إضاءة على رواية “صداع في رأس الزمن” بقلم الروائي. محمد فتحي المقداد

لصحيفة آفاق حرة

 

 

 

إضاءة على رواية

(صداع في رأس الزمن)  للروائي (عواد جاسم الجدي)

بقلم الروائي محمد فتحي المقداد.

لا يستقيم  أمر أي كاتب أو مفكر إلا بذاكرة متوقدة، سيّالة بسخاء كما عند الروائي “عواد جاسم الجدي”،  وهو المصاب بنزيف ذاكرته: (فمن يسعفني بعلاج يداوي نزيف الذاكرة؛ إذ كلما استيقظت صباحاً وجدتُ ياسميناً أحمر تناثر على خد الوسادة…!!)

ولولا أن جادت ذاكرته بهذه الفيوضات الراعفة بالدموع والأحزان،  وكأنه رسم في روايته “صداع في رأس الزمن”  درب الآلام الذي سلكه السيد المسيح عليه،  افتداء لأتباعه.  وفي هذا وغيره فقد أخذ أدب الثورة السورية،  خاصة الأعمال الروائيّة التي فاقت الخمسمئة عمل خلال السنوات التي خلت،  خاصية التشابه في كثير من معطياتها، ومسبباتها ومخرجاتها، لا أقول أن التشابه وصل حدّ التطابق،  أبدًا،  إنما هناك قدرة الكاتب،  ودرجة ثقافته،  وقدرته على التحليل والمقارنة،  بالإضافة إلى التمكن اللغوي والنحوي،  وغنى معجمه بالألفاظ والكلمات ومحفوظاته.

وبالتوقف  في رحاب الغلاف الأمامي والخلفي،  تأملت اللون الأسود،  فهل جاء ذلك عبثًا أو اعتباطًا،  بالقطع أقول: لا،  وإنما ليخبرنا المؤلف ومن ورائه المصمم الذي قام  بالاستماع لآراء الروائي،  واستنار بكلامه ورؤيته لفكرة الغلاف بشكل علم،  كل ذلك  ليخبرنا: أن الحياة  في سوريا أصبحت  سوداء قاتمة لا تصلح  لحياة البشر في أمان واطمئنان. كذلك اللوحة ذات البعد السوريالي،  فيها إشارات ودلالات الموت والقلق  والحزن والخوف،  وليس فيها حالة واضحة لكثرة الاختلاطات والتهويمات بتداخلات يصعب فهمها الشكل الصحيح  والأمثل،  إنما هي تحكي بصريح العبارة: “هذه هي حال سوريا،  وحال شعبها”. وبذلك تكون اللوحة وخلفية الغلاف الأسود: هما عتبة الرواية الأولى التي تسبق العنوان تمركزا بمساحة أخذت معظم الصفحة،  لتزرع في ذهن القارئ مساحة الخراب والدمار  للحجر والبشر.

وللمتأمل في صفحة الغلاف الخلفية السوداء للرواية،  تتضح فكرة الثورة السورية من أقصى الجنوب  إلى أقصى الشمال،  وكذلك من أقصى الشرق إلى البحر المتوسط. وحالة التجاوب  الشعبي في جميع بقاع سوريا بلا استثناء،  وكسر حاجز الخوف من القلوب،  وتحررت العقول والألسنة لتهتف للحرية،  بعد عقود من الظلام الدكتاتوري. فيقول الروائي:

(کنت یا صديقـي كـعـود قـصـب، وجـدة راع قليـل الخبرة جففه عـلـى النـار، وثقبـه بالـنـار أيضُ؛ ـا ليـصـنـع منـه نـايًـا لكنه أخطأ عـدد الثقوب ومواقعها، ولَأْيًـا حـاول العزف عليـه فلـم يفلح، رمـاه، واستقر به المقـام بيـن صخرتين؛ فكلما هبت الريح عليـه عـزفـت لحنًا شجيا لعـل أشجاها وأكثرهـا يُتمًـا تـلـك التـي تعزفهـا الـريـاح الهابةَّ من الشرق.. لـو أخذتـه بيـدك، ومــررت فـي أحياء الخالدية أو بابا عمـرو فـي حـمـص، أو بحـي الشيخ ياسين أو المطـار القديـم فـي الدير، أو فـي داريـا ودومـا وحرسـتـا حـول دمشـق، أو فـي أحـيـاء أخـرى مـن حـلـب ودرعـا والرقـة المدمـرة وعزفـت عليـه لتفطـر قلبـك يتمـا وحزنا ولشعرت بصداع يبدأ في رأسك حيث ينتهيذات الصـداع لا يعصـف برأسـك وحـدك… إنـه صـداع سرمدي في رأس الزمن).

بعد الغلاف يمكن الولوج  إلى رحاب تأويلات العنوان المُحكَم بكلماته الأربع: (صداع في رأس الزمن).

(صدَعَ: (فعل) صدَعَ / صدَع الحائطَ ونحوَه :شقَّه، كسره دون انفصال أجزائه صدَع بالأمر: أظهرَهُ، بيَّنه وجهر به دون خوفٍ صَدَع بالحقِّ، وصَدَعَ النَّبَاتُ الأَرْضَ : شَقَّهَا، ظَهَرَ مِنْهَا حَاكِمٌ يَصْدَعُ بِالْحَقِّ : يَنْطِقُ بِالْحَقِّ جِهَارًا وَعَلاَنِيَةً، يَجْهَرُ بِهِ الحجر آية 94فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (قرآن) يَصْدَعُ بِالْحَقِّ وَيُجَاهِرُ مُصَرِّحاً بِآرَائِهِ وَمَبَادِئِهِ. والصَّدْعُ : الشقُّ في الشيءِ الصُّلب زاوية الصَّدع الرَّأسيَّة: (البيئة والجيولوجيا) زاوية الميل عن الوضع العموديّ لعرق أو فلق في طبقة الأرض.

