الظلال الفلسفية في رواية اللــحــن المـــكســور

 

 

 آفاق جرة  

أ . د  .  ثناء محمود قاسم

أستاذ بقسم البلاغة والنقد الأدبي

كلية دار العلوم – جامعة الفيوم

إن مناط تقييم العمل الأدبي – عندي – مرهون بأمرين ؛ أولهما تمكن الكاتب من أدواته الفنية في إدارة عناصر الجنس الأدبي الذي يقدمه ، وهو ما يخبر عن وجود الموهبة لديه . وثانيهما الرسالة التي يبثها ثقافته وفلسفته وانفعاله وتفاعله ليس بالمجتمع المحيط فحسب ، لكن بالوجود الإنساني كله .  إنها رسالة الأدب الداعية إلى الإصلاح والتغيير والإيجابية في قراءة الواقع ، والتي تبدأ وفق رؤية الأديب نشأت المصري من الإبحار داخل النفس البشرية بمركباتها العصرية المستحدثة من تفاعلات مفردات الواقع المندفع بصورة وحشية بفرض هيمنته ، وإحكام قبضته على كل شيئ ، المشاعر والعواطف ، الثقافة والتفكير والسلوكات ، الآمال والأحلام ، العلاقات بين الناس وغيرها . رسالة تتسلل إلى وجدان القارئ وتثير اهتمامه وانفعاله بها ؛ لأنها تستوعب إشكاليات الإنسان ودخائله في هذا العصر. إن رواية ( اللحن المكسور ) عمل أدبي من ذلك النوع الذي لم يظفر بهذين الأمرين فحسب ، لكنه يضيف إليهما أمراً ثالثاً  هو التميز في إبراز شخصية الكاتب حين يكتب من وحي قناعاته الأدبية والثقافية الخاصة دون تقيد بموجة سائدة ، أو عزف على أوتار متهالكة لكنها موجودة . بل لديه الحرية في تخير أسلوب السرد والعرض ، وفي توظيف الأدوات الملائمة لتصوره وفكره وذاتيته.

مداخل / اتجاهات

تفتتح الرواية فصولها ومشاهدها بمقتل البطلة ( دلال هاشم ) وتتنازع التكهنات حول الحادث بين كونه حادث انتحار أو جريمة قتل ، من خلال حشد الكاتب لعدد من التساؤلات وعلامات التعجب في محاولة لفك لغز موت دلال ، بواسطة الراوي للسرد :  هل فعلاً ماتت منتحرة ؟! أم وضع السم لها في كوب الكوكتيل ؟ لكن هل من ينوي البعد عن الدنيا يتفنن في وضع “الميكب” أو يتزين ؟!

وبواسطة ضابط المباحث حين دون بعض النقاط في تقريره :

*الزوج الدكتور عمر ليست عادته أن يتريض في النادي في هذا الوقت من اليوم .

*أما فادي ابنهما فترك الشقة قبل الحادث كي يمشي في الشارع .

*لكن ماذا عن سر الذهب المسروق ؟

لو أن الخادمة الشقراء هى اللصة كيف تعود وفي يدها الخبز ، لقد طال البحث عن الذهب المفقود ولم يجدوا أثراً له . هل يمكن للصدفة أن تجمع بين الموت وبين السطو على بعض من ذهب دلال ، ولماذا ترك السارق بعضاً منه ؟!

ثم تكتمل حلقة الحادثة في ختام الرواية ، بحل اللغز والكشف عن مرتكب الجريمة ، ودوافعه . فقد وضعت الخادمة(هدى) السم لدلال في الكوكتيل بتحريض من نزار ، بعد أن أغراها بمبلغ مالي كبير وبالعمل لديه .

وبين البداية والنهاية تقع حادثة أخرى لدلال ، كأنها تعضد أجواء القتل والجريمة في الرواية  ” بعد خروج العربة من محيط الأوبرا، ومرورًا بالشارع الخلفي المجاور لسور النادي الأهلي، الذى يبدو هادئًا، وكليل الإضاءة، دوت طلقة مسدس باتجاه عربة دلال، عبرت زجاج النافذة المفتوح باتجاه رأسها ” .

فهل هى رواية بوليسية ؟

ثم ندخل في ظلال تجسد المحور العاطفي في حياة (دلال هاشم )،  فنقف على ثلاث قصص . تبدأ الأولى في صباها مع زميلها وجارها ( باهر) ، الذي كان يرغب بشدة في الزواج منها ، فترفضه الأسرة بإصرار أشد ؛ لأنه سليل المقاهي ، وغير ناجح دراسياً ، كما أنه لا يطمئن إلى سلوك أبيه الوظيفي ومظهره الذي يفوق دخله بكثير . أما هى فقلبها يميل إليه على الرغم من عدم اقتناعها بشخصيته بدرجة كافية ، لكنه ظل وفياً لحبها حتى آخر حياتها . والقصة الثانية زواج العقل من (عمر) ابن صديق والدها في التجارة ” ولم تكد دلال تسأل نفسها عن فتى الأحلام حتى ناداها والدها ليتبين رأيها في العريس الجديد “. أما القصة الثالثة فمع الدكتور (نزار) صديق الفنانين ، يهتم اهتماماً خاصاً بدلال على الرغم من علمه بأنها متزوجة ، وهى تستعذب هذا الاهتمام والإعجاب على الرغم من أنها امراة متزوجة وتعلم أيضاً أن (نزار) متزوج ، حتى أنها اعتصرت قلبها الغيرة عندما أحست بوجود امرأة أخرى غير زوجته ( هند ) في حياته :

رن الهاتف وطال رنينه ، رد نزار : أهلاً سوزان ، باكر إن شاء الله ، سلام. قالت دلال وهى تقبض كفها وتفردها :

  • من هى سوزان ؟
  • عادي ، إحدى مريضاتي ، تقول إن الدواء لا نتيجة له ، فقلت لها تنتظر للغد
  • لا أظن أنها مريضة ، إلا إذا كانت مصابة بداء الهوى .
  • أؤكد لك ما قلته ، لأنني لا أكذب .
  • بل كذبت عيناك ونبرة صوتك .
  • أؤكد لك …..
  • دع يدي .

