“شيوخ الحارة”.. كيف قوّض حب الزعامة أفق الثورة السورية؟

ناصر ميسر

بدأ المشهد بلمحة غاية في الضبابية وبمكونات مألوفة: ثلاث سيارات سوداء رسمية، بضعة أشخاص متحلقون حولها، ورجل أبيض البشرة ممتلئ الجسد ببذلته المموهة مطالبًا الجميع، من وراء منصة، بالترحيب بالضيف القادم. الزمان نهاية (أبريل/ نيسان) لعام 2015، والمكان غير معلوم بجوار العاصمة السوريةدمشق؛ والتأهب أمني لا تخطئه العين مع تحفظ غريزي من الكل تقريبًا، ومع سحابة مصطنعة من أدخنة كثيفة لحماية الحاضرين من قصف جوي محتمل، بينما يبدو أنهم بانتظار رجل واحد فقط لبدء ما تجمعوا لأجله.

في ثوان معدودة هبط أربعة رجال بأزيائهم العسكرية، يتوسطهم الضيف المنتظر في طريقه لمنصة احتفالات مصغرة أشبه بمنصات تخريج دفعات الكليات العسكرية، بينما يواصل مقدم الاحتفالية الرمزية كلماته مرحبًا باسمه وباسم “جميع المجاهدين بالقائد العام لجيش الإسلام”، لنعرف جميعًا أن الاحتفالية كانت لتخريج 1700 مقاتل جديد، في دورة عرفت باسم “دورة الإعداد الجهادي السابعة عشر”، وأن الضيف لم يكن سوى قائد “جيش الإسلام“، أحد أبرز فصائلالمعارضة السورية المسلحة، الشيخ زهران عبد الله علوش، المتوفي في نهاية نفس العام المذكور جراء قصف جوي روسي.

يرتبط “جيش الإسلام” من البداية، وحتى الآن إن جاز القول، ارتباطًا وثيقًا بشخص الشيخ زهران كما كان يعرف في الداخل السوري قبيل وفاته، ولا يمكن إيعاز الأمر هنا لصفات شخصية للقائد العسكري الشهير فقط، وإنما لمجموعة عوامل أخرى، فالرجل هو ابن عائلة عريقة معروفة في مدينة دوما السورية، ووالده أحد أبرز شيوخ السلفية السوريين، ما منحه مكانة بنى عليها تحالفًا أفقيًا مع بعض عائلات دوما الكبيرة السلفية كذلك، مثل عائلة بويضاني، من ينتسب لها عصام بويضاني، القائد العام الحالي لجيش الإسلام، وعائلة كعكة، وينتسب لها عبد الرحمن كعكة المسؤول الشرعي العام لفصيل المعارضة الشهير، وعائلات أخريات مثل ديراني والشيخ بزينة ودلوان، بجانب شبكة تمويل ثابتة، أساسها في المملكة العربية السعودية، استمرت بتمويله، وبنية أمنية صلبة [1] بوأته مكانة أطلق عليه بها “أمير الغوطة“، لا كأمير حرب، بل كأهم أعيان الغوطة وواجهة اجتماعية واقتصادية رئيسة لها، قبل تحوله لواجهة عسكرية ثم سياسية، ليمثل الشيخ علوش الراحل مثالًا واضحًا على ظاهرة يمكننا أن نطلق عليها “أعيان الحرب السورية”

الأعيان

بعد الاستعراض العسكري وتخريج الدفعة القتالية الجديدة بخمسة أشهر، وفي نهاية (سبتمبر/ أيلول) لنفس العام 2015، تدخل سلاح الجو الروسي دعمًا لنظام بشار الأسد، وهو تدخل أثمر في بدايته عن أحد أكبر مكاسب النظام وأحد أوائل ضحايا القصف: القائد العام المؤسس لفصيل المعارضة الشهير “زهران علوش” نفسه، في 25 (ديسمبر/ كانون الأول).

قبل التدخل الروسي بخمسة عشر يومًا تمامًا، وربما كان التدخل نتيجة لها؛ شن “جيش الإسلام” أكبر معاركه على تخوم دمشق، مطلقًا عليها معركة “الله غالب”، ليتمكن بها من استعادة السيطرة على تل كردي، وليستطيع الوصول بها إلى أوتوستراد دمشق-حمص، وليسيطر على أكثر من 30 نقطة عسكرية نظامية، لتمثل المعركة إحدى أشد الضربات العسكرية إيلامًا لنظام الأسد، وبجوار معقله الرئيس مباشرة: العاصمة دمشق.

