مع زبائنهم.

اخترت إحدى المنضدات لأغوص فيها، وخلال ثوانٍ، وضعت الحاسوب لأبدأ العبث على الأزرار.

لا أنكر بأن وجهها الجميل لم يفارق مخيلتي قط. كنت أراه يشرق بين سطور ما أكتب، تجول في خاطري ابتسامتها المضيئة، وصوتها الناعم المتدفق.

 

 

أسندت ظهري وأنا أتنهّد بعمق، خاطبت نفسي وقد نفد صبري:

ـ  أين هي يا ترى؟

وبلا شعور، أخذت عيناي تجولان في المكان بحثاً عنها، تتنقلان بين الردهات، تمعنت في أثاث المقهى، المقاعد شكلت على حلقات جلوس فخمة، تتوسطها طاولات مذهبة، السجاد الكلاسيكي الوثير يبدو باهظ الثمن. ما أروع الستائر وورق الجدران!

أما اللوحات، فتبدو أروع. هناك لوحة ضخمة للسيدة مريم العذراء، تتوسط الجدار، وهناك في إحدى الزوايا يقف تمثال إله الحب (كيوبيد)، ينتصب حاملا قوسه وسهمه.

 لو يعلم (كيوبيد) كم كان سهمه نفاذاً! لقد اخترق قلبي بقوة، ليطبع عليه اسمى، وأجمل المشاعر.

ـ  مرحباً يا سيدي.

انتفض قلبي والتفتُّ إليها، لتلتقي نظراتي بعينيها الساحرتين. نهضت من مكاني وأنا أتأملها مشدوها، قلت بشوق:

ـ  أين أنتِ؟ لقد انتظرتكِ طويلاً.

تضرّج وجهها القمري بحمرة الخجل. تلفتت يمنة ويسرة، وقد بلغ بها الارتباك مبلغه:

ـ  قهوة ساخنة، أم مثلجة، يا سيدي؟

قلت هامساً:

ـ  لقد اشتقت إليكِ.

تراجعت خطوتين لتتهرب من حديثي قائلة بحياء:

ـ  قهوة ساخنة.. حالاً يا سيدي!

ثم ابتعدت بسرعة من المكان.

    *                                *                               *

أخذت أرتشف قهوتي وأنا منهمك بالكتابة. تثاءبت وأنا أشعر بالإرهاق. إنها الحادية عشرة والنصف ليلاً. لقد تأخر الوقت. أعدت الحاسوب إلى الحقيبة، استرخيت قليلاً، وأغمضت عينيَّ، ولم أشعر بنفسي إلا وأنا أغط في نوم عميق.

دقت الساعة الثانية عشرة، منتصف الليل، استيقظت وأنا أتأوّه قائلاً:

ـ  يا إلهي.. يبدو أنني قد غفوت فعلاً.

الظلام يحيط بي من كل جانب. لقد أقفلت الأنوار. يبدو بأن دوام المقهى قد انتهى، وقد غادر الجميع المكان، ولكن كيف لم ينتبهوا لوجودي؟!

 

 

منضدتي تطل على النافذة الضخمة للحديقة الخلفية، والتي تمتلئ بالبرك المحاطة بالزهور، تسبح بها طيور الفلامينجو بانسيابية.

تمططت، ثم نهضت بتثاقل، اتكأت على الباب المقابل لطقم الجلوس. يبدو أنه متصل بديكور خشبي لخزانة كلاسيكية، وكأنها إحدى خزائن غرف النوم الملكية.

فجأة! انزلقت ذراعي من على المزلاج ليفتح الباب بقوة.

 هالني ما رأيت في رفوف هذه الخزانة!

رباه!! ما هذا؟!

ما هذه الأشياء التي تبدو وكأنها…

إنها تبدو.. وكأنها…

اتسعت عيناي بذعر وأنا أهتف في ذهول.

يا للهول!

إنها عظام بشرية!!

*                            *                                *

للحظات شعرت وكأن قلبي قد توقف عن النبض. تراجعت لأتأمل المشهد بارتياع. سمعت صوتها يتردد بحدة:

ـ  من هنا؟

وبسرعة البرق أعدت الباب إلى مكانه، ثم حملت حقيبتي واختبأت في البهو المظلم.

ومن البهو، راقبت أحد النادلين وهو يتلفت يمنة ويسرة ليتفحص المكان. كان برفقة محبوبتي الشقراء!

ـ  أنا متأكدة بأنني قد سمعت صوتاً.

سمعتها تنطق بهذه العبارة، راقبتها خلسة وهي تتفقد المكان.

كتمت أنفاسي بقوة، وقلبي يخفق بعنف.

تنفست الصعداء حينما سمعت النادل يقول:

ـ  لا يوجد أحد هنا، كما ترين. لقد غادر الجميع المكان.

ثم استطرد بغموض:

ـ هيا.. لنذهب إلى وليمتنا الآن.

 

 

 

قالت ببرود:

ـ  نعم.. إنهم في انتظارنا.

ثم غادرا المكان.

تساءلت بحيرة وخوف:

ـ  عن ماذا يتحدثان يا ترى؟؟

وبقى سؤالي حائراً بلا جواب.

                       *                             *                            *

تباً!! كيف السبيل إلى الهرب؟!

النوافذ مقفلة، والبوابة الضخمة موصدة بإحكام.