” افترضت أن هند تضيق عليه، حدثت نفسها :من حق هند أن تفعل، ومن حق قلبي كذلك أن يسأل عنه، كصديق على الأقل، لن أخدع نفسي وأقول إنه مجرد صديق، وإلا  ما معنى أننا نتكلم كل يوم، ولا نمل، وننتزع أنفسنا من الهاتف بصعوبة؟ ما معنى قوله  لي دون إجابة مني ظاهريًّا : أنت أنا، وهل من حقي أن أمارس مشاعر فتاة في العشرين؟ وماذا عن المسافر عمر؟ أليست مشاعري نحوه أمانة يجب أن أصونها ولا أمنحها لغيره ؟ …من حقي أمام نفسى أن أتنفس ولا أحيا كأمي إذ تسجن مشاعرها وتصرخ كل يوم. رائع أن يكون الإنسان محل إعجاب أكثر من شخص رغم القدَم العرجاء، لا أحد يملك الآخر، لا أحد يملك صكوك الحب،  فلماذا تملك هند وحدها الجميل نزار؟! ”

كأنها عطشى للحب والاهتمام والإعجاب ، فهى تباهي نفسها بحب ( باهر ) وإصراره على الزواج بها رغم التواء قدمها ، وتحب اهتمام ( نزار) وحديثه الذي يقطر عشقاً ، رغم التواء قدمها ، وتجد من يتزوجها ويشاركها حياتها وتكون أمًا لابنه ، رغم التواء قدمها . ” علت أنغام دلال التي افترشت وحلقت في صمت الانبهار، وأهدت البهجة للجميع، وكانت بهجة دلال أعظم، فهي في رحاب الحبيب الأول، وقد جاوره الحبيب الرسمي تحت أمطار الموسيقى ” .

ونجد غير ذلك من ظلال الحب والعاطفة في الرواية بيان موقف الأم من الحب وبخاصة إذا ما واجه الممارسة بالزواج :

” ردُّك لا معنى له. باهر لا يصلح أبدًا زوجًا، حتى لو أعجبك ودخل قلبك، ربما ينقلب بعد الزواج، مثل المهندس فريد الذى طلق حبيبة قلبه بعد أقل من عام من زواجهما ” .

” لقد أخافتني أمي من خرافة الحب على حد قولها، وادعت أنها كانت تحب الحاج هاشم في أول حياتهما “.

فهل هى رواية عاطفية ؟

وتعرض الرواية بعض المشكلات التي يمكن أن تواجه الأسرة ، فتكدر صفوها وتنغص عيشها ، وتسلط الضوء – كذلك – على سلبيات متفشية في مجتمعاتنا ، يمكننا استجلاء هذا فيما يأتي :

  • عدم التوافق بين الزوجين . منها المشاجرات الدائمة بين أم دلال وأبيها ” عندما اشتعل حريق الغضب بين أمها وأبيها ، نفثت الأم في وجه الحاج هاشم عدداً من الاتهامات القديمة والجديدة التي لا ترد ، وهى في أول الديباجة المحفوظة تتهمه بأنه لم يسعدها يوماً …وتعد على أصابعها ، أريد رجلاً يحبني ولا يجبرني على شيء ، ويحكي معي كخلق الله ولا ينظر إلى امرأة غيري ولولا لوم الناس لك لتزوجت الست عايدة بنت خالتك الأرملة ، ماذا أعجبك فيها ؟ أم أنك تحب بقايا غيرك ؟ قال : حتى لو تزوجتها ، من حقي وليس حراماً …لكنني لم أتزوجها ، ومضت سنوات وهى نفسها توفيت ، هذه هى المرة الألف التي تعيدين فيها الحكاية “.

ويتطرق (عمر) زوج دلال إلى مثل هذا الموضوع تمهيداً لها لانفصالهما تمامًا كما وقع بين أبيها وأمها لعدم التوافق بينهما أيضًا :

ــ كم أنا معجب بموقف أمك حين طلبت الطلاق من الحاج هاشم رغم أنه أكرمها، وكان أبوك رجلًا شهمًا حين نفذ طلبها في هدوء.

ــ  كان من الصعب استمرارهما لاختلافات كثيرة في الشخصية، كما كان متعبًا  أن تعيش أمي معي هنا رغم عدم اعتراضك على ذلك.

” أعرفك بنفسي من جديد : أنا الدكتور عمر فوزي المشهود له بالأخلاق، والجدية، كنت من المؤمنين بأن الطيور على أشكالها تقع؟ فماذا عن طيري الذي اسمه دلال، أم أن طائر دلال  توافق مع طائر نزار؟!

  • تفشي مشاعر الحقد والكراهية والغيرة ، حقد زميلة دلال عليها لنجاحها . وكراهية زوجتي نزار (هند وسوزان ) ، وغيرتهما منها . ” كيف نسينا سوزان التي تغار منك ، وقد تسيئ إليك بأكثر مما نتصور” .

إذا أردت أن تحكي شيئًا احكه لهند فأنا أطمئن إلى ضميرها .

  • هند لا تحبك …
  • أظن سوزان تكرهني كثيرًا .
  • هل تحتاجين إلى لقاء معها ؟
  • لا أظن ، حتى لا يتسع مستنقع الكراهية بيننا .
  • سفر الزوج / الأب للعمل خارج البلد تاركاً الزوجة والأولاد . وانشغال الأم من جهة أخرى . ” عشية اليوم التالي أطلق عمر خبراً ، ملأ البيت حيرة ، أعلن اجتماعاً طارئًا للأقطاب الثلاثة ، فادي ، عمر ، دلال ، في مكتب عمر…تحدث عمر عن عقد مغر للعمل في الجامعة بالرياض بالمملكة العربية السعودية ، والمشكلة أن فادي في أول سنة بالجامعة بمصر ، ولا ينبغي تركه وحده ، أما دلال فلا توجد فرصة لتدريس الموسيقى في الرياض . قالت :
  • أينما يكن فادي أكن . وإن كنت لا أحبذ هذا السفر ، نريدك معنا .
  • أحلم بافتتاح معهد أو مشروع كبير يدر ربحًا كبيرًا .
  • وأنا أيضًا أحلم بإنجاز مشروعات موسيقية شاهقة ، والطريق ممهد لها الآن ، وقد وقعت عقدًا مع التليفزيون بالأمس .

….

” ومع ارتفاع الطائرة في الفضاء ، لوحت بيدها إلى لا شيئ : يااه يا عمر ، كان المفروض أن نعترض على سفرك بشكل حاسم ، أشعر أننا تآمرنا مع القدر لكي يبتلعك الفضاء “.

….

” قال لها فادي وهو يرفع رأسه من بين أوراق كتابه في حجرته البرتقالية :

سأحب الموسيقى أكثر إذا طالت أوقاتك معي .

نادت دلال الخادمة هدى : قدمي لفادي كوباً من الفراولة ، واسأليه ماذا يريد ؟ وأعدي الطعام وكوبًا من الكوكتيل لي . عندئذ تململ فادي وقال بصوت مسموع : أريد أمي . قبلته دلال في جبينه ، وأوضحت له أنها ستكون مشغولة لمدة يومين فقط في معهد الموسيقى ثم تتفرغ له . حدجها بنظرة غير مصدقة “.

