الذائقة الأدبية بين الاختلاف والاختلال / بقلم : زينب السعود

الذائقة الأدبية قضية شغلت الأدباء والنقاد والناشرين والقراء وكل من له علاقة بمجال الأدب والفنون عامة . وما زالت الأسئلة التي طُرحت منذ بدء الإنسان أنشطته الفكرية المبتكرة التي تستند على ملكات الإبداع والتفنن ، ومحاولات الارتقاء بالنصوص المكتوبة خاصة ( وهي مجال ما أناقشه ) حاضرة في كل مناسبة ، يكون الأدب محورها نثرا كان أم شعرا . ما الذي يجعلنا نستمتع بعمل أكثر من غيره ؟ وما الذي يدفعنا للحكم على نص بأنه جيد ، حسن ، جاذب ، ممتع وما شابه هذه الأوصاف من الأحكام التي نطلقها عادة للتعبير عن مستوى تقبلنا للنص وتفاعلنا معه. لماذا بعض الأعمال تثير الشغف لدى القارئ وبعضها يقابل بالفتور أوالنفور؟ إذا أردنا تيسير الإجابة وتعسيرها في ذات الوقت نقول : الذائقة الأدبية . الذائقة ترادف التذوق في المعنى ، والتذوق يعتمد عادة على إحدى الحواس أو اثنين أو أكثر. بمعنى أن حكمنا على الأشياء يستوجب لمسها أو شمها أو سماعها أو التعرف إلى مذاقها . فماذا عن الأدب بوصفه نسيج فني يتكون من لغة ومشاعر وأفكار وانفعالات .والسؤال الذي يظهر بعد الأسئلة السابقة : هل تذوق النصوص الإبداعية يتم بنفس الطريقة التي نتذوق بها صحنا من الحساء مثلا . بالتأكيد الأدوات مختلفة ولكن المفهوم العام- وهو إصدار حكم – واحد في المبدأ . دعونا نؤصل لهذا المفهوم ونبدأ بالرجوع قليلا إلى أبجديات العلاقة بين النص والمتلقي . العرب بطبيعتهم ميالون إلى الكلمة الجميلة ، سريعو التأثر بها ، وهي صفة يتشارك فيها البشر وليست خاصة بقومية دون أخرى ، لكننا نجدها عند العربي متجلية واضحة ، العربي الذي جعل للشِعر سوقا في الجاهلية ، والذي ينتمي إلى أجداد كان إذا بزغ نجم شاعر في قبيلة ما هابوا تلك القبيلة وأنزلوها منازل الإجلال إذ أصبحت تمتلك منبرا إعلاميا يرفع أقواما ويحط أخرين .ومن يقرأ المعلقات يعرف كيف كان الشعراء العرب يستخدمون اللغة كأنها مطية يشكلون الكلمات والمعاني والصور كما يشكل الطفل عجينة الصلصال ، يتفننون في رسم صورهم مدحا أو هجاء أو ما بينهما من الأغراض التي طرقها الشعر العربي .ولعلنا نتفق بعد هذا أن الذائقة الأدبية تتكون من القدرة على فهم النص وأفكاره وتقييم ألفاظه وتراكيبه وربط التصورات الخيالية فيه ، والتعامل معه بمهارات التفكير العليا: التحليل والتفسير والمقارنة وغيرها . ولكن كيف تتشكل هذه الذائقة ؟ وما الحامل لها ؟ النص أم المتلقي ؟ يقول عمار علي حسن – وهو باحث في علم الاجتماع- ( النص وسيط شفاف لإيصال تجربة المؤلف إلى القارئ ) بما يحمله من جذب وتشويق وإشباع . وبعده تأتي خلفية القارئ وما تشكل في وعيه من تجارب وأفكار وقناعات ومحاكمات عقلية .وهو بذلك كأنه يتعارض مع التفكيكيين – ورائدهم جاك دريدا- الذين سلبوا النص كثيرا من قوته واعتبروا ( أن كل قراءة هي إساءة قراءة ) . فهل نستطيع فعلا اعتبار القارئ هو المنتج الحقيقي للنص ؟ بينما يرى الكثيرون من النقاد والأدباء أن الذائقة تتربى مع الإنسان وتُصقل كما تُصقل موهبته . وتتدخل عوامل كثيرة في صنعها وبلورتها مثل الوسط الاجتماعي ووسائل الاعلام والمدرسة والجامعة وغيرها .وفي المجمل يمكننا القول أن النص مهما بلغت جماليته فهو يتطلب ذائقة تشكلت عبر مراحل ، ونمت نموا طبيعيا . ولن يتمكن نص من ملامسة وعي القارئ ما لم تكن هناك أسس جمالية متأصلة في نفسه وعقله .وهذا ما يقودنا إلى الحديث عن نظرية البعد الثالث . يتحدث حسين حماد في مقال منشور في جريدة الشرق الأوسط عن وجود بعد ثالث بين النص والمتلقي ، الوسط البيئي الذي يولد العمل في ظله والجمهور الذي يتلقى العمل والذي يشبه الإطار الذي يحيط بأي نص .أي ان الذائقة تتشكل عبر إطار تراكمي من الخبرة الإنسانية الحياتية والبيئية . ولا يخفى على دارسي الأدب ومتخصصيه أن عبد القاهر الجرجاني رحمه الله من أوائل من تكلموا عن الذائقة الأدبية فيه كتابه البديع ( أسرار البلاغة ) ، ولعل الجرجاني أيضا من أوائل من تكلموا عن وجود أسباب لاستحسان الأدب ولو قرأنا تاريخ الأدب قبل عبد القاهر نكاد لا نجد كلاما عن أسباب الحُسن إنما نجد استحسانا فقط ، فقط كان من قبله (يستحسنون ولا يتكلمون) كما يقول الأستاذ الدكتور محمد أبو موسى . وقد أورد الجرجاني في بداية كتابه ( لا بد لكل شيء تستحسنه من علة ) أي سبب ، وهذه حقيقة . ولكن المشكلة أنه قال ( أنك تستطيع أن تتبينها وتعبر عنها وتعلمها ) . وهكذا فقد تنبه الجرجاني باكرا إلى أن القضية هي إخضاع ما في الذائقة البيانية للأصول العلمية حتى تصبح علما يتعلمه الناس . نحن متفقون أن الذائقة تختلف والأصل أن يكون اختلافها مبررا إذا كنا نتكلم كلاما علميا ولكن هل فعلا هناك اختلال في الذائقة الأدبية ؟ وما مظاهر هذا الاختلال؟ دعوني أستشهد بفكرة جميلة للكاتب أحمد خالد توفيق في كتابه ( اللغز وراء السطور) . يتساءل سؤالا يلح دائما حول أي عمل أدبي : لماذا تمتعنا هذه الرواية وتثير الأخرى مللنا ؟ ولماذا هذه الفقرة جميلة وتلك مفككة ؟ والجواب لديه أن رسالة كهربية غامضة منبعثة من اجتماع الحرف إلى الحرف والكلمة إلى الكلمة هكذا حتى يكتمل الجمال .فماذا لو لم تصل هذه الرسالة الكهربية إلى القارئ ؟ وماذا لو كان النص ذاته فقير بهذا التيار ؟ وماذا لو حدث تنافر بين كهرباء النص العالية وسكون مثيلتها لدى المتلقي أو العكس ؟ ألن ينتج عن ذلك علاقة مشوشة بين الفهم والتذوق والنص؟ لنا أن نتساءل الآن : أين يكمن الاختلال في الذائقة الأدبية بناء على ما تقدم؟ وأجمل الجواب وأكثفه في عدد من النقاط وأبدؤها بأولا : عدم امتلاك القدر اليسير من أدوات النقد التي يحتاجها القارئ ، وهذا لا يعني أن يكون القارئ ناقدا ففي النهاية نحن نستحسن ونستقبح فطريا أحيانا ودون سبب ظاهر في كثير من الأحيان،

 

تربوية وناشطة في مجال التدريب اللغوي وكاتبة

صدر لي رواية ( الحرب التي أحرقت تولستوي)

 

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!