في نهاية الإصدار الدعائي الأكبر لـ “جيش الإسلام”، وثائقي “الله غالب”[2]؛ استعرضت وحدة الرصد والاستطلاع في فصيل المعارضة، بجودة عالية، ما بدا وكأنه مقارنة ذات مغزى بين المواقع الرئيسة في كل من الغوطة: المسجد الكبير، والسوق الشعبي وساحة البلدية، المليئة بدمار المعارك، مقابل المواقع الرئيسة في دمشق: المسجد الأموي، ساحة العباسيين وسوق الحميدية، وهي مواقع تسير بها الحياة بشكل طبيعي تحت رعاية طوق النظام الأمني، ومظلة الجو الروسية الضخمة.

في الدقيقة الـ 56 تحديدًا يظهر لنا المسجد الأموي والمعالم المحيطة به بدمشق القديمة بشكل واضح، حيث سوق الحميدية من مدخله الأيسر، يقابله شارع النوفرة وسوق القيمرية، ويبدو لنا في ظهر المسجد المغطى مجموعة قباب مميزة لحمام نور الدين القديم الشهير لبانيه نور الدين زنكي، وبين المسجد والحمام، يبدو لنا مبنى أصغر قليلًا به مجموعة من الأشجار النضرة في فناء مميز واضح، أو ما يعرفه السوريون بساحة قصر العظم.

بني قصر العظم كتحفة دمشقية معمارية في منتصف القرن الثامن عشر على يد والي دمشق العثماني أسعد العظم، لا ليكون شاهدًا فقط على الفن المعماري العربي الإسلامي وقتها؛ بل ليشهد كذلك على نمط الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية السائدة وقتها في الولايات العثمانية، وفي دمشق خاصة بأوضح صورة ممكنة، وهي حياة يفصلها البروفيسور البريطاني لبناني الأصل ألبرت حوراني، مسميًا إياها بـ “سياسة الأعيان”

بالاعتماد على مفهوم ماكس فيبر لحُكم الخاصة “Patriciate”، وهم الأعيان والأشراف والمشايخ؛ يرى حوراني في مقالته المؤسسة لهذه الفكرة والمعنونة بـ “الإصلاحات العثمانية وسياسات الأعيان”[3]، أن مفهوم “العَين” هو مفهوم سياسي وليس مفهومًا اجتماعيًا، ويقصد به من يلعبون دورًا سياسيًا كوسطاء بين النظام والشعب، كقادة وزعماء لسكان المدن، إما بشكل كامل ليكتمل “حُكم الخاصة”، أو ضمن خضوع المدينة لسلطة ملكية أوسع.

يتحول وجود الأعيان بأي مدينة لـ “سياسة أعيان” بثلاثة شروط رئيسة، أولاها حين يكون المجتمع مرتبًا وفق علاقات تبعية شخصية، بحيث يتبع العامة هؤلاء الأعيان، كأن يتبع الفلاحون ملاك الأراضي، ويتبع الحرفيون الأسياد، وغيرها. وثانيها حين يسيطر الأعيان مجتمعيًا، ضمن عائلات عليا معروفة تقطن المدينة، وتستمد قوتها الأساسية منها، وتنطلق منها للسيطرة على الريف المحيط أو الأطراف أيضًا. وثالثها، وهو الشرط الأهم، حين يتمتع الأعيان ببعض الحرية بالعمل السياسي، مالكين منفذًا للسلطة من ناحية، ما يعني استطاعتهم النصح والتحذير والاعتراض، ومالكين لقوة وسلطة ذاتية أيًا كان شكلها وأصلها بلا تبعية لحاكم أو نظام، مانحة إياهم زعامة مقبولة يصنعون حولها تحالفات مدنية وريفية.