” عاد عمر، وكأن السنوات الأربع التى قضاها في الرياض، لا طعم لها، والجديد فقط هو ارتفاع رصيد عمر في البنك، واضطراب فادي المتزايد “.

4-إدمان الابن فادي للمخدرات ، نتيجة لانشغال الأبوين ، والسماح بالاختلاط مع مصطفى ابن باهر الذي هو ليس فوق مستوى الشبهات ” لم يكن وجود باهر فى حياة أسرة دلال خيرًا كله، فقد اكتشفت دلال أن فادى يتشارك مع مصطفى فى تعاطي الأقراص المخدرة،ووعدت فادي ألا تخبر أباه بشرط أن يقاطع مصطفى وهو ما لم يحدث، تذكرت الحكمة القائلة : من شابه أباه فما ظلم، همست دلال : هل كان باهر أسيرًا للمخدرات فى فترة المدرسة، كم كنت  أراهن على أن باهر ليس كذلك . قالت لفادي وهو في نصف إفاقة : إلا المخدرات يا حبيبى. رد فى ثبات : عمو باهر وهدان  ناجح جدًّا رغم أنه يشرب ” .

5-تزوير الأوراق الرسمية  ؛ الشهادات الجامعية والألقاب العلمية ، فعندما نصل إلى عقدة الرواية ، وذروة الأحداث نجدها تتمثل في الدافع وراء مقتل (دلال) ، فقد قتلها ( نزار) – رغم أنه كان الأقرب إليها – لاكتشافها تزويره شهادة الدكتوراة ، بل تزوير شهادة كلية الطب نفسها ؛ ظناً منه أنها ستفضح أمره . وتستعرض الرواية أسباب التزوير ، ووسائله ، واستمراريته دون انكشاف لسنوات طويلة !!!.أما نزار فقد ” كانوا يصفونه بالطيبة، لكن أجهضت المشكلات نقاء قلبه وخدشت صفاء سريرته وعكرتها، تخصص لفترة في تزييف الأختام والمستندات لنفسه ولغيره في مباراته ضد النحس الذي تخلى عنه،  ربح كثيرًا ” . وفي هذا إبراز لقضية خطيرة من قضايا المجتمع .

6- الوصولية والمحسوبية وتسلق سيئي السمعة والخلق ، مثل (سوزان) زوجة (نزار) . ومنها فوز (باهر) بعضوية مجلس الشعب لفترتين رغم إدمانه المخدرات ، ورغم متاجرته فيها : ” قرأ الدكتو عمر في جريدة الأهرام «اتهام البرلماني المصري باهر وهدان بأنه يتزعم شبكة لتهريب الأقراص المخدرة إلى مصر». أخبر زوجته دلال لتشاركه التفسير. طالعت الجريدة وهي تشهق، رسمت دائرة بالحبر الأحمر حول الخبر، ووضعته أمام فادي ــ وهي تقاوم الجزع ــ فسدد لها سهمًا باردًا، قال  : ومن الذى عرفنا به يا أمي؟ ” .

إنها نماذج تعكس حالة الفساد السائدة في مجتمعاتنا . وكذلك تعيين مصطفى- ابن باهر والذي علّم فادي إدمان المخدرات- في بنك أجنبي .

فهل هى رواية واقعية تعالج قضايا اجتماعية ومجتمعية ؟

وللرواية – أيضًا- أبعاد نفسية متمثلة فيما يأتي :

  • إصابة فادي (الابن ) بمرض فصام العقل . واضطراب سلوكه وعدم اتزانه الذي جعله يشك في سلوكات أمه ، ويتوهم وجود علاقة غير بريئة بينها وبين نزار ، مما سهل لنزار استغلال تلك الحالة في تغذية مشاعر الحقد والكراهية تجاه أمه ، ومن ثم إلصاق تهمة قتل دلال به . والذي دفع الأب إلى الشك في ابنه أنه هو مرتكب الجريمة . وقد تسببت حالة فادي – أيضًا – في نقل الشك في سلوكات دلال إلى أبيه .
  • إبراز أثر الجينات الوراثية وانعكاسها على علاقة (دلال) بوالديها : ” ودائمًا تهمس دلال : الحمد لله أنني كنت الأقرب إلى أبي، بينما أختي الصغرى ياسمين ورثت أمنا الراكدة فى الكثير” . وتقول عن أمها : ” إنها تجد راحتها مع أختي التي تشبهها في الكثير، وحرصًا على استقرارها فكرت في إقامتها بدار للمسنين على حسابي الخاص ” . أما دلال فـ ” هي على أية حال تميل إلى المجازفة، لقد أقرت بذلك يومًا في قولها : إن الموسيقى علمتها المجازفة والإبحار في اللامألوف. كيف ذلك وأبوها الحاج هاشم رجل منطقي جدًّا، إذن ليست هي الجينات، ليس صحيحًا ما يقال عن التاريخ الأسري، فكم من أخوين متناقضين في كل شيء ” . لكنها ترى أنها قد ورثت حب الفن والموسيقى عن والدها بطريق غير مباشر ” سأكون أول موسيقية في أسرة الحاج هاشم أبي الموقر، هو يفهم في ألوان الأقمشة وأنا أدرس ألوان النغمات ” .

 

وكذلك عازف الترومبيت المتجول في الشوارع والأحياء ” جرجرته الصور إلى طفولته، لقد منحه أبوه الأمل، ولم يوفر له أدواته ووسائله، كم امتلأ العازف فخرًا  حين جاهره أبوه بقوله بأنه هو من سيرث موهبة الفن دون إخوته ؛ ولهذا كان ترومبيت الأب من نصيبه ” . ثم نجد دلال تخاطبه في صمت فتقول : ” أعلم أن الحياة تبدأ بالعطاء، ثم نكمل ما أعطت ، وكان يمكن أن أكون في موضعك وأنت في موضعي لو أن أباك كان أبي، أفكار مهمة لكنها كالعبث ” .

لعل الكاتب يرى – بذلك – أن الفن بطبيعته الخاصة يولد مع الإنسان ، فيغرس في دمائه ويطبع على مشاعره وروحه مع ما يورثه الأبناء عن الآباء من صفات .

فهل هى رواية نفسية ؟

إن الرواية وإن استجمعت هذه الاتجاهات جميعًا ، فإنها – وفق قراءتي ورؤيتي- رواية فلسفية تعالج قضايا القبح والجمال  ، العقل والوجدان ، الروح والجسد ، الواقع والخيال . وقد توسل الكاتب نشأت المصري بهذه الاتجاهات في بيان الحدود الفاصلة بين هذه الثنائيات ، وإبراز خلفيات أسهمت في وجود اللحن المكسور الذي هيمن على حياة دلال هاشم ، وكل دلال هاشم تعيش بيننا .

