المجاهدات الرّوحيّة لبلوغ الوطن الإلهيّ / بقلم : مادونا عسكر/ لبنان

 

 

يا ابن البشر، إن تحبّ نفسي فأعرض عن نفسكَ، وإن ترد رضائي فأغمض عن رضائكَ لتكون فيّ فانياً وأكون فيكَ باقياً.” (الكلمات المكنونة- حضرة بهاء الله)

إنّ الكلام الإلهيّ لا ينقطع ولا يتوقّف ولا يعرف الأمس واليوم والغد. فالكون بأسره تحت نظر الله منذ البدء وإلى الأبد. “إنّ ألف سنة في عينيك مثل يوم أمس بعد ما عبر، وكهزيع من اللّيل” (مزمور 4:90). والله يحدّث كلّ إنسان ولا يسمعه إلّا المنفتح على الخير والحبّ والجمال. في كلّ إنسان نزعة إلى العلو، إلى قلب الله. وهذه الرّحلة أو هذا الحجّ إليه يتطلّب تدرّجاً في الجهاد الرّوحيّ ومثابرة على المسير نحو النّور، وعزم على التّحرّر من كلّ قيد يمكن أن يشكّل حاجزاً بين الإنسان والله.

حضرة بهاء الله، الّذي جاء بتعاليم روحانيّة واجتماعية جديدة تتوافق وعصرنا الحديث، بحسب الدّين البهائيّ، علّم أن هناك إلها واحدا، وأنّ الأديان جميعًا من عند الله، وأنّ الوقت قد حان للبشريّة لكي تدرك وحدتها وتتآلف.ويظهر لنا الاختبار الإيمانيّ الخاصّ لحضرة بهاء الله من خلال مؤلّفاته وكتبه العديدة. إلّا أنّني سأتوقّف عند كتاب “الوديان السّبعة” الّذي يشرح فيه حضرة بهاء الله التّدرّج الرّوحيّ لبلوغ الوطن الإلهيّ. وبهذا، فنحن أمام اختبار أدّى إلى ترجمة حديث القلب أو  تدرّج حضرة بهاء الله في هذه المراحل السّبعة ليرتقي تدريجيّاً من العالم نحو الله. (وبعد – فإنّ للسّالكين إلى الوطن الإلهيّ من المسكن التّرابي مراتب سبعا معلومة يسمّيها البعض “الوديان السّبعة” ويدعوها آخرون المدن السّبع، وقيل إنّ السالك لن يرد بحر قرب الوصال، ولن يرشف من خمر لا مثال إلّا إذا هجر نفسه وهواها، وبلغ هذه الأسفار أقصاها ومداها.)

يدلّ عنوان الكتاب على المضمون الرّوحانيّ ويكشف صوفيّة حضرة بهاء الله، كحالة ترتقي نحو الله بحثاً عن ملاقاته وذلك من خلال سبع مراحل يتدرّج فيها الإنسان لتكتمل العلاقة في المرحلة السّابعة. ولئن كان للرّقم سبعة الّذي يجمع العالم الإلهي المرموز إليه بالرقم ثلاثة والعالم الأرضيّ المرموز إليه بالرّقم أربعة، دلالة الكمال. تشكّل معنى العنوان (الوديان السّبعة) المنطلق من التّراب نحو العلو. ولعلّ كلمة (وديان) تشير إلى العمق الإنسانيّ الّذي سيتحرّر منه الإنسان تدريجيّاً منطلقاً من الوادي إلى قمّة الجبل. وكأنّي بحضرة بهاء الله يتطلّع إلى الجبل مجازيًّا ويشرح كيفيّة الصّعود من الوادي.

يمكن اعتبار الأقسام الأربعة الأولى متعلّقة بالمجاهدة الأرضيّة والأقسام الثّلاثة الباقية مرحلة العلاقة الفعليّة مع الله حيث إنّ الرّوح تحرّرت وانطلقت نحو الله.

في الوادي الأوّل “وادي الطّلب”، يتحلّى الإنسان بالصّبر والمثابرة مطهّراً قلبه وسمعه عن كلّ ما رأى. فتبدأ رحلة التّجرّد وإفراغ الذّات من  كّل ما فيها استعداداً للامتلاء من النّور الإلهيّ. وفي ذات الوقت يتمدّد الإنسان في العالم روحيّاً من خلال بناء العلاقة مع الآخر في أي مكان بحثاُ عن سرّ المحبوب الإلهيّ. وهنا نتلمّس العلاقة العموديّة الأفقيّة المشتركة بين كلّ المحبّين. فبلوغ قلب الله يبدأ بعلاقة المحبّة مع الآخر. (والسّالك في هذا السّفر يفترش كلّ تراب ويسكن كلّ بلد ويتوسّم جمال المحبوب في كلّ وجه ويطلب الصّديق بكلّ دار، ويجالس أية جماعة في مجمع، ويرافق كلّ شخص عساه أن يلمح فيه سرّ محبوبه أو يشاهد في وجه ما جمال معشوقه.) والمعنى الضّمنيّ لكلام حضرة بهاء الله يدلّ على أهمّيّة حضور الآخر في ارتقاء الرّوح نحو الله. ولا بدّ من أنّ الدّيانة البهائيّة الّتي تدعو إلى وحدة البشريّة، تعي أنّ تآلف البشر ووحدتهم تبلّغهم قلب الله.