منذ القرن الثامن عشر؛ وُجدت سياسة الأعيان بشكلها النموذجي المتزن في دمشق، مقابل اختلال التوازن لصالح الحكم المحلي في القاهرة وصيدا، ولصالح السلطة في بغداد وحلب، وكان هؤلاء الأعيان موزعين ضمن ثلاثة فئات: العلماء بسلطتهم الدينية، وقادة الحاميات المحلية بسلطة عسكرية، وأعيان مدنيين بسلطة مجتمعية تستجلب اعترافًا دينيًا وعسكريًا أيضًا، كالأشراف المنتسبين لآل البيت، في عصبية عائلية، أو بالسيطرة على الإنتاج الزراعي، أو بالإشراف على الأوقاف مثلًا.

يبني فيليب خوري، تلميذ حوراني النجيب، على أطروحة أستاذه ليفصل بشكل أكبر، في كتابه “أعيان المدن والقومية العربية”[4]، كيف كان الأعيان الدمشقيين يدافعون عن النظام الاجتماعي القائم والوضع السياسي، بمكانتهم كأعيان، وبدورهم الأكبر كملاك للأراضي وعلى علاقة مباشرة بالنظام، ممثلين في أكبرهم “آل العظم”، أصحاب قصر مشهد البداية.

بعد الانتداب الفرنسي ووصول المندوب الباريسي للعاصمة السورية، اختار الأخير الإقامة في قصر العظم، واشترى القسم الأوسط منه بأربعة آلاف ليرة ذهبية، في إشارة واضحة لاستمرار أهمية القصر للاحتلال، حاملًا تلك الاستمرارية من تواصل شبكة الأعيان، بحسب ما يوضح خوري نفسه في كتابه الآخر “الانتداب الفرنسي والقومية العربية

نشأت وقتها نخبة جديدة من التجار المسيحيين والطلاب والمعلمين داخل هذه الشبكة، بينما فشلت هي نفسها بمواجهة التحديات الشعبية الكبرى كالكساد التجاري والجفاف المائي والقحط، توازيًا مع اتساع نطاق التعليم العام، وتأسيس الاحتلال الفرنسي لجامعة دمشق، ليُبنى تصور أكثر رسوخًا للقومية العربية، ارتبط باشتراكية معبرة عن فئات الأعيان المهمشة، ليصل الصراع أخيرًا للاستعانة بالجيش لحسمه، رفقة عوامل دولية خارجية شجعت الضباط على دخول الحياة السياسية وتولي الحكم، صراع كانت إحدى نتائجه انتقال السلطة والشرعية من أيدي أعيان المدن لوجهاء الريف الأقل شأنًا، بحسب ما يصفهم حنا بطاطو، من اعتمد عليه فيليب خوري كذلك.

الانقلاب

بمسافة بعيدة نسبيًا عن قصر العظم، وفي حي الميدان الدمشقي، المركز التجاري الرئيس لتجارة الحبوب بالجنوب السوري ومحل مخازنها أيضًا، اجتمع الأعضاء الأربعة المؤسسون للمكتب التنفيذي الأول لحزب البعث، كان ثلاثة منهم أبناءً لتجار حبوب رئيسيين بالحي هم ميشيل عفلق وصلاح الدين البيطار ومدحت البيطار، أما الرابع، ويدعى جلال السيد، فكان من دير الزور واجتمع معهم عن طريق تاجر حبوب ميداني آخر.

أثر حي الميدان كثيرًا في وضع أهداف حزب البعث “الأبكر”، كما يصفه ويسميه حنا بطاطو في كتابه الهام «فلاحو سوريا»[6]، إذ أن هذه الطبقة من التجار رأت في تجزئة الولايات العربية عقبة في وجه القنوات والمصالح التجارية القديمة والتجارة الحرة عمومًا، إضافة لارتباط الحي بقوة بثورة 1925 – 1927، مما غذى المشاعر القومية لمؤسسي الحزب مدني الطابع.

بعد الاتحاد السوري المصري عام 1958، انزعج عدد من العسكريين البعثيين من زوال حزبهم، في ظل “اللاحزبية” الناصرية، بالإقليم الشمالي (سوريا)، فعملوا على إعادة تنظيم الحزب ضمن سلك الضباط في المرحلة الأولى، ولتوجيهه بمسار مختلف، ضمن لجنة عسكرية سرية تشكلت بالقاهرة عام 1959، ثم أعيد تشكيلها عام 1960، لتدخل إليها ضباطًا سيشكلون المشهد كاملًا فيما بعد: الرائد صلاح جديد، والنقيب عبد الكريم الجندي، والرائد أحمد المير، والنقيب حافظ الأسد، من ينتسبون جميعًا لطبقة وجهاء الريف من مالكي الأراضي الصغار، وليصبح البعث الجديد “الانتقالي”، كما يفصل بطاطو بشكل موسع، حزبًا عسكريًا ريفيًا، بعد أن كان مدنيًا حضريًا، ويمثل تتويجًا لصعود طبقة الوجهاء الريفية الأقل شأنًا اقتصاديًا واجتماعيًا في العقود القليلة السابقة.

