الشعر كمخلص / يقلم الشاعر يوسغ عبد العزيز

تعد تجربة  الشاعر ( شربل  داعر )  واحدة  من التجارب المتميزة  في  الشعر  العربي  الحديث ، وهو منذ  مجموعته  الأولى  ( فتات البياض ) التي أصدرها في  العام 1981،  اختار لنفسه  مناخا  خاصا   ومسارا  مختلفا في الكتابة ، لم  يعجبه  السائد الشعري  العربي ،  ولا تلك القصائد المنبرية  التي تتصصب  بالصراخ  والشعارات الجاهزة ،  بدلا من  ذلك أمسك  بغيمة  وسافر في الأمداء  البعيدة  لا ليصل  إلى غاية  ومستقر ، بل  ليبقى  حائرا وملجلجا أمام  القصيدة  . ولعل  في  شعره  ما يوضح  هذا التيه  الجميل ن  حين  يقول  ”  لا يصل  الكلام  ، بل  يسير “ .

ولذلك  عليك  حين  تذهب  إلى  تجربة  شربل  لتقرأها  ، أن  تتخفف من  تصوراتك المسبقة  حول  الشعر ، عن سببه  وغايته ، عن الرسالة التي  يحملها أو لا يحملها ،  وبدلا من ذلك  أن تمضي  مع الكتابة  إلى  لعبتها الأثيرة ، وضلالها  البعيد،  شربل  هنا  لا يريد من القصيدة  سوى أن تزلقه  إلى  طفولته  ، ليشاغب  بحرية ، ليتسلى   ويعيد  تشكيل  العالم ، ها هو يقول  في  قصيدة  له  ، وهي  يعنوان ( حاطب الليل ):

” حلم  مبهم  يدرج
في  بنطلون قصير ،
يداه  تقلبان غيمة ،
ورجلاه مجذافان في نهر . 


مثل  هذا  الحلم لا يناسب غير أولئك الشعراء الأوائل ( الأطفال )  الذين  يهدمون  الكون   ويبنونه  بخيالهم  الهائج   المجنّح .
من الأفكار  الأخرى  المهمة  التي تتصل  بفكرة  اللعب  في  الشعر ، والتي  تطرحها  تجربة  شربل ، فكرة  تدور  حول الطرف  الآخر  الشريك في الكتابة ، هنا  قد يتبادر  إلى  الذهن  أن  هناك  ناقدا  ما ، أو جمهورا  معينا  يحضر  لحظة الكتابة  ،  ويوجه  الشاعر  إلى غاية  معينة ،  لكننا  حين  ندقق النظر  فيما  يكتبه شربل ، فإننا  نجد  أن  الشريك  الذي يكتب  معه  ما هو  إلا  النص  نفسه ،  كيف يمكن  أن  يكون  ذلك ؟، بعبارة  أخرى ، كيف تكتب القصيدة  نفسها ؟،  في العادة  تتسبب في  الكتابة فكرة ما ، حدث ، تذكار ، ، هنا ثمة شرارة  تنقدح  في الرأس ،
فترتعش تلك الظلال  الغربية وتتموج .  ثم شيئا قشيئا تفسح تلك الظلال عن  ظهور  شقوق دقيقة ، دهاليز  وممرات . كلما أردنا  أن نضع  حجرا في  جدار  النص ، كلما تطلب النص  منا  أن نختار  ذلك  الحجر  ونبنيه  كما يريد هو .
اعجبتني  مرة عبارة للفنان  ليوناردو دافنشي ،  الذي  يقول  فيها  : “ المنحوتة  موجودة  في  الصخر ، وما على الحات  سوى أن يقشر  تلك  الطبقة  السميكة  التي تحيط  بها ”  ولذلك  فالنحات  يقشر  تلك المنحوتة  بناء  على  طريقة  معينة  تناسبها .
لكن لنفترض  أن العكس  هو الذي  حدث ، أعني أن الشاعر تدخل  بشكل  سافر ، فلجم اللغة  وطوعها  لغاية ما  في نفسه ،  فما الذي يمكن  أن نراه  ثمة قصيدة مدهشة  تجيبنا على هذا  التساؤل ، وهي  بعنوان : (نصيحة ) ، في ديوان آخرر للشاعر  بعنوان ( القصيدة  لمن يشتهيها ):

لا تطلباستنطاقها
 لا تدعها  تُرافع 
لأنه – إن فتحت فمها  بكلام – 
سقطت الوردة  من بين شفتيها ، 
 وبقيت في  توقيف احتياطي .

