وجه من زجاج/بقلم : حسن حصاري / المغرب

 

غرفة مظلمة وضيقة باردة كقطعة ثلج، تأوي جسده المنهك،برغم الدفئ الذي يتناثر كرذاذبالخارج بقليل من خيوط واهية لأشعة شمس الشتاء الكئيبة. بكثير من جهد، أيقظ نفسه الغارقة في شبه رقود الأموات،كان شديد الإرهاقمن قلة ساعات نومه التي يستنزف منها وقتا طويلا في التفكير في كل شيء وفي اللاشيء.

أخذ نفسا عميقا،ابتلع برئتيه ما تبقى من هواء الغرفة الرطب، كأنهيمتص دخان آخرسجائرهبشراهة، للتخلص من رعشات توتر تلازمه كأنفاسه المتقطعة.حذق بالمكان الذي يدفن فيه جسده،مسح بعينيه الذابلتين كل زاوياه. لا يجد كالعادة أي عناء في تفقد محتوياته البسيطة:سريره الهش، كرسيه القديم، ودولاب خشبي صغير متهالك،يخفي بداخله ملابسه،ومرآةكبيرة ملتصقةبالباب. ولايمكن أبدا أن يغفل النظر للاطمئنان علىعنكبوت يتقاسم معه جزءا صغيرا منسقف الغرفة.

أوقف رجليه الخاويتين، تمطط بحركات بهلوانية بيديه، لوى عنقه يمينا ويسارا، ارتعش بجسده ليسترجع قليلا من الدفئ، وقف وجها لوجه أمام المرآة.

نادرا ما يلتفتللمرآة؛ينظف عنها الغبار كلما اتسخت أحيانا، يحس عند اختلاس النظر إليها،بأنها تزيد غرفته الضيقة فائض مساحة لا يستفيد منها اطلاقا.أمعن النظر مزهوا في المرآة، تحسسها بكلتا يديه، تطلع أكثر إلى المساحة بداخلها،فجأة أصابته الدهشة وهو يكتشف لأول مرة بأنه ليس الوحيد الذي يسكن غرفة بدرج المنزل، يستغل المساحة الزائدة في المرآة. كان حريصا ألا يعلم أهل البيت بما يتمتع بهمن مساحة زائدة، لكنه اليوم يصاب بخيبة كبيرة وهو يرى ذلك الآخرالذييشبهه، يستغلهو أيضا جزءا من الغرفة في الطرف الآخرمن المرآة.

وليتأكد مرة أخرى من استمرار وجود ذلكالغريب،أعاد النظر إليه من خلال المرآة. هذه المرة تعمد أن ينظر إليه بحدة، بنظراتتنم عن سخطه الشديد. يتفاجأ بكون الآخر في مثل سخطه وغضبه، وفوق ذلك يرتدي نفس ملابسه: سروال منامته البني القطني القصير، قميصها البنفسجيبأزرار أقل، طاقيته السوداء الكبيرة التي تكاد تخبئ نصف رأسه.أواه !.. أوصلت به الجرأة أيضا لارتداء حتىنفس ملابسي؟هكذا حدث نفسه حانقا.

تذكر لبرهةكلاما لأمه كان يسمعه مرارا منذ الصغرهون عليهبعضا من قلقه، أن النظر طويلا في المرآة يثيرفي النفس وساوس الشيطان، واعتقد أن يكون الآخر مجرد صورةلشيطان بقرون عابر لغرفته. أطل بحذر شديد، رآه بإمعان تبين أن رأسه بلا قرنين، ومع ذلك أصر على الاعتقاد بأنه حتما شيطان أوشبح له.

ارتشف جرعة ماء بارد، بلل وجهه بقطرات منه، تمتم بكلمات تعويذة حفظها عن أمه، حين كانت تتلوها عليهمساء مع قليل من دخان البخور،وهي تخربش جسده الصغير بقرصات لاسعة عقوبة له، كلما استبدت به رغبة القفز واللعببسعادة في برك الماء الراكدة شتاء، وعاد مبتلا مرتعشا إلى المنزل.

