“تاريخ اللسانيات الغربية الحديثة”/اعداد محمد الورداشي، شعبة الأدب العربي.

 

 

كثيرا ما نسمع عن علم اللسانيات الحديثة، إلا أننا قد نجهل تاريخه، و كذا المحطات التي مر منها. حيث يعزو ذلك إلى أسباب عدة لا مجال للحديث عنها جمعاء نظرا لكثرتها. إذ أن المشكل الذي بات يواجهنا- كطلبة باحثين في الدرس اللساني- هو ضيق تفكيرنا و عدم النظر إلى أبعاد العلوم عامة و علم اللسان خاصة.

هكذا باتت عقولنا تجري في مضمار ضيق كأنه ظلام حالك. و لا نجعل من الأفكار و التصورات المجال الرحب و الشاسع لتطوير معارفنا، و تطورا لرصيدنا ألمعلوماتي. و كذا تكسير قيود السجنين الفكري و المعرفي. و لا نعلم أنه ” إذا اتسعت العقول و تصوراتها اتسعت عبارتها، و إذا ضاقت العقول و التصورات بقي صاحبها كأنه محبوس العقل و اللسان”1.

و منه سنعرض للحديث من خلال هذا الموضوع البسيط عن المحطات الهامة التي مر منها الدرس اللساني الغربي الحديث، و عن علاقته بمختلف العلوم التي أسهمت في تطوره، و النهوض بأسسه و نظرياته. راجين من الله تعالى أن يوفقنا إلى الإسهام في تشجيع البحث العلمي خاصة في صفوف الطلبة الباحثين في الدرس اللساني.

مرت اللسانيات الغربية بمحطات لسانيات هامة و متعددة، خلال القرنين التاسع عشر و العشرين. و كان لمجموعة من المدارس الأثر الكبير في تطوير الدرس اللساني؛ كالمدارس الألمانية . خاصة ما قدمه هامبولت، و الذي اهتم بدراسة تعدد الألسن داخل حياة الشعوب، و استخلص إلى أن تطور اللغة مرتبط أشد الارتباط بالتطور حياة الشعوب المنتجة لها.

كما أن هذه المدارس قدمت أفكارا جديدة لتناول اللغة و النهوض بالدرس اللساني عموما. خاصة في مجال النحو المقارن باعتماد المنهج التاريخي، وفسروا الظواهر اللسانية على أساس هذا المنهج. مع ظهور بعض الفلسفات في بداية القرن العشرين، و التي دعت إلى البحث في القوانين العلمية المجردة للظواهر اللغوية. و يعزو ذلك إلى اعتبار أن الكون بني على نظام مجرد. فجاءت بنيوية القرن العشرين ردا على دراسات القرن التاسع عشر، حيث ارتبط المنهج البنيوي بنظرية المعرفة، فصارت البنيوية مسيطرة حتى ستينات القرن العشرين على أغلب الدراسات اللسانية.

و يذكر اللسانيون أن اللسانيات بدأت مع العالم اللساني فيردينا ندي سوسير، ذلك من خلال ظهور كتابه” دروس في اللسان العام” سنة 1916، حيث شكل هذا الكتاب نقطة الانطلاقة التي ترتب عنها التقعيد و التعريف بهذا العلم. و ذلك من خلال تقديم مبادئه و أسسه النظرية. خصوصا ما قدمه فيما تعلق بالثالوث المشهور: الكلام و اللغو و اللسان. حيث اعتبر اللغة شكلا و ليست مادة. و كذا كون اللسان اجتماعيا، و هذا يضاهي ما جاء به العالم الاجتماعي إميل دوركايم في كون اللغة ظاهرة اجتماعية.