وفي مثل  هذه الحالة فالنتيجة  ستكون  قاسية : ( وبقيت  في  توقيف احتياطي )، أي أن  الشاعر  سيتوقف  عن كتابة  القصيدة ،  فلا تكتمل لديه .
ثمة  صعوبة  واضحة  في قراءة  شعر  شربل ، ولم يتفصد من  شقوق  غائرة  في لحم  النصوص  التي يكتبها ، وعلى الرغم  من  وجود  الطفل  الذي يلعب ،  ويحتفل  بما ينجزه  له  خياله  من صور  ساحرة ، إلا أننا  نلاحظ  هنا القسوة البالغة  التي تحتل المشهد ، والمأساة  التي تتدحرج  في سفوح النصوص  ، ربما يعود السبب  في  ذلك  إلى اللغة  العاجزة  عن البوح ،  ولذلك  فقد نقرت على شباك  البياض ،  يقول  الشاعر ،  ويضيف :

“حتى طفر  وجهي / الذي تاه  في  هبوب  الخطى  وغبشالظنون / فكيف  لا أسبر  الهيئات العابرة  وأجلو تجوالي ” ؟.  

أما  مأساة الوجود كلها  ، فتتكثف في  قصيدة  له بعنوان  ساعة رمل ، إذ يقلفيها :

”  ساعة  الرمل 
تضيق  بحباتها  الأخيرة 
 تغص في  نزولها  الضيق 
 في عنقي 
 في  حنجرة  الخفاء “. 

 ياللرعب ! فالجسد  هنا  أصبح  مجرد  ساعة رملية ، أما  حبات  الرمل  الأخيرة فيها ، فهي  تشي  بالوقت  الضئيل  المتبقي  من الحياة ،  والحبات  تهبط  من خلال  العنق لتسقط في  حنجرة الخفاء ،  هنا ثمة رعب  من نوع  خاص ،  فربط الحنجرة  بالخفاء  يثير  لدينا  السؤال  التالي :  ما الذي جعل  هذه  الحنجرة  التي تندلع  بالصراخ ،  تصمت  على هذا النحو ، بل  وتمحو  أي  أثر  لردة  الفعل التي  يمكن أن يقوم  بها  هذا الكائن  المغلوب على أمره ؟.
قصائد كثيرة كتبها  شربل داغر  تفصح عن هذا الرعب  الذي  يسم  الحياة  ،  والعمر  الذي  يتشظى  ،  وتتناقص  سنواته  ، سنة بعد سنة ،  حتى يصل الشاعر  إلى هذه  الحالة المواربة ،  والتي تتضح في قصيدة  له بعنوان ( وليمة قمر )  يقول الشاعر :

” لا يسعني  الوقوف 
 حيث تنتظر أمي  استقبالي 
 فدرجي  لا يصل 
 يفضي  وحسب إلى فجوة  
 هي  أقرب  إلى منفذ نجاة 
 لا إلى نجمة ميلاد “. 

 نتيجة لهذا  الوضع القلق  الذي يعيشه  الشاعر  ، فإنه  يهرب  باتجاه الشعر ،  فلعله  يجد  فيه  قليلا  من الاحة ،  ويسترد  في فضائه  بعض الأنفاس ،  التي تمنه  من الحياة  وتفتح أمامه  أبواب  الأمل  من جديد ،  ثمة  مجموعة  شعرية كاملة  كتبها  الشاعر  احتفاء  بالشعر  ،  ونقصد  بها  مجموعته التي  بعنوان : ( القصيدة لمن يشتهيها ).
في هذه المجموعة  يحتفل  الشاعر  بالشعر  بالشعر  كمخلص ،  ويجدفيه الوسيلة  الأقوى  لمجابهة  الأزمة  الوجودية  التي  تفتك  بالإنسان .  الغريب  في الأمر أن صورة  القصيدة في  نصوص  هذه  المجموعة تتماهي مع  صورة  المرأة ،  مما  يجعل  الشعر  يبدو  زاخرا  بمعاني  الحب  والنشوة ،  ولعل  الشعر  والحب  شيء  واحد  كما  يؤكد  على ذلك  الشاعر  المكسيكي  أو كتافيو  باث  في  كتابه ( اللهب  المزدوج )،  فكلاهما  الشعر  والحب يمتحان من الينابيع  نفسها ،  ويتبادلان  الأدوار ،  شربل  في  قصيدة له بعنوان ( لمن يشتهيها ):

” القصيدة لا تنام ، ولا تواعد أحدا 
 تتمشى أمام  مرآتها 
 من دون أن تمسك  بضفيرتها 
 لعوب ، وجسورة 
  تعطي  قبلتها 
 لمن يشتهيها “.  

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!