معالجة الفكرة ( رؤية فلسفية ) :

قد يشعر البعض أنهم خلقوا لزمان غير زمانهم ، فهم تائهون وسط محيطهم ، يمثلون طبيعتهم الجميلة وفطرتهم السوية ، بيد أنهم يصطدمون بواقع يشوه هذا الجمال ، ويحطم هذه الفطرة النقية . ليعلن عن سيادة القبح وغلبته . إنه على الرغم من قوة البداية التي تشي بالصبغة البوليسية للرواية ، مع التقائها بتفاصيل القتل في مشهد الختام ، فإنه لا يمكننا تصنيفها رواية بوليسية ؛ ذلك لأننا ما بين المشهدين ننسى تماماً قصة مقتل دلال ، ونعيش معها قصتها التي بنيت على الصراع . الصراع بينها بوصفها كتلة تمثل الجمال في الحياة وبين الوسط المحيط بها والذي يضغط لينال من هذا الجمال ، إنها تذكرنا – بقوة – برواية ( اللص والكلاب ) لنجيب محفوظ في عدم تحقق التوازن بين قوى الصراع . إن الكاتب عندما بدأ الرواية بنهايتها بما يعرف في تقنية السينما بـ( فلاش باك ) إنما أراد أن يجعل من عرض الرواية جواباً ليس عن من هو القاتل ؟ لكن عن سؤال مؤداه : لماذا قُتلت دلال ؟ عن الدافع الذي يمكن أن  يؤدي إلى أن تقتل واحدة مثل دلال . والجواب هنا هو مدار الرواية ومحورها . صحيح أن هدى الخادمة هى التي قتلت ، لكنها لم تكن أكثر من الأداة أو اليد التي نفذت أمر القتل الصادر عن نزار وعمر زوجها وفادى ابنها وسوزان زوجة نزار . إن القاتل الظاهر هو نزار الذي قتل دلال ليدفن معها سره ، تزوير شهادة كلية الطب ، والدكتوراة التي فتح بها عيادته لسنوات . والباقون قتلة برغباتهم المخبوءة . اليد التي قتلتها واحدة ، لكن كان وراء هذه اليد أيادٍ كثيرة ، ورغبات محمومة  ” حتى غريمتها التي تنازعها على عرش الكمان تلوح في الصف الثاني، يفوح منها شياط الحقد الذي فجره التصفيق، غريمتها تحدث نفسها : إحدانا فقط تستحق الحياة، إن دلال تصد نور الصباح عني، كما أنها انتزعت دوري الطبيعي في الترقية بدعوى شباك التذاكر، يا لجبروتها، ولولاها ما أصبت بالسرطان، لقد ذكر الطبيب أن الحالة النفسية لها صلة بالمرض اللعين، ولم يعكر نفسيتي أحد غير دلال، على دلال أن تدفع الثمن.”

فكلهم شاركوا في قتل دلال ، لقد قتل القبح الجمال . وربما لهذا السبب اختير اسم البطلة ( دلال ) وهو نفس وزن ( جمال ) .

ويمكننا تحري هذه الرؤية الفلسفية من خلال الوقوف على بعض العناصر الأدبية و الوسائل الفنية التي وظفها الكاتب لمعالجة مضمون الرواية ورسالتها :

  • جدلية العلم والفن : إن المقارنة بين العلم والفن في الرواية مثلت الثنائية الأكثر بروزًا وظهورًا في الثنائيات المحتشدة بين سطور الرواية ، والتي مثلت جوهر مضمونها . وأراها تمثل- بذلك – إسقاطًا على المنافسة الكبرى في واقعنا بين الخير والشر ، القبح والجمال ، الموت والحياة . إن الموسيقى بما تمثله من غذاء للروح والوجدان و بما تبثه من صفاء ونقاء جاءت في مواجهة العلم بصرامته التي ليس فيه إلا علامات محددة لكل شيء ،وقوالب صماء ،  فلا مجال لحسابات القلب والوجدان إلى جانب حساباته المعتمدة على العقل . ” إن الموسيقى تُتـبع لا تَتـْـبَع، تنشلنا، تغسلنا في شمس النهضة مثل الغربْ، ويطل سؤال : كيف نكون كذلك، ورؤوس الناس بلا آذان تسمع، فلنحفر توًّا آذانًا للناس، وندربها لتميز بين الضحكة والصرخة. هي ليست رجسًا يا فادي، فالموسيقى نشأت في حضن الدين، هي إرث فرعوني سبق العالم في التعبير عن الأشواق الدينية والإنسانية، تلك خيول الموسيقى تصهل في أودية الروح ” .

وتتردد في أنحاء الرواية كلها ما يجسد هذه المفارقة بين العلم والفن ؛ منها على سبيل التمثيل :

(هل لكل إنسان موسيقاه؟! ) – (العلم لا قلب له ولا ضمير) – (أتحدث عن عطب في الروح وشيك… هل تنتصر الموسيقى؟ ) –  (ليس في العلم مجاملات ) وغيرها الكثير .

  • الشخصيات : ببراعة شديدة استطاع الكاتب نشأت المصري توظيف الشخصيات في إبراز تلك المفارقات الكامنة في ثنائيات عكست رسالة هذا العمل الأدبي ، واستطاع كذلك تسخيرها في التقاط موضع الكسر في اللحن الجميل ، وموضع النشاذ في النغمة السليمة . فظلت دلال هاشم تمثل نموذج الجمال والنقاء والرقي في واقعنا في مواجهة شخصيات الرواية جميعها التي جسدت الوجه الآخر في الثنائيات القدرية . أما الشخصية الرئيسة دلال هاشم فهى “منذ الشهور الأولى لوجودها على قارعة الحياة، وهي تعزف لحنًا صامتًا بأصابعها التي تتحرك بعصبية وتتقاطع،وترتفع وتنخفض في الفراغ المحيط بها، بما يشبه أداء قائد الفرقة الموسيقية،وكلما أمسكوا بيدها تفلتت وعاودت العزف الهوائي ” . فوصفها وقتئذٍ أبوها فقال : دلال سيكون لها شأن ، هي تحَـَيّي الملائكة التي لا نراها ، وكأنها سمعت ووعت، وصار بينها وبين الموسيقى أواصر محبة ” . ” فدلال جميلة،ذات شخصية نافذة،وأبوها تاجر أقمشة كبير، لديه رصيد شائق من الحكايات التي يختلق بعضها أحيانًا أو ينسبها لنفسه،ومن هذه الحكايات الوهمية صنعت دلال لنفسها عالمًا رحبًا، يتجاوز المألوف،وشكَّلت منها لبنة مضيئة في خيالها المموسق إلى حد امتزاج الحلم بالواقع،وفرضت دلال ومضات عينيها العصية على الآخرين ” .