تقدم بخطوات حذرة جنب المرآة، بسط كف يده اليمنى على سطحها، حركه يمينا وشمالا، لاحظ بأن الكف الآخر في المرآة يتحرك تماما ككفه، ثم أطل بوجهه بابتسامة ساخرة، فأطل عليه الآخر كذلك بنفس ابتسامته.انتصب فجأة أمام المرآة، وجها لوجه ومباشرة أمام غريمه. نظر إليه بإمعان شديد، رآه ينظر اليه بنفس النظرة، تبين له بأنه يشبهه كثيرا، وتذكرالمثل القائل بأن الله يخلق من الشبه أربعين، ابتسم ساخرا بأن معه شبيها واحدا فقط،أفسد عليه راحته، فماذا لو اجتمع عليه الباقون. تهيأ له في فكرة مجنونة أن يكون الواقف أمامه أخوه التوأم، لكن لم يستطع أن يتذكر ولو لحظة واحدة أن أمه أثارت مرة خلال حديثها عن ولادته أن له أخا توأما. كل ما يتذكر أن ولادته كانت بأوجاع عسيرة، تقرر معها الاستعانة بأكثر من مولدة لإخراجه الى كوكب الأرض، لقد كان متمسكا، كما يحلو لأمه أن تحيي ذكرى مولده، كلما حل ببيتهم قريب، عند كل مناسبة أوبغيرها، برفضهلإخلاء مكان اقامته الدافئ. وقد تطلب الأمر لعناده، اغراءه بحلويات ولعب من أجل أن يستسلم ويفرغ رحم أمه، دون اللجوء لاستصدارأمر طبي، للقيامبإجراء عملية قيصرية لإخراجه قسرا.وهو ما جعله في الأخير يتنازل لهذا العرض المغري، ويخلي ملكا خاصا احتله لمدة تسعة أشهر.

أخذ من جديد نفسا عميقا، تيقن بأن الشبيه الواقف أمامه لا يمت له بأي صلة قرابة أوأخوة. تساءل في نفسه، إذن من يكونهذا الغريب؟ شبحا روحا شريرة؟ أمعن النظرفيه أكثر بحثا عن إجابة لاستفهاماته المتوترة. بدا له ينظر اليه باستغراب، يحمل نفس هم أسئلته الحائرة. مد يده اليه للسلام عليه، فمد الآخر يده، جال بخاطره أنه انسان مثله وله الحق في أن يشبهه او يختلف عنه، فله نفس خلقته، الفرق الوحيد بينهما أنه لا يكاد يسمع صوته ولا أنفاسه ولا يشتم رائحته، وتساءل إن كان يستعمل عطرا ما،على الأقل ليس مثله، هو الذي لا يملك من العطر الا رائحة جواربه وأحذيته القديمة. تساءل لبرهة إن كان الواقف أمامه يأكل ويشرب وينام ويقضي حاجاته.. إن كانت لديه أحلام وطموحات يسعى الى تحقيقها. جلجل بضحكة ساخرة، نظر في عمق المرآة، لاح له الطرف الآخر من الغرفة، حيث يقف شبيهه، تبين بانه يتملك ما يملكه من فراش متهالك، وملابسقديمة،مثله تماما يعاني ما يعانيه من وحدة وضياع وبؤس. مثله مقيدداخل غرفة بئيسة كمسجون منسي في أحد القلاع المهجورة، لا أحد يسأل عنه إلا صاحب المنزل لأخذ ايجار قبر حياته. تأسف كثيرا لشبيهه الذي يعاني في الطرف الآخر فيصمت،فهو لا يتكلم لا يحتج لا يتأوه، ليس لديه أية مطالب يدافع عنها كأنهاستسلملمصير واقعهالمجهول. ضحك في سره سخرية من الآخر، فبرغم الشبه الكبير بينهما واقتسام غرفة صغيرة مظلمة، فهو على الأقل يحلم أن تتغير ظروفه يوما ما. أحس لأول مرة بالانشراح لقدرته على الحلم، فبدأيرقص ويضحك تعبيرا عن فرحته،أثار استغرابه أن الآخر يقلده فيحركاته الراقصة.لم يستسغ هذا الأمر، فهو مقتنع بأسبابرقصه، أما الآخر لم يرقص؟ أسعادة بخيبته وبؤسه؟تساؤلات كثيرة تناثرت فيذهنه كفقاعات هواء جامد. اقترب أكثر من المرآة،التصق بها، التصق به الآخر.الوجهان متقابلان، العينانمتيقظتانغضبا، نظرات حادة متبادلة، تدافعابقوة بكلتا يديهما،صمدا معا في المواجهة الشرسة، تصبب عرقهما، علا زفيره لوحده، تقطعت في لحظة أنفاسهما، استلقيا كل على سريره، تقابلا بنظرات حادة، تمعن فيه من جديد، تساءل مع نفسه، كيف لهذا الشبيهيفسد عليه راحته؟ كيف دخل فجأة حياته من دون أن ينتبه له؟أوربما كيف دخل هو حياته؟ تساءل في لحظة قلق، إن كان هوالدخيل على الآخر وليس العكس؟ ان كان الآخرصاحب الغرفة الحقيقي وليس هو؟ تحسس أطرافه كلها ليتيقن من وجوده حقيقة، تهيأ له ان هناك عالمان منفصلان، عالمهوعالم الآخر، اختلطت عليه أفكاره، ضاع في متاهات تساؤلات مترددة، لم يعد متيقنا إن كان انسانا أم ظلا،حقيقة أم خيالا.اكتسحته رغبة شديدةلمعرفة الحقيقة. حقيقة وجوده ووجود الآخر، وجودهما معا في نفس المكان، في عالمين شبيهين متقاربين متباعدين في نفس الآن. أهي محض صدفة هذا الوجود الذي لم يفكر في أمره من قبل.

