تداعيات الهامش والمطلق وصيروراتهما على امتداد رقعة النص* ..

.” القصة من الداخل 

*بسام الحروري*

من كلاسيكيات الكتابة والقص المتعارف عليه لاسيما في بعض نماذج الأساطير وحكايا التراث الشفهي أو المكتوب، بما في ذلك القصة القصيرة مرورا بالومضة واالخاطرة والقصة الطويلة “النوڤيلا” وليس انتهاء بالرواية ،توظيف عنصر الصراع بين قوى الخير وقوى الشر/ القوي والضعيف / الحق والباطل / صاحب الحق والدخيل / الملائكة والشياطين/ الآلهة وأنصاف الآلهة / كما في بدايات المسرحيات الإغريقية لاسيما ساتيريات وأمدوحات إسخيلوس وسوفوكليس ويوربيديس بجوقاتها التي جسدت هذا النوع من الصراع عبر استدعاء موروثهم الديني والأسطوري آنذاك ، أضف إلى أنه يتم توظيف هذا النوع من الصراع بشكل واضح وصريح في جنس أدب الطفل بقسط ، وافر وإن كان يجنح إلى المواربة في بعض مواضيعه ، بغية التجريب والتجديد لكنه على أية حال يظل استثناء ولايدخل في محددات دراستنا هذه ولأنه أيضا يخاطب شريحة تحتاج إلى هذا النوع من القص والسىرد الكلاسيكي من الصراع تماشيا مع ذهنيتها ومعطيات بيئتها الصغيرة حتى تستوعبه .

وهذا النوع من الإسقاط أو التوظيف التقليدي المبتذل من خلال أجناس القص الأخرى غير أدب الطفل ، يتيح للقارئ أو المتلقي معرفة أو استشفاف المصير والنهاية التي يحفل بها النص من خلال التقاط الإشارات والاحالات التي يلمح لها سرد الأحداث من الفقرات الأولى في النص أو في منتصفه ،وهذه من العيوب التي تكشف النص وتبين عن مدى ضعفه وركاكته، وتفقده جماليات وعنصر المتعة والتشويق فلا يرقى لأن يكون نصا يعتد به، لأن أقطاب وحيثيات الصراع واضحة الأسلوب والمعالم ، لذا لجأ بعض الكتاب في إطار التجريب والتجديد إلى الانسلاخ والخروج عن سياج المطلق والثوابت والمسلمات، بحيث أنهم خرجوا من جلباب هذه التقليدية وغاصوا في هوامشها مشتغلين على أسس الحوار وتكنيك الصراع من خلال توظيف الهامش او الهوامش، هوامش الثوابت والمطلقات “جمع مطلق” ليأخذ القص والسرد حينها شكلا جديدا ومغايرا ،وهو يرتكز على هوامش عذابات الإنسان ومعاناته ،مطعما أو مصبوغا برؤى فلسفية وجودية أو ميتافيزيقية، وكل ذلك يدور كما أشرت على متن الهامش بعيدا عن المطلق وثوابت الصراع بين هذه الأضداد التقليدية المعروفة منذ الأزل، وهذا النوع من القص المبتكر أيضا أوجد مناخا ملائما وأرضية خصبة لهؤلاء الكتاب فحلقوا في محاولاتهم التجريبية ،كما ألهم بعضهم البعض في هذا المضمار الأدبي على اختلاف أجناسه ، فهذا شاعر تلهم قصيدته قاص،فيتلقف إحالاتها أوإشاراتها المضيئة وينسج قصته من وحي هذا الإلهام ،وآخر روائي تلهم رائعته قاص أو شاعر أو كاتب خواطر أو نوڤيلا ..وعلى ذلك فقس..

 

*السقوط في فخ التجريب*.