الصُّدَاعُ: وجع في الرأْس تختلف أسبابه وأنواعه،  وصُداع نِصفيّ: ألم حادّ متكرِّر يصيب عادة قسمًا واحدًا من الرأس، ويرافقه عادة غثيان واضطرابات بصريّة).

كما تبين من متابعة بعضًا من مادة “صدع” قاموسيًا أن معانيها،  وفي المجمل (الاحتواء، الشق،  الكسر، الإظهار). فعلى هذا الأساس ممكن تفسير الكلمة لي العنوان بانزياحيتها المتأرجة بين المادي والمعنوي،  وصيغة التشبيه بين الزمن والإنسان،  فالرأس مادي من لوازم الإنسان في هذا الموضع المستخدم هنا،  بينما جعل الرأس المادي يحجمه للزمن المعنوي غير الملموس،  بينما آثاره هي التي تظهر وتبدو. وكأن الزمن إلى الأبد لم يرتاح،  للصدع السوري الذي يسبب الصداع للعالم  أجمع بضميره الغائب عن ماساة الشعب السوري.  غير المسبوقة في تاريخ البشرية أجمع.

بعد الإطلاع على الرواية ومجريات أحداثها  السردية،  توصف : بأنها سجل صادق واضح بمثابة وثيقة تاريخية معتمدة لقادم الأيام وللأجيال وللدارسين والباحثين.

جاءت رواية بعد إحدى عشرة سنة على انطلاق الثورة السورية في 15/3/2011.هذه الفترة رصدتها الرواية بدقائق تفاصيلها  الكثيرة والمتشابكة،  فقد تجاوزت حاجز الأربعمئة صفحة بقليل. فطولها مبرر لأنها استجابت لجميع التداعيات،  اعتبارًا من أول مظاهرة هتفت للحرية،  إلى الارتداد القاسي والهمجي للنظام  باستخدام القصف  بكافة أشكالخ للمدن  والقرى  على  حد سواء،  ونصب  الحواجز وتقطيع أوصال جغرافية الجزيرة السورية،  التي هي المسرح الذي وصفته الرواية،  كما أن الاعتقالات والمداهمات.  تمهيدا لدخول تنظيم الدولة الإسلامية الإرهابي،  الذي جاء استجابة لتخفيف الضغوط على النظام  المتداعي والمتهاوي الذي كان على وشك السقوط في مزبلة التاريخ،  إلى مجيء تدخل للميليشيات الإيرانية وما يتبعها من تنظيمات طائفية،  قتلت ودمرت البنية الحقيقة للثورة،  وصولا الى التدخل الروسي الذي اتبع سياسة الأرض  المحروقة، إضافة لتواجد القوات الأمريكية والفرنسية عند منابع  النفط والغاز،  واللعب بالورقة  الكردية وتنظيماتها الميلشوية التي لم تكن بأقل همجية من الميلشيات الإيرانية وقطعان ميشليات النظام. وأظهرت الرواية  الوجه الآخر للحرب بمخرجاتها القذرة،  التهجير الجماعي وتغيير الديمغرافية السكانية للمنطقة،  وفرار الأعداد الكبيرة خارج سوريا إلى دول الجوار ومنها ركبوا قوارب الموت في البحر،  طمعا بالأمان وحياة كريمة باحتمال كل هذه المخاطر الفظيعة.

وفي الختام،  تعتبر رواية “صداع في رأس الزمن”  للروائي “عواد جاسم الجدي” مُخرجًا ثقافيًا واقعيًا بتوصيفاته للحال الذي آلت إليه الأوضاع  في سوريا من سزء وضياع ودمار شامل،  اعتبارًا من الإنسان وللاقتصاد والبنية التحتية،  وواقع الاحتلال الأممي بكافة تمظهراته. كل ذلك تفاعلت به الرواية بحركة أبطالها داخل النص  السردي،  مما جعلها سلسة القراءة منسجمة بتركيبتها السردية زمانيا ومكانيا، كمل أن اللغة السليمة نحوا وصرفًا وتركيبات جملية وأدبية.  ولا شكّ أنها جهد عظيم استغرق الكاتب سنوات، مشكور على جهود بإهاجة تدوير الواقع لجعله مادة  أدبية مقروءة على نطاقات واسعة،  وبتقريب الخيال من خط الواقع؛  لتتكامل الرؤية والانسجام في مستويات الرواية السردية. بهذا شكلت مساحة سورية في بلاد الاغتراب والعالم، لتبرر انتقال السوريين إلى غير بلادهم،  ولمعايشة ثقافات جديدة وبعيدة عم قيمهم وأخلاقهم  وعاداتهم وتقاليدهم.

 

عمّان –  الأردن

16/ 9/ 2022

 

 

 

 

 

 

 

عن محمد فتحي المقداد

كاتب وروائي. فاز بجائزة (محمد إقبال حرب) للرواية العربية لعام 2021م. الروايات المطبوعة هي تشكيل لرباعية الثورة السورية. -(دوامة الأوغاد/الطريق إلى الزعتري/فوق الأرض/خلف الباب). ورواية (خيمة في قصر بعبدا)، المخطوطات: رواية (بين بوابتين) ورواية (تراجانا) ورواية (دع الأزهار تتفتح). رواية (بنسيون الشارع الخلفي)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!