هكذا غدت اللسانيات الحديثة على النهج الذي رسمه دو سوسير مما نتج عنه ظهور اتجاهات لسانية، من بينها:

ظهور مدرسة براغ الوظيفية سنة 1926، و التي اهتمت بدراسة الجوانب الصرفية و الصوتية و النحوية و التركيبية للغة، و بعدها تأسست المدرسة الكلوسيماتية مع يلمسلاف سنة 1936، و التي ربطت اللغة بالمنطق و العلوم الرياضية لتقديم دراسة للغة من زاوية مجردة…

و جاءت التوزيعية مع بلومفيلد و التي جعلت السلوكية إطارها النظري، حيث إنه يمكن دراسة اللغة باعتبارها سلوكا نفسيا نتج عن كائن بشري. و بعده ظهر هاريس الذي تبنى الوصفية التحويلية للغة، و استلهمه نعوم شومسكي الذي أحدث تغييرا في الدرس اللساني الحديث. فجاء باللسانيات التحويلية التوليدية سنة 1957، و التي انتقل بواسطتها من اللسانيات الوصفية السطحية للغة التي لم تعتن بالبنية العميقة لقواعد التحويل و الإنتاج اللا متناهي للجمل التركيبية. ” كما اعتمد على مفهوم المتكلم المثالي الذي يتمتع بكفاءة عالية و قدرة على الأداء سليمة”2.

إلى جانب ما جاء به اللساني الأمريكي شومسكي، ظهرت نظريات جديدة اهتمت بدراسة البعد التواصلي للغة، و كذا أفعال الكلام، و هي ما يصطلح عليه بالبراغماتية أو التداولية؛ مرورا إلى النظريات التي تجاوزت مستوى الجملة إلى ما هو أشمل و أوسع، ما يعرف بلسانيات النص و تحليل الخطاب، و نظرية التلفظ و اللسانيات الاجتماعية.

إن تتبعنا إلى تاريخ اللسانيات الغربية الحديثة يطلعنا على فكرة رئيسة مفادها أن هذا العلم- اللسانيات الحديثة- مر بمراحل متعددة و متباينة على مستوى المفاهيم، و كذا الأدوات الإجرائية و المناهج. إضافة الاختلاف في طرق تناول موضوع اللغة؛ غير أن هدفها- المحطات اللسانية الهامة- يبقى واحدا، و هو محاولة الإحاطة باللغة كإطار عام و شامل. و كذا المساهمة في طرق تناولها للإسهام في تقديم بحوث و دراسات علميين أكثر دقة و وضوح. و لا أدل على ذلك من كون علم اللسان يشاطر مختلف العلوم الدقيقة؛ كالمنطق و الرياضية و المعلوماتية. ذلك للسير على نهجها العلمي الدقيق، ثم استفادتها من مختلف العلوم الإنسانية. كعلم الاجتماع و علم النفس و الفلسفة.

فبقدر ما تكون الأشياء بسيطة و نحن بدورنا نسهم في تبسيطها، أكثر مما هي بسيطة؛ فإننا نسهم دون أن نعي ذلك في فقدانها صبغتها الجيدة و الوفيرة. من هنا يتبين أن اللسانيات الحديثة كانت تسير في النهج نفسه الذي تتهجه العلوم الإنسانية؛ إلا أنها أخذت العلمية من العلوم الحقة. وهذا ما أحدث حيرة و تساؤل في نفوس العلماء الذين يشتغلون رفقتهم جنبا إلى جنب. فهذا رائد الأنثروبولوجيا ” كلود ليفي ستراوس” يعرب عن شعوره تجاه النتائج المبهرة التي حققتها اللسانيات، حيث نجده يتساءل حائرا: ” فنحن نريد أن نتعلم من اللغويين سر نجاحهم”.3

إن ما يستفاد من قول ستراوس كون العلوم الإنسانية تفتقر لما استفادته اللسانيات الحديثة من العلوم الدقيقة. و هذا ما يجعل مختلف العلوم؛ كعلم الاجتماع و علم النفس و الأدب، ينهلون أدواتهم الإجرائية و المنهجية من حقل النظريات اللسانية.

و تأسيسا لما سبق غدت اللسانيات تحمل هم دراسة اللسان، لكونه- اللسان- يحمل ثقافة الأمة و هويتها. لذلك وجب تطويره، و هذا يبقى الشغل الشاغل للسانيات الحديثة بالاعتماد على ما توصلت إليه نظرياتها.

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1” من كتاب: الرد على المنطقيين،ص 166 ، ابن تيمية

2” من كتاب: المصطلح اللساني و تأسيس المفهوم، ص 25 “خليفة الميساوي”

3″ من كتاب الأنطربولوجيا البنيوية، ص 80 ” كلود ليفي ستراوس”

 

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!