قررعبور بوابة عالم قهر أنفاسه، بدأ يدفع بجسده المنهك نحو المرآة بكل قوته وهو يصرخ،ويصرخ معه الآخر في صمت. انشقت فجأة المرآة، رأى وجه شبيهه مذعورا يتشظى كقشرة بيض، رآه ينظر اليه بكثير من الحزن، تطايرت الشظايا تحمل كل واحدة جزءا من حيرته في البحث عن الحقيقة. اصطدم رأسه بجدار بارد وسميك،دفع بجسده المرهق بقوة وغاص في السراب، يحمل معه سر مرآته.

عقارب الساعة تلامس منتصف الليل،انسابفجأة، صوت نسوي هادئ بداخلمقطورات القطار، معلنا وصوله الى خط النهاية،كسر عليه خلوة سفر داخل قصة مرآة، سارت به في رحلة غريبة لم يتوقع وجهتها ولامحطةنهايتها. أحس بالقلق والحيرة، أحزنته معاناة رجل الغرفةمع ساكن المرآة، لم يفكرمن قبل بعالم المرآة والتي يزين بأكثر من واحدة منها غرف منزله، لم يقف مرة واحدة أمامها بفضول، مستفسرا عن وجود ذاك العالم الآخر القابعبصمت هناك في الطرف الآخرمن المرآة بعيدا عن ضجيج واقعهالمعتاد، غادر مقطورته، توجه مسرعا خارج القطار،كأنه يحاول الانفلات من ضيق غرفة مظلمة بشظايا مرآة، وطيفرجل التهمه الظلام.

جر خطواتهالمتثاقلةنحو بهو المحطة الفارغة إلا من بضعة عمال ومسافري آخر قطار الليل، أسرع نحو الباب الرئيسي للخروج، لاحت أمامه الأبواب الزجاجية كمرآة عملاقة، تهيأ له كأنها تفتح فمها الشفاف لتلتهم العابرين منها، رأى في مواجهته على الزجاج أناسا بدورهم قادمين من سفرما، لاح له وسط الحشد القليل، شبيها له يتحرك قادما نحوه، أرعبه أن يقترب منه ويلتصق به ، أن يعانقه أن يرافقه رغما عنه، حاول طرد وهم خيال قصة قرأها لصرف ملل وقت سفره الليلي الطويل، كان اعتقاده الواهم بحقيقةوجود ذاك العالم المريب الذي تجلى أمامه أقوى من أن يستطيع الدوس عليه،وينسل بسرعةخاطفة عبر البوابة الزجاجية إلىعالمه المعتاد، فكلما اقترب من الباب زاد اقتراب الآخر منه، وازدادخوفه وقلقه، حتى التصق بزجاج الباب وصرخ مذهولا بصوت مرتفع، صرخة  قوية كانت كافية لإيقاظ سكان العمارة في منتصف ليل شتاء جد بارد .. كان وحيدامتجمدا،يحذق بعينين جاحظتين في ذهول مخيف،وجهه في مرآة غرفة المصعد الكهربائي،ويصرخ ” أين أنا؟ .. اين أنا؟ .. ”  صرخ عدة مرات وصمت.

استفاق من شروده، توجه مسرعا الى شقته،لم يدرك أنه قضى وقتا طويلا بالمصعد،حين عاد متأخرا ومرهقا، بعد تسكع ليلي طويل، يجر معه خيبته في شوارع مدينة كبيرة، كل واجهاتها مرايامخيفة تلتهم أنفاسه.دخل شقته الباردة، توجه مباشرة الى المرآة، نظراليها بخوف شديد، بدا له أن وجهه في الطرف الآخر من المرآة لا يشبه في شيء، إنه وجه من زجاج يسخر منه، فما كان عليه إلا أن كسر المرآة بقوة بكلتا يديه وهو يصرخ من جديد ” لست أنا .. لست أنا ..”

25 فبراير 2018

 

 

 

 

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!