 

بعد ذلك، أتبع هؤلاء الضباط هذه الموجة، وخاصة حافظ الأسد فيما بعد الحركة التصحيحية، بإعادة تشكيل القوات المسلحة والجهاز الإداري للدولة كاملة، بالاعتماد على الريف كمنبع بشري أساسي، وعلى الطائفية بزيادة نسبة الضباط العلويين بالجيش، في انقلاب جوهري لشكل الحياة السياسية السورية المستمر منذ منتصف القرن الثامن عشر، لتصبح العصبية هي عصب الملك، والعنف هو أداة بقاءه الوحيدة والأساسية الثابتة، ودائمة الحضور لهدف حصري هو الحفاظ على السلطة، وهو أمر فصله ميشيل سورا في كتابه الشهير “سوريا: الدولة المتوحشة”. [7]

“الشيخ والحجّي”

“إذا كانت المشيخة بالمال، فـ والله لإن الشيخ أسامة بن لادن أسرته من أغنى الأسر في الوطن العربي، وفي العالم الإسلامي، فبيحق له إنه يكون شيخ، وإذا المشيخة بالدين، فأنا شخصيًا جلست مع الرجل ثلاثة أيام، وأشهد بالله أنه كان متفقهًا في الدين وعلومه ويعي الأصول الشرعية والشريعة الإسلامية؛ فاستحقها من الجانبين؛ فإذا بدك تعتبره شيخ مال فهو شيخ مال، شيخ دين فهو شيخ دين”
(عبد الباري عطوان، رئيس تحرير صحيفة القدس العربي السابق، في وصف “أسامة بن لادن” بلقاء على قناة الجزيرة، 14 (مارس/آذار) عام ٢٠٠٦) [8]

في صورة نادرة تجمع أربعة رجال، وصفوا في لحظة ما أنهم الأربعة الأخطر بسوريا، قبل أن يقتل ثلاثة منهم لاحقًا على مراحل متفرقة؛ بدوا جميعًا هادئين وباسمين، جالسين على فراش بسيط رفقة بعضهم البعض، بملامح تبدو واثقة وساكنة، وبرابط خفيف لا يرى بينهم يدل على معرفة عميقة سابقة، إما في سجن “صيدنايا”، محل التقاء بعضهم به بعد مشاركتهم في حرب العراق، أو بمشروع “الجبهة الإسلامية” من شكلوا قيادة صفه الأول، انطلاقًا من كونهم قادة كبار الفصائل المسلحة بمناطق نفوذهم الموزعة بكل أنحاء سوريا. إلا أنه وبجانب الظاهر، كان الجانب الأقل وضوحًا، ولعله الأكثر أهمية لدورهم ونفوذهم، هو كونهم أعيان الحرب بمناطق تواجدهم.

يأتي من اليمين “الشيخ” زهران علوش، صاحب الشرعية الدينية والاجتماعية بـ دوما، وقائد فصيل “جيش الإسلام”، فصيل المعارضة المسلحة الأكبر بالغوطة الشرقية، والرجل الملقب بـ “أمير الغوطة”، ثم عبد القادر الصالح، المعروف بلقبه الشهير “حجي مارع”، قائد “جيش التوحيد” الذي كان الفصيل الأكبر في حلب، ومن بدأ عملية تحريرها بعد إنهاء تحرير الريف الشمالي لها، منطلقًا من بلدته “مارع” التي كان تاجرًا للحبوب فيها، وابنًا لإحدى أكبر عائلاتها هناك، ما سهل التفاف الناس حوله ما بدا واضحا في تلقيبه بـ “الحجي” [9]، وهو لقب ذي ثقلٍ اجتماعي ورمزية دينية.

