الرمزية التاريخية ،وتعويذة إبداع مابعد الحداثة “

  • نقد وتحليل أسامة

رغم تعدد فنون اللغة ،والأدب ،والتعبير يبقى للشعر وقع في النفس وتأثير أخاذ،وجاذبية ،ومتعة خاصة ؛ فهو بما يضم من فنيات ،ووجدان ، وفكر ، يجعل المتلقي يتجاوب معه ويتماس ، ويستمتع بتلقي الشعر ويسعد به .
الشعر ذاتي ينبع من عاطفة الشاعر ،وقدرته على التعبير عن مشاعره وأحاسيسه ،في إطارمن الجماليات ،وفنيات الإبداع
وشعر النثر ..له آليات وضوابط أهمها توفر الإبداع والتجديد في الصورة والعمق الفكري والشعوري ، واستخدام الرمز والاسقاط التاريخي
والإيجاز ، ورسم الصور الكلية ..والغوص داخل الذات والتعبير عنها.. ومحاكاتها بالطبيعة ..والاعتماد على الإيقاع والموسيقى الداخلية ، وقوة الجملة والدهشة .والتعبير عن الحداثة وما بعدها..
ونجد ذلك جليًا في ديوان” تعويذة قلب”للشاعرة التونسية
“بسمة المرواني “فالشعر هو تعويذة القلب التي تمنحها القوة ،
والتحدي ، تتحصن بها وتواجه الشر؛ لتحافظ على النور والنقاء والصفاء ، إن الشعر عبور لهدأة النفس واكتشاف ماهية الحياة والموت ..
لذلك تقول :-
الكتابة معزوفة السكونِ
سرج النهايات المؤلمة
الحديث صلاة الفراغِ
والأمل وحي الأبالسة
والشعر معراج المعنى ..
فهي تظهر التماسك والهدوء ،رغم أجيجها الداخلي ..
فتقول :-
تعويذة قلبي
خفية ، هادئة في نيرانها
صادمة في صمتها
وصدحها آزٌ في الشمس..
نحن أمام ديوان يفتح الباب بمصراعيه على ما بعد الحداثة ..
فالشاعرة تستخدم القص الماورائي ،والمعارصة الأدبية في آن واحد …فقد استخدمت الماضوية ووضع الأجزاء والجمل بشكل متسلسل لخلق حساسية تحاور بين الماضي والحاضر
واستخدمت الرمز التاريخي والإسقاط كثيرًا ، ونجد ..
البعد الثقافي والتأثر بالحضارتين الإغريقية والرومانية ..
وما بهما من حقائق وأساطير ، وتعتمدكذلك على التراث الديني ..
تصرح بذلك فتقول :- في قصيدة شموخ بنفسجة :-
أخلع بالرمز قمصان اللغةِ
أربك الكتابة بدلالات الغيماتِ
أطل بشموخ بنفسجةٍ
نجت من ذوبعة
فهي تعتز بنفسها وعفتها مثل” هيستيا “الإلهة اليونانية
فتقول أرنو إلى تفاصيل حياة “هيستيا ”
من المتحذلقين الزائفين
فهي رمز للصمود والعفة والاعتزاز بالنفس .
وتقول في قصيدة” صاد الصمت ”
حلقت بجناحين حيث
جبل” أوليمبيوس ”
وتقول في قصيدة يا أيها المساء
أخيط المحال في دروب الياسمين
ساطعة بهيبة “هيرا ”

….يشير هذا إلى الفوضى الزمانية التي تحمل ثغرات في التفاصيل والمكان ، فالقصائد على درجة كبيرة من التكثيف ..ورغم ذلك تحمل أبعادًا تاريخية ، وأحداثًا جسامًا ،لها أثرها فيما بعد وهذه الفوضى الزمانية من سمات ما بعد الحداثة ..
تستخدم التاريخ لتأكيد الحاضر والاستدلال عليه ..في إطار من السخرية والتهكم والكوميديا السوداء تارة ، وتارة أخرى
للتعبير عن الأنوثة الطاهرة في قوتها وثباتها .
وظهر ذلك بدمج أحداثٍ متفرقة ،وبضم شخصيات تاريخية للنص ليست هي المقصودة لذاتها ؛
وإنما التشبيه والتمثيل والرمز ويكون ذلك بالإيحاء لا بالتصريح .. وتعتمد على الفوضوية التاريخية ..والحوار الدقيق والتكثيف والتلميح ، وإعمال الذهن ،من خلال التساؤل والربط بين الأحداث واستخلاص الهدف والغاية .
لقطات متفرقة بين الماضي والحاضر ،وبتجميعها وصناعة المونتاج لها ” يظهر المغزى ..

فالشاعرة هنا تستخدم التفكيكية في النص ، تعدد الدلالة ومنح القارئ دورًا حيويًا ؛لاكتشاف النص وإعمال ذهنه .فهي بذلك تشرك القارئ معها؛ليعيد المتلقى تفكيك النص مرة أخرى من أجل اكتشافه وتحليله.
ونجد تأثير ما بعد الحداثة في المرجعيات التاريخية وفي توظيف الرموز داخل الديوان وتوظف الحروف والأرقام والتناص ؛لمحاكات المشاهد بصورة غير مباشرة من خلال تلك الرموز المتداخلة في النص ، وبتراكيب مختلفة ،وبتقنية خاصة .
لقد شكل الحنين إلى الماضي ومحاولات استعادته عبر الإحياء الانتقائي لمجموعة عشوائية من الرموز والصور والدلالات التي ترتبط به، أحد أهم مظاهر ما بعد الحداثة.
عند الشاعرة ، فالنوستالجيا، أو نزعة الحنين إلى الماضي، من وسائل ما بعد الحداثة لتجاوز الواقع ،ومحاولة.
إنتاج عالم مواز للشاعرة
ورغم ذلك نجد الصدق العاطفي والروح القوية التي تجعل القصائد كائنًا حيًا يشع حيوية..وحياة ..
فهي تجمع بين العاطفة والوجدان ،والعمق الفكري الفلسفي
مما يجعل القارئ يتماس معها ويعيش الحالة والرؤية ..
ونجد ذلك في قصيدة “طارت حماتي ”
وطات حمامتي
مات الأبيضُ
وتيتم الجبين
غادرته النقيةُ
إكليلة الورد.

نجد كذلك البعد الصوفي في قصيدة ” يد من رحيق الصفاء ”
تعرت الروح لرذاذ النورِ
اتسع وتبني بصدقٍ قدسيٍّ
رسمت كلماتي من شعب الحبرِ
وفي قصيدة “..قصيدة” بياض الياسمين ”
تقول :- ففي بياض الياسمين
كم خبأت اتقاد الجمرِ
إنه البعد الخامس الذي تسمو به وترقى ..
…اللغة سلسة عذبة والصور في مجملها تعكس الحالة ..
ولكن الإكثار من الرمز أفقد الصورة التوهج في بعض المواضع ..
——؛؛؛؛؛؛——-
ديوان رائع ؛يجمع بين جمال اللغة ودقتها وعمقها الدلالي وبين فنيات القصيدة الحداثية ، ونهج مابعد الحداثة وظهر ذلك في التكثيف ..والرمزية والإسقاط ..والمشهدية العالية ..والصور المعبرة عن الحدث والماورائية ،والفوضوية التاريخية..

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!