إلا إنها ولدت بالتواء في قدمها اليسرى . وهذا هو أول كسر في اللحن الجميل من جهة الهيئة الجسمية للبطلة . ثم تتوالى من الشخصيات ما يمثل كسرًا في لحنها الجميل من جهة ، وما يمثل الوجه القبيح في الثنائية الكبرى من جهة أخرى . أولها أمها التي لا تشبهها ،  ثم باهر جارها و زميل الدراسة الذي أحبها رغم التواء قدمها حبًا شديدًا ، يحب الموسيقى مثلها وإن كان ليس عازفًا ماهرًا بالسليقة، ناهيك عن عيوبه الأخرى . أما هى فمعجبة بشكله وتميل إليه وقد انتزع منها مرة الموافقة على الزواج إلا إنه ” كان يزعجها ويقيم بينهما سلكًا شائكًا، صوته الحاد الأقرب إلى الصراخ،ووصف الآخرين له بأنه «صايع» أو مشروع بلطجي في تعامله مع التلاميذ والمدرسين، إلا أنها لا تنكر بينها وبين نفسها أنه فتىً جميلٌ بعينيه العسليتين ــ كعينيها ـ وجسمه البدين وإن كان قصيرًا ”  .

ثم أصبح تاجرًا في المخدرات . باهر إذن لحن في حياة دلال لكنه لحن مكسور.

ثم عمر زوجها الذي تزوجته بعقلها ، فهو رجل علم لا فن . ” كان أبوه دائمًا يصفه بأنه يستثمر الوقت وكل شىء ، ولم ترحِّب دلال بهذه الجملة قائلة : إنها كلمات تتناقض مع الموسيقى، لكن لا بأس “. وظلت هذه الجملة الواصفة لشخصية عمر تجري على لسان دلال وخاطرها على سبيل السخرية والتخوف والحذر . وشخصية عمر هى الشخصية التي تمثل الجانب الآخر في ثنائية العلم والفن . لذلك جاء وصف الكاتب لحياتهما كالآتي : ” كطرفيّ الرقم 7 صعد كل منهما(عمر المستثمر للوقت ودلال الطيبة) على مدى خمسة عشر عامًا في وهج النجاح مع تباعد متزامن لا تفسده تقاطعات، كل منهما معجب بالآخر، فخور بما أضافه، أصبح عمر فوزي دكتورًا في العلوم في المركز القومي للبحوث، يباهي بابتكاراته التي تتلقفها بعض المصانع لقاء عائد لا بأس به، والدكتورة دلال هاشم تتابع تألقها الفني والإعلامي ” . وجاء على لسان عمر : ” أثناء ذلك قطعت أنا شوطًا كبيرًا في العلم، وصرت مرموقًا، وأنت أيضًا ركضت بلا توقف في مغارات الفن، لكننا لم نخطُ نحو بعضنا البعض حتى تهالكت الجسور بيننا بالتقادم والسهو عن صيانتها ” .

عمرإذن لحن في حياة دلال لكنه لحن مكسور .

عمر:  يقولون إن الموسيقى في خدمة الإنسان، فهل خدمت فادي؟

دلال :   يقولون إن العلم في خدمة الإنسان، فهل خدم فادي؟

وتأتي شخصية فادي (الابن ) النتاج السلبي لتزاوج العلم والفن .  يبدو أنه كان  من المتوقع ظاهريًا أن يكون نتاجًا عظيمًا وفق توقع دلال الذي تلاشى ” لك أن تزهو بأن أباك من العلماء الأفذاذ، وأمك دكتورة موسيقى ” . لكنه وقع فريسة بين أنياب المرض النفسي .

فادي إذن لحن في حياة دلال لكنه لحن مكسور .

أما شخصية نزار فقد مثلت طرف القبح والشر، بدأ هذا الطريق في السنة الثانية بكلية الطب حين أحب فتاة تشبه دلال في ملامحها ، لكنها كانت فتاة واقعية مادية ، دفعته بهجرها أن سلك طريقًا لم يستطع الإفلات منه ” كانوا يصفونه بالطيبة، لكن أجهضت المشكلات نقاء قلبه وخدشت صفاء سريرته وعكرتها، تخصص لفترة في تزييف الأختام والمستندات لنفسه ولغيره في مباراته ضد النحس الذي تخلى عنه ” . أحب دلال لكنه يحب المكسب أكثر ، خدعها حين اكتشفت بطريق المصادفة علاقته بسوزان . وخدعها حين عرفت بطريق المصادفة أيضًا أنه قام بتزوير شهادتي بكالوريوس الطب و الدكتوراة . ثم قتلها رغم حبه لها خوفًا من افتضاح أمره .

نزار إذن لحن في حياة دلال لكنه لحن مكسور .

وشخصية سوزان تمثل الجانب الفاسد النفعي والوجه المعاكس لشخصية دلال ، والتي لخصته بجملتها عن دلال: إنها تجيد العزف لكنها لا تجاريني في الرقص .

أما هدى الخادمة فهى وفق تصور فادى الشخص الوحيد الطبيعي في بيتهم ، فهى تقوم بواجباتها بكل إخلاص وهمة . ” أشكرك حبيبي، وسأعمل لك الشاي بيدي، فأنا معك طوال اليوم. دخلت هدى حاملة  الشاي، كأنها تتدحرج على الأرض قال : هدى تسبقنا جميعًا ” . ثم يتضح فيما بعد ان قاتل دلال هو هدى نفسها .

لقد قدم الكاتب شخصية دلال في  صورة رومانسية مثالية ، لا تحب أن يشوب الجمال داخلها قبحًا ، فظلت محاطة بمنغصات تكدر صفوها ، في صورة للحن كانت حريصة طوال الوقت ألا ينكسر ، لكنه كان ينكسر، حتى نزار كان أملاً تعلقت به  :  ” اطمئن، لا وصفي ولا زوجي، لأني أحافظ على صورة نزار الذي كان حبيبي،لأنني لا أريد أن تكون كل ألحان حياتي مكسورة ” .  لكنه انكسر كغيره .

