((أدب الرحلات و وظيفته الاجتماعية الجديدة ))/ بقلم : إبراهيم موسى النحَّاس/ جمهورية مصر العربية

 

قراءة في كتاب” مذكرات مجنون في مدن مجنونة” للكاتب محمد صوالحة

 

كتب :إبراهيم موسى النحَّاس

استطاع أدب الرحلات أن يأخذ مكانة كبرى على مدار تاريخ أدبنا العربي لِما له من دور في تشويق القارئ من ناحية, و فتح مداركه على أماكن وشعوب كان يجهلها و يجهل جغرافيتها و طبيعة حياتها من ناحية أخرى.

و الكاتب محمد صوالحة في كتابه الجديد (( مذكرات مجنون في مدن مجنونة)) يُقدِّم لنا نموذجًا فريدًا في أدب الرحلة التي اختار لها عددًا من المدن العربية, يأتي هذا التفرُّد على مستوين, الأول هو اختلاف القُرَّاء في تصنيف هذا العمل بين كونه ينتمي إلى أدب الرحلات أو رواية السيرة الذاتية أو المذكرات, لأنَّ الكاتب بوعي و قصديَّة فنيَّة قام بتوظيف السمات الفنيَّة لكل نوع من الأنواع الثلاثة داخل الكتاب,فنجد من رواية السيرة الذاتية أنَّ البطل هو الكاتب و أنَّه يعرض لمشاهد روائية كاملة تجمع بين تدرج الصراع الدرامي و نموه مع التعبير عن أحاسيسه و رؤيته وتوافر عناصر الزمان و المكان و الحدث و الصراع أحيانا, لكن على الجانب الآخر نجد البعض يراه مذكرات لاعتماده على آلية الفلاش باك لمواقف و أماكن متفرقة مرَّ بها الكاتب في حياته, لكن للتركيز على المكان و أهله يعلن العمل بقوة أنَّه ينتمي لأدب الرحلات و إن استفاد الكاتب من أنواع أدبية أخرى كاستفادته من لغة الشعر القائمة على المجاز من تشبيهات واستعارات أحيانًا بنفس درجة استفادته من رواية السيرة الذاتية و المذكرات.

يأتي الجانب الآخر من جوانب تفرُّد هذا الكتاب و هو عدم اكتفاء الكاتب بوصف الأماكن في تلك المدن و لا طبيعة الحياة الاجتماعية من عادات و تقاليد و أطعمة و ملابس أهلها فقط كما هو معهود في أدب الرحلات بل نجد الكاتب يضيف لأدب الرحلة بُعْدًا جديدًا تمثّل في نقد سلبيات الواقع العربي الحالي داخل نسيج الرحلة دون أن يشعر القارئ أنَّ تلك الأفكار مفروضة عليه أو على النص بل جاءت في نسيج الأحداث باعتبارها جزءً من النص و تلك نقطة تُحسَب للكاتب حيث تؤكد على براعته الفنيَّة و تعامله مع أدب الرحلة من منظور جديد يتجاوز الفهم التقليدي لهذا النوع من الأدب الضارب بجذوره في تاريخ أدبنا العربي.

فنجد نقد واقع الإنسان المرير الذي يجعل الطيور في حريتها و استخدام أجنحتها أفضل منه حين يقول في ص 11 في الجزء الخاص بالحديث عن مدينة “الفسطاط”: (( آآآهٍ ما أسعد الطيور و ما أشقى الإنسان, أيَّة حرية هذه التي يدَّعيها,و هو إمَّا حبيس الفقر أو سجين التأشيرات التي يُسمح لك من خلالها دخول أرض شقيق أو بيت صديق, آآآهٍ ما أسعدني لو تحوَّلتُ طيرًا, أرفرف بأجنحتي متى شئتُ, و أينما شئتُ, آآآهٍ ما أضيق العمر لولا فسحة الجمال)).كما يطالعنا الكاتب بنقده لأصحاب تيار الإسلام السياسي الذي لم يأخذ من الإسلام سوى الشكليات فقط من أجل مصالحهم, فيقول في ص29 في سياق حواره مع شخصية ” أبو سليمان” بعد صلاتهما في مسجد الإمام الحسين: (( لا يا عزيزي إنَّهم يأخذون من الدين اسمه و العمامة و إطلاق اللحى فقط, ويستغلون الدين العظيم و القرآن الكريم و بعض الأحاديث لتمرير مصالحهم)).