هكذا حدثت نفسي بتوتر.

لقد وقعت في شرك عصابة مجرمة تتاجر بالأعضاء!

حتماً هذا هو التفسير الوحيد لوجود تلك العظام البشرية في خزانة البهو.

يا للورطة! ماذا سأفعل الآن؟!

هل يعقل بأن محبوبتي الجميلة ليست سوى عضو في هذه العصابة المجرمة؟؟!

كيف استطاعت أن تخدعني بابتسامتها العذبة وعينيها الساحرتين؟!

يا لي من غرّ ساذج..

قفزت إلى ذهني فكرة. سوف أتصل بالشرطة حالاً. أخذت أبحث بين جيوب معطفي عن هاتفي المحمول، سحبته بسرعة، وأخذت أضغط على الأزرار بأصابع مرتجفة، والعرق يتصبب من جبيني بغزارة.

ـ  ألو.. مركز الشرطة.

ـ  نعم يا سيدي.

ـ  أرجوكم، ساعدوني، حياتي مهددة بالخطر.

ـ  من المتحدث؟ أين أنت بالضبط؟!

ـ  أنا عادل أحمد، في (المقهى القرمزي)، أنتظر.. سوف أرسل لك الموقع حالاً.

أرسلت الموقع عبر الواتساب، ثم أقفلت الخط، ووضعت الهاتف على الصامت.

فجأة! سمعت همهمة من الغرفة المجاورة للمطبخ.. ما هذا الصوت؟

 

 

ابتلعت مشاعر الخوف، ودفعني فضول الصحفي الذي يسري في عروقي لأتقدم ببطء نحو تلك الغرفة. كان الصوت يتعالى كلما اقتربت.

 يبدو هذا الصوت وكأنه عشرات الأفواه التي تمضغ بنهم!!

أضاء هاتفي، ووردتني مكالمة من مركز الشرطة، وضعت السماعة على أذني، فوجئت بالشرطي يقول لي:

ـ  لقد أتينا إلى المكان، ولا يوجد أي أثر لهذا المقهى.

ثم خاطبني بنبرة غاضبة:

ـ  يبدو أنك تعبث معنا. إن أعدت هذا التصرف مجدداً، ستعاقب بتهمة إزعاج السلطات.

ثم أغلق الخط.

قلت بسخط:

ـ اللعنة.. ماذا يعني هذا؟ هل أعيش كابوساً مريعاً؟!

أخذت دقات قلبي تتسارع وأنا أقترب من الغرفة.

 خلال ثوانٍ، تأملت المشهد من ثقب الباب،

 وهالني ما رأيت!

                     *                                  *                                  *

للحظة شعرت وكأنّ قلبي قد توقف عن النبض.

وجدت جثة لرجل، ممددة على الطاولة، منزوعة الأحشاء.

اتسعت عيناي برعب وأنا أتأمل نادلي المقهى الذين كانوا يتناولون تلك الأحشاء بشراسة.

كانوا يمزقونها بأنيابهم الحادة، والدماء تبلل ملابسهم.

والأسوأ أن شقرائي الرقيقة تشاركهم الوليمة!

إذن، فالعظام البشرية القابعة في الخزانة الملكية هي لضحاياهم!!

لقد وقعت في كارثة حقيقية.

ليت قدميّ لم تطآ هذا المقهى..

في لحظة ما.. وجدت نفسي في هذا المكان.

وحدي مع مجموعة من آكلي لحوم البشر.. والأبواب مقفلة بإحكام.

 

 

تراجعت إلى الوراء لأصطدم بإحدى الطاولات، جحظت عيناي، وأخذت ضربات قلبي تتعالى بعنف. فوجئت بأحدهم يفتح الباب. أخذوا يرمقونني بنظراتهم المخيفةّ.

كانت الشقراء تتوسطهم، وهي تتأملني بوحشية، أخذت تشير إليّ بيدها الملطخة بالدماء، وكأنها تأمرهم بالتقدم نحوي.

اقتربوا نحوي ببطء ليحيطوا بي على شكل حلقة.

كان اللعاب يقطر من أفواههم الجائعة، والدماء تسيل من بين أشداقهم، وعيونهم الحمراء تتمعن في النظر إليّ بشراهة.

لقد تأكدت حينها بأن نهايتي وشيكة لا محالة.

التصقت بظهر الحائط.

وأخذت أصرخ..

وأصرخ.

وأخذوا هم يتقدمون نحوي..

رويداً..

رويداً…

             *                             *                               *

في إحدى الليالي المقمرة، ترجل شاب طويل، وسيم، من سيارته، وخطا نحو ذلك المقهى الفخم. كان يبدو وكأنه أحد قصور القرون الوسطى، تحوطه برك طيور الفلامينجو، وتتناثر حوله الزهور الملونة.

ومنذ أن دخل إلى المكان، حتى استقبله نادلو المقهى بحفاوة. خلال ثوانٍ، اقتربت منه فتاة شقراء جميلة، ساحرة العينين، يفوح عطر خشب الصندل من شعرها الذهبي.

 تدفق صوتها الموسيقي العذب إلى أذنيه، وهي تبتسم ابتسامتها الأخاذة:

ـ  أوامرك يا سيدي.. قهوة ساخنة، أم مثلجة؟

 

                                                                                                                                       

 

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!