  • تيار الوعى :

إن رواية ( اللحن المكسور ) بخصوصية مضمونها وموضوعها وشخوصها من ذلك النوع الذي يحتاج إلى أساليب فنية في العرض تتعدى النمطية والمألوف . فهى من ذلك النوع الفلسفي وربما النفسي الذي يعالج إشكاليات إنسانية في واقعنا المعاصر . إنها تصنع خطًا موازيًا مع الخط العام الخارجي للرواية مرورًا داخل أعماق الشخصيات  . لذلك اعتمد الكاتب على تقنية تيار الوعى في الكشف عن الكيان النفسي والمحتوى الذهني سواء للشخصية الرئيسة في الرواية أم للشخصيات المتشابكة معها في خط المعاناة . فهو بهذا التكنيك الفني (تيار الوعي ) يكشف عن العالم الداخلي للشخصيات وما يعتورها من قلق أو اضطراب لا يتسع مجال الرواية في شكلها التقليدي لعرضه . فمن خلال هذا التكنيك يستطيع الكاتب تقديم الكثير من جوانب العالم الداخلي للشخصية بتداعي الذكريات والأفكار لديهم ، وانسياب الأحاديث غير المنطوق بها  وهى ما يعرف بالعمليات الذهنية في منطقة ما قبل الكلام والانتباه . ومن هذه الوسائل :

مناجاة النفس :  هى وسيلة لتقديم المحتوى الذهني ، والعمليات الذهنية مباشرة من الشخصية إلى القارئ ، بدون حضور المؤلف ، لكن مع افتراض وجود الجمهور افتراضًا صامتًا. ومناجاة النفس من الأساليب الروائية التقليدية ، بيد أنه أدخله الأدباء المعنيون بتكنيك تيار الوعي ضمن وسائل هذا التكنيك ؛ لأنه يقدم المحتوى الداخلي الخاص بالشخصية بشكل مباشر للمتلقي . ولأنه أكثر الأساليب تحديداً لعمق وعي الشخصية ، وقد كثر استخدامها في رواية ( اللحن المكسور ) في مواضع احتاجت استبطان وعى الشخصية ومحتواها الذهني ،  من هذه المواضع على سبيل المثال :

كشفت هذه الوسيلة عما يمور في نفس دلال بإلقاء الذنب على زوجها في ميلها إلى نزار- الذي قام بخداعها بعلاقته بسوزان – لطبيعة عمر الخاصة والتي تتناقض مع طبيعتها ” لقد قرأت مرارًا أن الجمال لا سنَّ له، هل أصاب العمى نزار، وماذا عن الدكتور عمر؟ أما آن له أن  ينقلب على سكوته المريب أحيانًا ؟ هو يخزن آراءه في داخله استثمارًا للوقت، لو كنت مكانه لسعدت بأن الله وهبه هذه الموسيقارة الشهيرة التي اسمها دلال، التي ستكون قريبًا بيتهوفنة العرب، غريب فعلًا أن يكون عباقرة الموسيقى على مدى التاريخ من الرجال، تالله لأكسرن القاعدة، انتظر إبداعاتي أيها العالم الذكوري، وصفقوا لقدمي العرجاء التي تحملني ” .

وهى بعد كاشفة للمحتوى الذهني لبعض الشخصيات الأخرى التي أصابها شيئ من الاضطراب والخلل مع سير الأحداث ، مثل عمر ( الزوج ) ، فأتاحت هذه الوسيلة تقديم محرك التفكير لديه ، وكيف عصفت به الظنون واتسعت الشكوك الطاعنة في طهر زوجته وبراءتها ” كيف تدهورت إلى حد الخيانة تلك الدكتورة الفنانة المحترمة،  بميزان الذهب وزنت عقلها فترة الخطوبة فكان كنزًا نادرًا، ومن الطبيعي أن تكون شخصيتها شامخة لا تنحني لضوء متسلل أو متربص مخادع، ثم ها هي كساحرة نقلت نزار من ساحة الرجل الغريب إلى حديقة صديق العائلة. وكالمسحور منحته أنا الدكتور عمر مفاتيح الأمان، وجعلته ستارًا لما أخشى تجليه، فإذا به هو ما يؤرقني تجليه،  ودلال معنا وبيننا كالثعبان نعومة، كأنما امتهنت التسلل، وصرنا نأتمر ببريق الشر في عينيها نحسبه دفئًا، ووعدًا بأبهى ما نهواه، ولم نحسب أنه الهوى والهاوية. آه يا دلال ماذا فعلت بمفتاح خزائن مشاعري الذي أعطيته لك معطرًا بوفائي، وكيف آل إلى يد مزورة… يد نزار التي تنبت شوكًا وإن لمعت بطلاء الطيبة والجمال، وعليَّ أن أتخيل أنه خدعك، وسرق البساط الذي نسجناه سويًّا كيلا أضعك في حظيرة الشياطين ” .

وهى التي أتاحت للكاتب نقل عتاب عمر وتأنيبه لنفسه حين هيأ الأجواء لعلاقة زوجته بنزار ” هل كان طبيعيًّا أن أعطي نزار كل تلك الثقة ، أم هو عدم اكتراث بها وغياب للحب الذي يورث الغيرة، ولماذا دهستني عجلات الغيرة الآن فقط ؟ وهل هي غيرة أم رد فعل مفتعل لقراءة ورقة فادي حتى لا أتهم نفسى بما هو أفظع؟ كأنني تنازلت لها عن حقوقي وباركت لها أي اختيارات تريد دون حدود ! يا لقسوة الإفاقة وأنا الذي نمت طويلًا بكامل رغبتي،  أنني كنت أتهرب من فكرة إغرائه لها، ولم أحاول منعها أو حتى مجرد الاعتراض ” .

وكشفت عن تحرك فكرة القتل في ذهن نزار ، وهو يقلب الأمر مع نفسه ، ويشير إلى دوافع هذا القتل ”  إشارتها إلى الخوف يعني أنها تسلم بأنني في موقع الخائف لأنها تملك تشريدي وسجني، وتوقيت ذلك رهن إرادتها ومزاجها النفسي، وهي في النهاية امرأة، وللنساء شوارد عصية على الفهم أو السيطرة، أما إنكارها لحديث وصفي فله دلالات خطيرة، وإذا كانت لم تخبر عمر اليوم فقد تخبره غدًا أو بعد غد، وربما كل هذه التصورات لم ولن تتحقق، إن وجودها ذاته كارثة مؤجلة،  وقتلها أيضًا خطوة مروعة لا أدرى توابعها ” .

واستخدمها الكاتب في الكشف عن اضطراب فادي وحزنه ومعاناته بسبب غياب أمه  ” هل يصح أن تكون الوحيدة السوية والمتوازنة في هذا البيت هي هدى؟! قد لا تعرف أنني أحيانًا أفقد نفسي، فأبحث عنها في الحجرات وفي أدراج المكتب، وخلف اللوحات المصلوبة على الحائط، نفسي تختبئ مني وتتركني بلا حراك، لـُقنت  بأنني سأكون ملكًا باعتباري ابنكما الوحيد، وامتدادكما المأمول، فإذا بي كائن معلَّق على رفوف الانتظار، أنا لا أشبه أحدًا هنا ” .