ويستمر تداعي هذا التلاقح بين الأجناس الأدبية والنصوص الإبداعية التي تفرض نفسها وتقدم على أنها تجريب متجدد وممتع يستحق التأمل والإمعان والقراءة والنقد،وكل ذلك يدور في فلك الهامش، ولاغرابة أن تجد من بين هذه الأصوات الداعية إلى التحرر من ربقة كلاسيكيات المطلق المستهلك والمكشوف،أصوات ناشزة حاولت أن تجرب فخانها الأسلوب، وتخلفت عن الركب فظلت في معمعة تقليديتها الضحلة التي استمرأتها إثر فشلها الذريع في اقتحام ميادين الهامش السردي ومتخيله بأسلوب جديد ،فلجأت إلى التحريض والتقليل من شأن من حثوا الخطى في هذا المضمار وشيطنتهم وتقزيمهم وبعض هذه العصبة من أتباع التقليدية الفجة كما ان هناك من حاول ووصل، ومنهم من ظل على نهجه التقليدي ضاربا بالتجديد عرض الحائط ومنهم من جف مداده ونضب فكره وذبل أسلوبه ،أو بالأحرى لم يعد صالحا لهذا الزمان، فشن حربا مسعرة على هذه الفئة من جيل الحداثة والحساسية الجديدة ومابعدها، وهم من يكتبون ويمزقون إلى أن يصلوا إلى مبتغاهم ، فسعت هذه العصبة القابعة في ذيل الركب إلى فرز هذه الشريحة الإبداعية في مربعات من أوهامها وتخيلاتها ووصفهم بأنهم مجرد مقصورة تابعة لقطار الغرب، لاهم لهم سوى استنساخ الحداثة الغربية وتصديرها للقارئ العربي وتغريب فكره ووعيه،
وعليه فقد ظل أكثرهم يتذرعون بالمحلية التي فشلوا بتقديمها وتصديرها بشكل مغاير يشفع لهم عند القراء ، والنقاد الذين يميزون الغث عن السمين، وباتوا يدورون في فلك محلية الحارة والبيت والمجتمع بطريقة فجة_ ولسنا في هذا الصدد ضد التعرض لموضوعات المحلية والحارة الشعبية ولكننا هنا نفتش عن الهامش في إطار الأسلوب والقالب الذي يقدم به _ مع انني لاأحبذ تأطير الهامش ضمن قالب معين، فيما حاول البعض منهم الكتابة على غرار قصص وحكايا ” الف ليلة وليلة ” ومحاكاتها من خلال سحبها على الواقع العام لكنهم أفسدوا الطبخة وأسأوا لهذا التراث البديع، متذرعين بطريقة نجيب محفوظ وأسلوبه،الذي أزعم انهم لم يفهموه أو يفقهوا مغزاه، فباتت كتاباتهم تخلو من لمسات إبداعية حقيقية، وسيطرت عليها التقريرية والمباشرة وتاه التصوير في أضيق زواياه،فضلوا وأضلوا.

*تموضع الهامش في أسلوب نجيب محفوظ* .