أما الثالث فهو أبو عيسى الشيخ، الملقب بـ “شيخ الجبل”، قائد فصيل “صقور الشام”، الفصيل الأكبر في جبل الزاوية بريف إدلب، وأخيرًا وليس آخرًا حسان عبود، المكني بـ أبي عبد الله الحموي، أو أبي عبد الله الغاب، نسبة لسهل الغاب، مكان انتسابه ونفوذه الاجتماعي، وشقيق خمسة قتلى على يد النظام السوري، والمعتقل سابقًا في صيدنايا إثر مشاركته بحرب العراق ضد الاحتلال الأميركي، والمطلق سراحه بعد الثورة السورية، ليشكل في سهل الغاب كتائب أحرار الشام الإسلامية، كيان أصبح فيما بعد “حركة أحرار الشام”، أكبر فصائل المعارضة المسلحة السورية لفترة طويلة.

تنظيم الدولة عاقب في إحدى أكبر حوادثه الشهير عشيرة تدعى “الشعيطات” بالكامل لمناهضتها إياه، سواءً لانتساب الكثير من أبنائها لجبهة النصرة، عدوه الأول، أو لوقوف العشيرة في وجه نظام الأسد على أسس عشائرية.

التقى علوش والحموي في صيدنايا، مشتركان في أيديولوجية سلفية، وإن كانت شامية بنسخة علوش، وقومية بنسخة الحموي، إلا أن ما يجمع الأربعة بشكل لا لبس فيه هو كونهم “أعيانًا”، أصحاب نفوذ كبير اجتماعيًا واقتصاديًا، لانتسابهم لعائلات كبيرة، أو لامتلاكهم رمزية نضالية سياسية عالية منحتهم شرعية وتجذرًا بنفوس سكان مجتمعاتهم المحلية، ولأنهم أيضًا أعيانًا ريفيين حصرًا، لا ينتسب أيًا منهم للمدن بشكل كامل.

لم يكن لهذه الشرعية الجديدة، ما يمكننا أن نطلق عليها “الشرعية النضالية” جاعلة إياهم أعيانًا للحرب، أن تنشأ لولا وجود شرعية مؤسسة لها كونهم أبناءً للعوائل الكبرى المكونة للريف السوري، سواء كملاك للأراضي، أو كتجار كبار، أو كمنتسبين لعوائل أصيلة وراسخة نسبًا كأشراف السيد علي المنتشرة في بنش، وهي عوائل لعب عليها كل من النظام السوري، والتنظيمات المسلحة الكبرى كـ “تنظيم الدولة الإسلامية” و “جبهة النصرة” التي أصبحت هيئة تحرير الشام، ففي الصراع الأخير بين الهيئة وأحرار الشام مثلًا، استقطبت الهيئة عائلة الأنمار الكبيرة المنافسة لعائلة الموالي، بينما قاتلت الأخيرة بدورها بجانب أحرار الشام، في المنطقة الممتدة بين سراقب وحتى البادية السورية، بحسب ما أخبرنا به في “ميدان” مقاتل سابق مع أحرار الشام من إدلب في حديثنا معه.

يبدو هذا الشكل أوضح وأيسر في حالة البادية السورية والجنوب السوري، لكون مجتمعاتهما حضرية ذات تكوين عشائري، ليصبح الاصطفاف على هذه الأسس العشائرية لا غير، فنجد أن تنظيم الدولة مثلًا قد عاقب في إحدى أكبر حوادثه الشهير عشيرة تدعى “الشعيطات” بالكامل لمناهضتها إياه، سواءً لانتساب الكثير من أبنائها لجبهة النصرة، عدوه الأول، أو لوقوف العشيرة في وجه نظام الأسد على أسس عشائرية.[10

الحرب
في حالة “أعيان الحرب”؛ أعاد النظام اعتماده على شبكات رعوية وفساد وصلت مداها في فترة لبرلة أمنية بدأت مع وصول الأسد الابن للحكم (رويترز)

يختلف “أعيان الحرب” عن “أمراء الحرب” كونهم نتاج انتخاب اجتماعي طبيعي، بحسب وصف حوراني، فالمجموعة الأولى حملوا السلاح منظمين أنفسهم وأتباعهم لأهداف سياسية، حماية لحاضنتهم الشعبية، من منحت إياهم شرعية وثقة شبه مطلقة، بعكس أمراء الحرب، وهي فئة دخلت العملية عكسيًا، واصطف وراءهم المواطنين للقتال بدافع امتلاكها للسلاح والعلاقات المؤمنة للموارد اللوجستية، ويعنيهم استمرار الأخيرة كي يستمر نفوذهم وسيطرتهم.