في الوادي الثّاني “وادي العشق”، يتبيّن الشّوق إلى الله إذا ما لمس الإنسان شعاعاً من نوره. فينجذب إليه ويشتعل شوقه إلى السّماء. ويتحدّث حضرة بهاء الله عن عنصر الألم، كعنصر مهمّ في هذه المرحلة المرافقة للعشق الّذي يمنح العاشق القدرة على احتمال كلّ ألم في سبيل إعلاء الكلمة الإلهيّة. ولا يحتمل العاشق الألم مرغماً وإنّما تلقائيّاً في سبيل معشوقه. بل يصبح العشق معبد العلاقة مع الله، (أشعل نار العشق ثمّ احرق الحياة طرا // ثمّ اخط بقدمك داخل كعبة العشّاق)

في الوادي الثّالث “وادي المعرفة”، بالعشق تتكوّن المعرفة، أو العشق هو المعرفة فهو الّذي إذا ما امتلك العاشق أنار عقله فاستنار وبدأ بتلمّس الحقائق والأسرار، فيبصر بقلبه ما لا يرى ولا يُدرك. (في هذه الرّتبة يرضى السّالك بالقضاء ويرى الحرب صلحاً ويدرك في الفناء معاني البقاء ويرى بعين الظّاهر والباطن في آفاق الوجود وأنفس العباد أسرار المعاد ويلحظ بالقلب الرّوحانيّ الحكمة الصّمدانيّة في المظاهر الإلهيّة اللّامتناهية يرى في البحر قطرة ويلحظ في القطرة أسرار البحر.) يحيلنا هذا المعنى إلى قول القدّيس يوحنّا الإنجيليّ (من لا يحبّ لم يعرف الله، لأنّ الله محبّةفيربط المعرفة للعالم الإلهيّ بالحبّ، لأنّه بالحبّ نعرف الحبّ. وينكشف لنا جوهره. وبنوره نعاين النّور، فالشّيء بالشّيء يُعرف.

في الوادي الرّابع، “وادي التّوحيد” يرتقي  الإنسان فوق العالم متحرّراً من شهواته منجذباً نحو المعشوق فقط. بمعنى أنّه أصبح يرى العالم من فوق، بالنّور الإلهيّ، لا بعقله المحدود، فيرى الله في كلّ شيء دونما الحديث عن حلول أو اتّحاد مراعياً شرح كيفيّة رؤية الله في كلّ شيء إذ يقول: لأنّ صاحب البيت يتجلّى في بيته فتستضيء أركان بيته جميعاً بضيائه وما فعل النّور وأثره إلّا من المنير حيث يتحرّك به الجميع وبإرادته يقومون… وحاشى أن يكون في هذا البيان ريح الحلول أوتنزيل لعوالم الحقّ إلى مراتب الخلق، فلا يشتبه الأمر عليكم، ذلك بأنّ الحقّ مقدّس بذاته عن الصعودو النزول والدّخول والخروج، لم يزل عن صفات الخلق غنيا ولا يزال لم يدركه أحد ولم تصل إلى كنهه نفس.”

في الوادي الخامس “وادي الاستغناء”، يفتقر الإنسان إلى كلّ شيء ويغتني بالله. هو في العالم إلّا أنّ روحه تنعم في الأبديّة الإلهيّة. ومن العسير شرح هذه الحالة لأنّها فوق اللّغة وأعمق من أن توصف بالكلمات. “يمكن شرح حال العارفين قلبا لقلب، فليس هذا منهج القاصد ولا هذا حدّ المكتوب“، ويصف ابن الفارض هذه الحالة بقوله:

وأسكت عجزا عن أمور كثيرة             بنطقي لن تحصى ولو قلت قلّت

في الوادي السّادس، “وادي الحيرة”، أي الدّهشة لما يحياه الإنسان في حضرة النّعيم الإلهيّ. فالبالغ هذه الحالة سكر بالمحبّة  والجمال، ما عبّر عنه ابن الفارض قائلاً: “زدني بفرط الحبّ فيك تحيّرا// وارحم حشى بلظى هواك تسعّرا“. فالسّكر يأتي بعد فرط المحبّة والعشق.

في الوادي السّابع، “وادي الفقر الحقيقي والفناء الأصلييكون التّخلّي النّهائي عن العالم بالافتقار إليه، والعيش في دائرة الحقيقة الّتي يعبّر عنها حضرة بهاء الله قائلاً: “والافتقار عن النّفس والغنى بالمقصود وأمّا ذِكر الفقر في هذا المقام يعني الفقر عن كلّ ما في عالم الخلق والغنى بكلّ ما في عالم الحقّ.”

لعلّ حضرة بهاء الله كتب “الوديان السّبعة” وهو في المرحلة السّابعة، حتّى إذا ما شرع في الكتابة أصغى إلى حديث القلب، حديث الله السّاكن فيه. فأبصر المحبّة وعاين قدرتها على الارتقاء بالإنسان وخلاصه من بؤسه وشقائه. فأعاد قراءة جهاده الشّخصيّ في سبيل بلوغ الوطن الإلهيّ. ولعلّ ما أتى في الكتاب بعض ممّا في قلبه، فإنّ العاشقين عاجزون عن نقل الحالة حرفيّاً لأنّها حالة للتأمّل بصمت. (عندما بلغ القلم وصف هذه الحال // تحطّم القلم وتمزّق القرطاس).

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!