والمناجاة تكون للنفس أو للغير ، منها مناجاة دلال عند سفر عمر إلى الرياض للعمل ، وهى تراقب اختفاء الطائرة وابتلاع الفضاء لها ، بما يكشف عن أثر هذا البعد عليها “ومع ارتفاع الطائرة في الفضاء، لوحت بيدها إلى لا شيء  : ياااه يا عمر، كان المفروض أن نعترض على سفرك بشكل حاسم،أشعر أننا تآمرنا مع القدر لكي يبتلعك الفضاء “.

ومنها ما كشف عن أثر تزاوج العلم والفن بشكل غير مباشر ، وكشف عن اللحن الأكبر المكسور في حياة دلال هاشم ابنها ” يا فادي كنت وما أجمل ما كنت، طفلًا أودعناه الأحلام الحلوة، وقضينا الأيام نفاضل بين العالم والموسيقار إلى أن خولنا الأمر إليك، جمعنا فيك الآمال فلم ننجب غيرك، لكن ما أقسى لكن، تصنع يوميًّا سورًا حولك يا فادي، مهما نحن تكلمنا لا تتكلم، أحيانًا تسكت كالموت، وأحيانًا أخرى تنطق كالبركان، وكأنك بين أناس لا تعرفهم، فتعادينا، وتحاكمنا فيما لم نفعل، وتحاكم نفسك أيضًا بكلام مبتور مقهور مبهم، معذرة، كان ضروريًّا جدًّا أن نلجأ للطب النفسي، فبصّرنا بالجرح الغائر، يا ألله، جراحك ما أن تشفى حتى تتفجر، نخشى أن تؤذي نفسك أو غيرك، وأبوك كما تعلم منهمك في استثمار الوقت، وكم أعطاك دروسًا غالية، وكأنك لم تسمعها ” .

من مناجاة الغيرأيضًا حديث عازف الترومبيت تحت نافذة دلال ، استطاع من خلالها الكاتب بيان مدى رقة وجمال دلال التي يراها فنان حقيقي مثلها ” رفع العازف بصره إلى الطابق الرابع، يكاد ينطق  : كم أنت رائعة يا ذات الشعر الليلي الطويل، لقد جبرت بخاطري الذي كسر بلا رحمة، ها أنت تظهرين كما تمنيت،إن النافذة فتحت على اتساعها أكثر من المرة السابقة، بالطبع لتنالي قسطًا أكبر من أنغامي، شكرًا لك سيدتي أو آنستي، لو أنني كنت شابًّا ثريًّا مترفًا غير متزوج لتقدمت لخطبتك، لماذا تشيرين لي بيدك، صدقيني، أنا في تلك اللحظات عازف مختلف، لا أنتظر نقودًا، استماعك لي هو الأغلى، سأجرب أن أقول لا، أنا أرفع يدي تحية لك لا غير، لماذا تصرين على استدعائي؟ ليس من المعقول أن أرفض طلبًا لهذه الرقيقة “.

وفي الجهة المقابلة كشفت من مناجاة دلال للعازف عن انطباعاتها ” يا أنت، عزفك غيض مغدور، هل لكل إنسان موسيقاه؟! إن أداء هذا العازف المشوش وصل إلى قلبي متخطيًا حواجز العلم، دق في روحى صحارى لم تصل إليها الألحان العالمية خصوصًا فى لحن الحلوة دي قامت تعجن، أشعر أنني أشارك فتاة ذات ضفائر طويلة سوداء تعجن الدقيق أمام الفرن على سطح البيت والقش فى متناول يدها، ونسائم الفجر تضاحك وجنتيها المحمرتين كلون التفاح الأمريكاني، كل هذا الجمال الذي لم أره مرة واحدة فى حياتي، تجسد من خلال أنغام سيد درويش التي يعافر العازف ليطرز بها قلوبنا، ما القواعد والأصول؟ إنها لم تهبط من السماء ” .

ودلال وهى تناجي الموت ” دع عقلي أيها الموت، فأنا لا أحب رحيقك المظلم، إليك عني فأنا أحب الحياة، لكنني لا أستطيع أن أعاديك، ألا تلاحظ أنني لا أكترث بآلام قدمي المعوجة، بعد قليل يبدأ حفلي الذي دعمه الصحفيون، ليتك تختفي الليلة يا نزار، فقد صرت قيدًا على روحي، دع عقلي وقلبي للموسيقى، فهي قدم أخرى لي، وأجنحة تمتد بلا نهايات” .

المنولوج الداخلي : هو طريقة لتصوير الأفكار والمشاعر المتدفقة التي تمر في العقل .  و هو حديث داخل الشخصية غير منطوق به ، ولا يحتمل ردًا عليه . وهو تكنيك لتقديم المحتوى النفسي والعمليات النفسية في المستويات المختلفة للانضباط الواعي ، ويهتم بكل محتويات الوعي وعملياته . ويلاحظ أنه غير متكلم به جزئياً أو كلياً ، وذلك لأنه يقدم محتوى الوعي في مرحلته المكتملة ، قبل أن تتشكل للتعبير عنها بالكلام عن قصد . ولا يفترض وجود سامع.

من المواضع التي تم استخدام هذه الوسيلة فيها ؛ ما كشف عن جوانب من شخصية دلال ” هزت رأسها لتلوذ بخصوصيتها المبعثرة بين الناس، تحاول أن تقرأ نفسها  : يا ألله، قد يرون أنني وديعة إلا إن نفسي هي نفسي، امتدادها إلى أبعد مني يرهقني، كلَّا، كلَّا لا أريد أن أحمل كل الناس في شراييني، وأرصهم على رأسي، وأصرخ في الفضاء اللامتناهي: هؤلاء أنا، وأنا هؤلاء،لا أتوقع عونًا من الفلاسفة، أو رجال الدين، ولا حتى من المجانين، كل باب يفتح  يرميني في حضن مائة باب، كلَّا، كلَّا يا كل من يعرفني أحبوني، ثم دعوني مع نفسي، أتوهم التفرد وأصطاد اللحن من منقار الأوتار والحناجر” .

