الكتابة فعل حبّ ووجود/ بقلم : الناقدة اللبنانية مادونا عسكر

ثمّة حيرة تنتاب الكاتب الحقيقيّ لدى تردّد صدى السّؤال الّذي يدوّي في عقله ونفسه باستمرار: “لماذا أكتب؟”. قد يتردّد هذا السّؤال في حالات محدّدة، خاصّة عندما يشعر الكاتب أنّ بينه وبين عصره هوّة عظيمة. أم عندما يصطدم بحضوره وسط مدّعي الكتابة في عصر يضجّ بالسّخافات والسّطحيّات، ويترنّح فيه الأدب وينازع من كثرة المغترّين والمعتقدين أنّ الكتابة مجرّد جمع كلمات في جملة تعكس انفعالاتهم وتستقطب أكبر عدد من المعجبين.

يقول الشّاعر والأديب السّوريّ محمد الماغوط: “عالمي هو الكتابة. أنا خارج دفاتري أضيع. دفاتري وطني”. ولعلّ هذه المقولة تعرّف انتماء الكاتب لعالم خاصّ جدّاً، وحده يدرك ملامحه وأبعاده. ولعلّها تجعلنا نتلمّس حدود هذا الوطن غير المحدود، المتراميفي أعماقنا والمتجذّر في تركيبتنا الإنسانيّة غير المدركة تماماً.

هل نكتب لأنفسنا أم لغيرنا؟ وإن كنّا نكتب لأنفسنا فأين نصبّ هذا النّور المتدفّق من علٍ، وكيف نقوى على سجنه فينا دون تبليغه إلى الجميع؟ ولو كتبنا لأنفسنا لغرقنا في أفخاخ الغرور وافتقدنا لرحابة القارئ والدّفء الغامر قلبه ببهجة الحروف.

نكتب أنفسنا، لا لأنفسنا، فيستفيق في داخلنا ذلك الصّوت المزروع بالنّعمة في أعماقنا. وإذ نصغي له، يرشدنا إلى الأنا المحتجبة عنّا حيث لا نظر، ولا سمع، ولا حسّ، حيث إنساننا الحقيقيّ المخلوق على صورة الجمال الأسمى. نكتبُ لنلتقيَ قدر الإمكان بشخصنا الحقيقيّ الرّائع الجمال. فنعاين بدقّة أسرار الكون، ونتأمّل ثغرات العالم انطلاقاً من ذواتنا فنعبّر عن أنفسنا وعن القارئ الّذي يحبّ الكاتب لا شخصنا. فشخصنا الظّاهر غير معروف للقارئ، هو يعلم ذاك الّذي يعبّر عنه، ويلمس روحه،  ويشعل في قلبه نار الخير والحبّ ، وينير عقله  ببعض المعرفة.

في شخصنا الحقيقيّ العميق تكمن موهبة الكتابة، فنصوغ الكلمات على وقع صدى صوت الله. فالله يقول فينا كلّ ما يريد، ويعكس من خلالنا جماله الأزليّ الأبديّ. نكتب فنجد ذاتنا، ونعرّف عليها القارئ ونخلق صلة وصلٍ بينه وبين ذاته والجمال الأعلى. ونستفزّ فيه سؤالاً يحثّنا على المزيد من العطاء والإصغاء والإبداع، ألا وهو، “عندما أقرأ  أتساءل كيف تكون أعماق السّماء؟”. ليس الهدف من السّؤال الزّهد والانقطاع عن العالم، كما أنّ ليس هدف الكاتب فصل القارئ عن العالم، وإنّما الهدف إشعال النّور في قلبه ليلتقي هو أيضاً بشخصه الحقيقيّ فيفرح ويتبدّل ويحبّ.

الكتابة فعل حبّ حرّ، لذلك يفرض القلم رهبته الخاصّة، ويمسي كلّ نصّ نصّاً أوّلاً يصوغه الكاتب من نزف القلب، واتّقاد المعرفة. ولمّا كانت الكتابة فعل حبّ حرٍّ، وجب احترام القارئ والتّفاعل معه بعيداً عن إرضائه فقط، وبعيداً عن النّرجسيّة الّتي تسيطر على بعض الكتّاب الّذين يمجّدون كتاباتهم بتمجيد أنفسهم.

إنّ محور الكتابة ليس الكاتب، وإنّما المحور هو الكلمة. وبقدر ما نمجّدها نمنحها آفاقاً شاسعة يسبح القارئ في رحابها ويرتشف منها ما يروي ظمأ نفسه وعطشه للحقيقة. نمجّد الكلمة فنتلمّس الحقيقة ونظهرها لمن هم في الظّلمة لكي يحلموا ويتحرّروا وينطلقوا. لكي يخرجوا من ظلمة آلامهم ويتفلّتوا من أوجاعهم، فنتشارك معهم ثقل الألم.

ما يظهر من الكاتب أعظم ممّا هو عليه، فلا داعي للاغترار بالنّفس. بل حريّ به أن ينقص حتّى يزيد الإبداع، ويتضاءل حتّى يسطع مجد الكلمة، وينعزل حتّى يصنع اللّغة.

“عندما بدأتُ بالكتابة وجدت نفسي، ونفسي العميقة غير شخصيّتي الّتي يعرفها النّاس. إنّ من يكتب هو عمقنا، هو الأنا الّتي لا نعرفها”.

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!