يبدو السابق تفريقا أساسيًا بين بعض الفصائل والشخصيات داخل صفوف المعارضة المسلحة السورية، أو الثورة السورية ككل، بين النظام من جهة، المعتمد على أمراء الحرب في قيادة ميليشياته، والمتحول نفسه لميليشيا كبيرة فقدت السيطرة على أنحاء واسعة من سوريا[11]، ليصبح بشار الأسد نفسه أمير حرب أكثر منه رئيسًا للدولة[12]، وبين فصائل الثورة ذات الشرعية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية بنسبة وتناسب.

في حالة “أعيان الحرب”؛ أعاد النظام اعتماده على شبكات رعوية وفساد وصلت مداها في فترة لبرلة أمنية بدأت مع وصول الأسد الابن للحكم، إذ تحكم الجيل الثاني من أبناء المسؤولين الأمنيين بالمفاصل الاقتصادية للبلاد، متمثلة بالصناعات الثقيلة والاتصالات، ووضع النظام الأمني كلتا قدميه في الشبكة الاقتصادية، ما جعل الفساد ركيزة أمنية.

رامي مخلوف، ابن خال الأسد (مواقع التواصل)

تحولت الشبكات لاحقًا لحالة من “الأعيان” أيضًا بنكهة نظامية، أشخاص ذوو وجاهة، يتصرفون كأمراء حرب، كرامي مخلوف، ابن خال الأسد، والرمز الأوضح لحالة الاقتصاد الأمني بسيطرته على شبكات الاتصالات بحكم قرابته لبشار، مسيطرًا على مليشيات “البستان” النظامية، بينما مول أيمن جابر، رجل الأعمال النفطي والمستثمر بشركة “الشام القابضة” وقناة الدنيا، مليشيات “صقور الصحراء” وفوج “مغاير البحر”، من استطاع استعادة مدينة تدمر من تنظيم الدولة، في حين قام جورج حسواني، وسيط تجارة النفط بين تنظيم الدولة والنظام السوري عن طريق شركته “HESCO”، بتمويل مليشيات “درع القلمون”، المكونة من ألفي عنصر مقاتل نشطين في القلمون وعلى الحدود اللبنانية [13].

بينما اعتمدت الشبكات نفسها على سياسات اقتصاد الحرب [14] ، متمثلة بتفعيل شبكات التهريب، والوساطات بين مناطق النظام والمعارضة عن طريق شبكة من السماسرة المنتفعين، خصوصًا المحاصرة منها، والتي تدفع ساكنيها للاعتماد على التحويلات المالية من الخارج، لتمول الأخيرة مثلًا النظام بمفردها عام 2014 بـ16 مليون دولار[15] ، ومتحولة آنيًا لسياسات إعادة الإعمار، ما ستمر حتمًا بعقبات كبيرة بسبب التشظي السياسي والاجتماعي الكبير، وامتداد تلك الشبكات من المنتفعين[16].

بهذا الشكل، انتقل الصراع بآخر أشكاله لنموذج مثالي لحكم الخاصة كما يصفه فيبر، وهو أن يكون الأعيان حاكمين لذاتهم، وهو ما بدى واضحًا بتحول كل “عَين حرب” لمسؤول عسكري وأمني واقتصادي في منطقته، وتحول كل مجتمع محلي لمجتمع كامل بحد ذاته، بينما ساهمت محاولات وقف إطلاق النار، أو “خفض التصعيد” الأخيرة لتثبيت هذا الشكل وخلق دينامياته الخاصة [17]، ما بين نزاع داخلي بين أعيان الحرب، أو إدخالهم مباشرة في العمليات السياسية دون مرور بالهيئات الجامعة، كما بدا واضحًا بتوقيع جيش الإسلام اتفاقًا مباشرًا مع روسيا في القاهرة بدون أطراف أخرى، ليتحول شكل الحياة السياسية السورية من مدني حضري، لعسكري ريفي، محكومًا أولًا وأخيرًا بالسلاح والعنف.

 _____________________________________________

عن ناصر ميسر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!