تعد تجربة الشاعر ( شربل داعر ) واحدة من التجارب المتميزة في الشعر العربي الحديث ، وهو منذ مجموعته الأولى ( فتات البياض ) التي أصدرها في العام 1981، اختار لنفسه مناخا خاصا ومسارا مختلفا في الكتابة ، لم يعجبه السائد الشعري العربي ، ولا تلك القصائد المنبرية التي تتصصب بالصراخ والشعارات الجاهزة ، بدلا من ذلك أمسك بغيمة وسافر في الأمداء البعيدة لا ليصل إلى غاية ومستقر ، بل ليبقى حائرا وملجلجا أمام القصيدة . ولعل في شعره ما يوضح هذا التيه الجميل ن حين يقول ” لا يصل الكلام ، بل يسير “ .
ولذلك عليك حين تذهب إلى تجربة شربل لتقرأها ، أن تتخفف من تصوراتك المسبقة حول الشعر ، عن سببه وغايته ، عن الرسالة التي يحملها أو لا يحملها ، وبدلا من ذلك أن تمضي مع الكتابة إلى لعبتها الأثيرة ، وضلالها البعيد، شربل هنا لا يريد من القصيدة سوى أن تزلقه إلى طفولته ، ليشاغب بحرية ، ليتسلى ويعيد تشكيل العالم ، ها هو يقول في قصيدة له ، وهي يعنوان ( حاطب الليل ):
” حلم مبهم يدرج
في بنطلون قصير ،
يداه تقلبان غيمة ،
ورجلاه مجذافان في نهر .
مثل هذا الحلم لا يناسب غير أولئك الشعراء الأوائل ( الأطفال ) الذين يهدمون الكون ويبنونه بخيالهم الهائج المجنّح .
من الأفكار الأخرى المهمة التي تتصل بفكرة اللعب في الشعر ، والتي تطرحها تجربة شربل ، فكرة تدور حول الطرف الآخر الشريك في الكتابة ، هنا قد يتبادر إلى الذهن أن هناك ناقدا ما ، أو جمهورا معينا يحضر لحظة الكتابة ، ويوجه الشاعر إلى غاية معينة ، لكننا حين ندقق النظر فيما يكتبه شربل ، فإننا نجد أن الشريك الذي يكتب معه ما هو إلا النص نفسه ، كيف يمكن أن يكون ذلك ؟، بعبارة أخرى ، كيف تكتب القصيدة نفسها ؟، في العادة تتسبب في الكتابة فكرة ما ، حدث ، تذكار ، ، هنا ثمة شرارة تنقدح في الرأس ،
فترتعش تلك الظلال الغربية وتتموج . ثم شيئا قشيئا تفسح تلك الظلال عن ظهور شقوق دقيقة ، دهاليز وممرات . كلما أردنا أن نضع حجرا في جدار النص ، كلما تطلب النص منا أن نختار ذلك الحجر ونبنيه كما يريد هو .
اعجبتني مرة عبارة للفنان ليوناردو دافنشي ، الذي يقول فيها : “ المنحوتة موجودة في الصخر ، وما على الحات سوى أن يقشر تلك الطبقة السميكة التي تحيط بها ” ولذلك فالنحات يقشر تلك المنحوتة بناء على طريقة معينة تناسبها .
لكن لنفترض أن العكس هو الذي حدث ، أعني أن الشاعر تدخل بشكل سافر ، فلجم اللغة وطوعها لغاية ما في نفسه ، فما الذي يمكن أن نراه ثمة قصيدة مدهشة تجيبنا على هذا التساؤل ، وهي بعنوان : (نصيحة ) ، في ديوان آخرر للشاعر بعنوان ( القصيدة لمن يشتهيها ):
لا تطلباستنطاقها
لا تدعها تُرافع
لأنه – إن فتحت فمها بكلام –
سقطت الوردة من بين شفتيها ،
وبقيت في توقيف احتياطي .