ومنها ما كشف عن رأى دلال غير المستقر في باهر، وهو ما يتأرجح بين إعجابها بحبه لها ، وصفاته التي فيها شيئ من القبول ، وبين ما يزعجها منه ”  لقد اختارني دون غيري رغم التواء قدمي، لا شك أنه رجل وافر الطاقة، متلاحق الحكايات، حاضر النكتة ولسنَّتيه الأماميتين جاذبية لانفراجتهما الضئيلة، هو أيضًا أكثر زملاء الفصل أناقة في ملبسه، ويمتاز عنهم بذلك العطر الفرنسي الذي يقاسم فيه والده وهدان المدير بالجمارك، أما عشقه للموسيقى فهو يخلو من الكفاءة، حقًّا هو محب جميل للموسيقى، لكنه ليس عازفًا ماهرًا بالسليقة، ناهيك عن عيوبه الأخرى ” .

ومنها ما يكشف عن مدى ارتباط دلال بنزار ، بل مدى انخداعها بكلامه وعواطفه ” من حق هند أن تفعل، ومن حق قلبي كذلك أن يسأل عنه، كصديق على الأقل، لن أخدع نفسي وأقول إنه مجرد صديق، وإلا  ما معنى أننا نتكلم كل يوم، ولا نمل، وننتزع أنفسنا من الهاتف بصعوبة؟ ما معنى قوله  لي دون إجابة مني ظاهريًّا : أنت أنا، وهل من حقي أن أمارس مشاعر فتاة في العشرين؟

ثم بعد تطور الأحداث يتحول نزار الحبيب إلى عدو متربص يحسن التخلص منه

” هل تكون نهايته القاصمة على يديّ أنا؟ على الأقل ينبغي أن يرحل من حياتنا بطريقة لا تنتهي بقتله أو بقتل أحد منا، على الرغم من أن القتل لعبة لن تنتهي، فهي أقدم ممارسات الإنسان، حيث مارسها قابيل، أول مجرم في التاريخ، يبدو أن القتل فيه إغراء ما أو هو مطلب إنساني مرموق، لأنه حلقة لا تنتهي، وإذا كان القتل أمرًا اعتياديًّا، هل نصل إلى يوم  يقول فيه عاقل لعاقل : انتظرني في مكتبك فقد قررت قتلك؟! لم كل هذه الضجة قبل القتل وبعده؟ مادام يفضي إلى الموت الذى هو ضرورة لأنه ابن الحياة، يااااه يا نزار يا لك من مفاجأة فادحة، بعد أن كنت صوتًا للحياة تحولت إلى أداة في جوقة الموت “.

وهى وسيلة كاشفة أيضًا عن مشاعر الابن تجاه أمه دلال ، وهى مشاعر يشوبها الخلط وعد الاتزان ، وتبين مدى اضطرابه النفسي ، ورغبته في قتلها ” الدكتورة دلال تجاوزت كل الأسوار، هي ألعوبة في يد نزار، ودمية في حضنه،  لا أصدق تمثيلية انقطاعها عنه، لقد منحته كل شيء في الظلام، حتى في عيادته الأنيقة الفاخرة، باب حجرته مغلق تمامًا ولا يفتح إلا  بجرس منه، هي ليست أمي، لكنها في وجهي كل يوم، صوتها هو فحيح العذاب نفسه، ياااه يا دلال، لن أستريح إلا بالتخلص منك ” .

 الوصف :  الوصف في تكنيك تيار الوعي يتخطى الاهتمام بالشكل الخارجي إلى وصف العالم الداخلي . ويعرف (الوصف) بناءً على ذلك بأنه التكنيك الذي يستخدمه الروائي لتقديم المحتوى الذهني والعمليات الذهنية للشخصية عن طريق وصف المؤلف الواسع المعرفة لهذا العالم الذهني من خلال الطرق التقليدية للقصص والوصف ، وقد ورد فيما بعد تدقيق لمسألة الوصف عن طريق المعلومات المستفيضة من المؤلف ، إلى المؤلف الذي يلاحظ ، ويدرك أبعادًا أعمق داخل الشخصيات .

أحاط الكاتب الرواية بالوصف ، وأكمل به تصوير الشخصيات من الداخل ، بدأه  من مولد دلال هاشم إلى وفاتها  ” منذ الشهور الأولى لوجودها على قارعة الحياة، وهي تعزف لحنًا صامتًا بأصابعها التي تتحرك بعصبية وتتقاطع،وترتفع وتنخفض في الفراغ المحيط بها، بما يشبه أداء قائد الفرقة الموسيقية،وكلما أمسكوا بيدها تفلتت وعاودت ” .

وقدم بالوصف شخصية نزارالجديدة بعد أزمته مع دلال ” كأنه ما سمع شيئًا،  لا يزال وجهه مصفرًّا كأنه شخص آخر، هو يبحث عن لسانه الذي في فمه ليرد عليها، كيف يرد وهي فاجأته بما لا يرد عليه، فقد القدرة على صناعة بسمة مقنعة، وهربت الكلمات الرقيقة من قاموسه المشهود ” .

ووصف الحالة المضطربة التي وصل إليها فادي الابن ” استغرق فادي في التفكير في رسم خطة محكمة ينفذها بنفسه للتخلص من تلك الموسيقارة التي تهرب من المرآة دائمًا.  وبين نار الاقتراحات والاحتمالات تحرك ودبَّر في هدوء مقصود، إن وخزة بالسكين أرق منطلقة الرصاص، والسم أجدى من الجميع،  أخرج من جيبه قصاصة من صحيفة تحكي عن قتل شاب لأمه الطيبة، ووضعها أمامه “.

إن عرض المواضع التي تم استخدام وسائل تيار الوعي فيها ربما يضيق عنه المقام هنا ، لكن يمكن أن يتاح في دراسات أخرى .

وبعد ، إن الرواية وإن خيمت عليها أجواء الصراعات والأزمات والانكسارات ، فإنها في رأيي باعثة على الأمل والتفاؤل في تحويل صرامة الحياة وقسوتها إلى لحن جميل يستمر ؛ لأن دلال هاشم رغم مقتلها فقد انتصرت على الجميع ، فقد تقدمت إلى الشرطة ببلاغ ضد نزار – دون أن يعرف – تكشف فيه عن جرائم التزوير التي ارتكبها، وتم اتخاذ الإجراءات القانونية حياله ” التقطت ورقة وقلمًا، وكتبت خطابين، سجلتهما بالبريد السريع، أحدهما موجَّه إلى وزير الصحة والثاني إلى المدعي العام، تبين فيهما حقيقة شهادات نزار المزيفة، كما بعثت  بنسخة على عنوانيهما الإلكتروني” .

إنها الإيجابية رغم كل شيئ .

إن دلال هاشم نموذج إنساني قدمه الكاتب تفاعلًا معه ، وتأييدًا له ، فحين نقرأ إهداء الرواية ، نجد أن اسم دلال هاشم ضمن قائمة النساء المهدى إليهن هذه الرواية .

 

 

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!