أيضًا ناقش الكاتب علاقة بعض الفنانين المشهورين بالثقافة حيث نجد بعضهم رغم شهرته يبتعد كل البعد عن صفات الإنسان المثقف, وقد تجلّى هذا المشهد بعد خروجه من السينما ومقابلة الكاتب لبعض الفنانين حيث يقول في ص 31: (( دار نقاش بسيط شعرتُ من خلاله بأنَّهما فارغين ثقافيًّا, فنجوميتهم لم تمنحهم شيئًا, و هذا أثبت أنَّ الفنان لا يستفيد مِمَّا يُقدّم إلاّ الحفظ الذي ينساه بعد أن يُنهي التصوير)). وبنفس الدرجة ينتقد سطحية ثقافة بعض الشباب في الوطن العربي فييقول في ص 112: (( إن الغالبية من أبناء وطني و شبابها لا يدركون من أمور دينهم و دنياهم إلاّ  صراعات الموضة و آخِر ما توصَّل إليه الفيديو كليب و سيرة هذه الفنانة و محاولات تقليدها )). في الوقت الذي تضيع فيه مكانة المبدع و المثقف العربي الحقيقي من خلال حواره مع الشاعر اليمني في رحلته للمدينة المنورة حيث يقول في ص 98: (( بعد أن استمعتُ إليه لعنتُ كلَّ وزارات الثقافة في الوطن العربي و التي تبخل على بنيها بإيصال أصواتهم لأشقائهم و أصوات أشقائهم إليهم, ملعونة هي كل وسائل الإعلام و وزاراتها و التي تهتم بالعُري و الفذلكات أكثر من اهتمامها بمثل هذا المبدع العربي)).

تناول الكتاب الموقف العربي السلبي تجاه قضيتهم الكبرى قضية فلسطين حين يقول في ص63 في سياق رحلته إلى مدينة السلط: (( أنظر إلى الغرب فأشاهد خضرة الأغوار و أنوار القدس فيأخذني الحنين إلى مسرى رسول المحبة و الإنسانية, وتتقد في الروح نيران الغضب على إخوة سمعوا معي أنين النهر و وجع الباذان, سمعوا معي صرخات جبل النار و دموع يذرفها الأقصى و تشاركه القيامة, سمعوا و صمتوا و تركوني وحدي مع أخي هناك نتقلب على جمر الجرح و ابتعدوا)).

ليأتي بعد ذلك النقد الجارف الشديد لواقعنا العربي بوجه عام في سياق الحديث عن رحلته لمدينة البتراء العظيمة حيث يقول في 76-77: (( هي وحدها التي جعلتني أطرح سؤالي على صخورها دون خوف أو خجل, إن كنت قد رحلت لمدن النسيان ردحًا طويلًا من الزمن, من أين ورثنا نحن نشوة الهزيمة و الفخر بالتبعية و الاعتزاز بالانكسار و المباهاة بتسمية الهزائم و الانكسارات؟ فمن نكبة إلى نكسة إلى تحرير كاذب ثم عاصفة الصحراء و حرب للخليج سُمِّيَتْ بالأخيرة, ها نحن نسفك دماء بعضنا)). لهذا كان من الطبيعي أن يراها أمَّة لا خير فيها حين يقول في ص258: (( كُنَّا في زمن نزرع لنأكل, و نصنع لنلبس, كُنَّا نقاوم الاستعمار, أمَّا أنتم الآن, فأمَّة مارقة لا خيرَ فيها و لا جدوى لوجودها)).

من هنا يمكن أن نقول إنَّ أدب الرحلات أخذ عند الكاتب محمد صوالحة وظيفة جديدة تمثلت في استخدامه لعرض رؤية الكاتب القائمة على نقد الواقع السياسي و الاجتماعي من أجل حياة أفضل, ومن أجل واقع أجمل يجب أن يكون عليه المكان و الإنسان.

 

 

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!