وفي مثل هذه الحالة فالنتيجة ستكون قاسية : ( وبقيت في توقيف احتياطي )، أي أن الشاعر سيتوقف عن كتابة القصيدة ، فلا تكتمل لديه .
ثمة صعوبة واضحة في قراءة شعر شربل ، ولم يتفصد من شقوق غائرة في لحم النصوص التي يكتبها ، وعلى الرغم من وجود الطفل الذي يلعب ، ويحتفل بما ينجزه له خياله من صور ساحرة ، إلا أننا نلاحظ هنا القسوة البالغة التي تحتل المشهد ، والمأساة التي تتدحرج في سفوح النصوص ، ربما يعود السبب في ذلك إلى اللغة العاجزة عن البوح ، ولذلك فقد نقرت على شباك البياض ، يقول الشاعر ، ويضيف :
“حتى طفر وجهي / الذي تاه في هبوب الخطى وغبشالظنون / فكيف لا أسبر الهيئات العابرة وأجلو تجوالي ” ؟.
أما مأساة الوجود كلها ، فتتكثف في قصيدة له بعنوان ساعة رمل ، إذ يقلفيها :
” ساعة الرمل
تضيق بحباتها الأخيرة
تغص في نزولها الضيق
في عنقي
في حنجرة الخفاء “.
ياللرعب ! فالجسد هنا أصبح مجرد ساعة رملية ، أما حبات الرمل الأخيرة فيها ، فهي تشي بالوقت الضئيل المتبقي من الحياة ، والحبات تهبط من خلال العنق لتسقط في حنجرة الخفاء ، هنا ثمة رعب من نوع خاص ، فربط الحنجرة بالخفاء يثير لدينا السؤال التالي : ما الذي جعل هذه الحنجرة التي تندلع بالصراخ ، تصمت على هذا النحو ، بل وتمحو أي أثر لردة الفعل التي يمكن أن يقوم بها هذا الكائن المغلوب على أمره ؟.
قصائد كثيرة كتبها شربل داغر تفصح عن هذا الرعب الذي يسم الحياة ، والعمر الذي يتشظى ، وتتناقص سنواته ، سنة بعد سنة ، حتى يصل الشاعر إلى هذه الحالة المواربة ، والتي تتضح في قصيدة له بعنوان ( وليمة قمر ) يقول الشاعر :
” لا يسعني الوقوف
حيث تنتظر أمي استقبالي
فدرجي لا يصل
يفضي وحسب إلى فجوة
هي أقرب إلى منفذ نجاة
لا إلى نجمة ميلاد “.
نتيجة لهذا الوضع القلق الذي يعيشه الشاعر ، فإنه يهرب باتجاه الشعر ، فلعله يجد فيه قليلا من الاحة ، ويسترد في فضائه بعض الأنفاس ، التي تمنه من الحياة وتفتح أمامه أبواب الأمل من جديد ، ثمة مجموعة شعرية كاملة كتبها الشاعر احتفاء بالشعر ، ونقصد بها مجموعته التي بعنوان : ( القصيدة لمن يشتهيها ).
في هذه المجموعة يحتفل الشاعر بالشعر بالشعر كمخلص ، ويجدفيه الوسيلة الأقوى لمجابهة الأزمة الوجودية التي تفتك بالإنسان . الغريب في الأمر أن صورة القصيدة في نصوص هذه المجموعة تتماهي مع صورة المرأة ، مما يجعل الشعر يبدو زاخرا بمعاني الحب والنشوة ، ولعل الشعر والحب شيء واحد كما يؤكد على ذلك الشاعر المكسيكي أو كتافيو باث في كتابه ( اللهب المزدوج )، فكلاهما الشعر والحب يمتحان من الينابيع نفسها ، ويتبادلان الأدوار ، شربل في قصيدة له بعنوان ( لمن يشتهيها ):
” القصيدة لا تنام ، ولا تواعد أحدا
تتمشى أمام مرآتها
من دون أن تمسك بضفيرتها
لعوب ، وجسورة
تعطي قبلتها
لمن يشتهيها “.