والحق أن نجيب محفوظ كان يستدعي الحارة عبر مخيلته ،ولا يذهب إليها، ولكنه يصورها للقارئ بفلسفته،وعدسته السردية، وهو بالمقابل لا يقدم الحارة بمدلولات، ومضامين غريبة عنها،أو لاتشبهها، لكنه يضيف لها من وحي معطياتها في أطار مخياله ورؤيته الفنية لواقع الحارة، فينقل إلى مخيلة القارئ روح الأمكنة وإنسانها ، وروائحها، وحكايات أزقتها وواقعها المخفي وقعرها البعيد وماتخفيه شقوق الابواب، وماتهمس به عتاقة الشبابيك، والمشربيات، بأزقتها وحواريها وربط هذه الهوامش بالحضارات الإنسانية، لاسيما الحضارة الفرعونية والإسلامية إضافة إلى الاتكاء عليها، والمزواجة، والإقتباس منها، إلى جانب الربط والمماثلة والمجانسة فيما بين تلك المضامين المذكورة وإضفاء على جزئيات منها ، وفي أطرها السردية، الهالة الروحية والدينية أو القدسية مع الحرص على إظهار الجوانب السيكولوجية والبنى الجسمانية والملامح السيميائية الخاصة بالشخصيات التي يشكلها محفوظ حينما يتطلب الموقف داخل النص وفي سياق الأحداث،وعلى هامشه ورصدها على الشاكلة التي تتلائم مع المضامين آنفة الذكر
وهذا التمييز الحسي والجسماني الذي أشرنا إليه سلفا يمنح الشخصية بطاقة هوية، ويعزز من رسوخها في ذاكرة المتلقي .
كما تعرض محفوظ من خلال البناء السردي للهامش عبر بعض شخصياته التي ضمنت البقاء لسلالاتها وعلى امتداد النص. فيهندس نصوصه من الداخل سواء في القصة أو الرواية بتضمين هذا البناء الهامشي الصفات الحية والملامح والتقاطيع التي تميز الشخوص عن بعضها ، ولاينتهي الأمر عند هذا الحد، ولكنه تغلغل أيضا إلى الجانب البيولوجي ورصد بناء تلك السلالات وشجرة أنسابها وأمراضها وعقدها وجراثيمها وأجرى الحديث في هذا الجانب على ألسنة هذه الشخوص البسيطة في إطار هامشي محترف “وليس على لسان عالم بيولوجي أو على لسان ” آرثر شوبنهاور ” على حد تعبير الكاتب هشام أصلان(1) مرتكزا في ذلك على قراءة الناقد الكبير إبراهيم فتحي لهذا الهامش المحفوظي ويشير فتحي في حديثه عن هذه الشحوص وسلالاتها بقوله :
( سلالات ممتازة تحمل موروثات ،أو جراثيم وراثية تجعلها قادرة على البقاء، أوسلالات ضامرة، أو حتى جمال الروح الذي هو هبة من الطبيعة البيولوجية ”
ويضيف فتحي وهو يدلف إلى خبايا ودهاليز عوالم محفوظ بمنظار هامشي موغل في تمعنه لها : ” نحن بإزاء صورة شاملة للعلم والتاريخ، أبطالها البذور الأولى،. وهي صورة لاتخلو من مثاليات ،وتضحيات مبرقشة الألوان ، نراها ممتدة على طول الروايات التي تأخذ، في أحد محاور الاستمرار ،تتبعا لشجرة عاشور الناجي في الحرافيش أو السيد أحمد عبد الجواد في الثلاثية.”
ويستمر بناء الطبيعة البيولوجية لدى محفوظ وتداعياته في تأثيث مساحات الهامش التي تصنعه ملامح هذه الشخصيات وسمات أدوارها وتخلقات طبيعتها الوراثية والجينية فيؤثث هذه المساحات السردية بطريقة ذكية تجافي الكلاسيكية مجسدا إياها بمقاربات فنية متباينة
وفي هذا الصدد يرصد الناقد إبراهيم فتحي في حديثه عن شخصيات محفوظ وهي تخوض عباب هذا الهامش بقوله :
” قد يرث جسما شاهقا ،أو ملامح وجه روحي أكثر جمالا يعلو إلى مستوى القمم .
فعاشور الناجي ولد عملاقا، وفيه بذور الجمال الخلقي، وتزوج زينب وأنجب منها حسب الله ورزق الله وهبة الله. ولم يرث أحدهم عملقة أبيه. ”
ويختلف توظيف معطيات الهامش عن المطلق في النص
فثمة صعوبة عند من لم يخبر هذا العالم الخفي أو لم يسبر أغوار غموضه بعكس الملطق الذي ينطلق من وضوح وإبانه
في تقاطع وتراتبية أحداثه

وفي هذا الصدد ينظر الناقد إبراهيم فتحي في هامش محفوظ ويستجليه بحذق خبير متمكن متستندا إلى رواية
” ثرثرة فوق النيل” مستشهدا ببعض الأوصاف التي وردت في جزئية من الرواية مثل : ” أغصان الجازورينا والأكاسيا، الأسقف المصنوعة من الاخشاب وسعف النخيل، المائدة الملتصقة بالجدار الأيمن ” أو عبارات من قبيل ” يأكل قطعة من الكوستيلتة ممسكا بطرف الريشة”.
يرى فتحي كما يورد الكاتب اصلان ان هذه الأوصاف قد لاتكون لها وظيفة تعبيرية حقيقية، ولكنها تقفز بجانب السطور في كتب المكتبة على ظهر العوامة، بوصفها دلالات وانطباعات حسية ،فتشكل جزءا من معنى الأحداث ”
وسواء كان النتاج المحفوظي الأدبي مكتوبا أو مصورا في الأعمال السينمائية أو الدرامية التلفزيونية أو الإذاعية، وبغض النظر عن رأي نجيب محفوظ بأن السينما قد ظلمت أو غيبت الجانب الوصفي في أعماله المصورة والمعروضة عبر الوسائط المرئية المتاحة آنذاك ، فقد وصل الرجل إلى العالمية مكللا بتفرده وتميزه الذي لايشبه أحدا في تجسيده للصورة الفنية من جهات وزوايا بسيطة وعميقة
،ويظل الأسلوب هو الفيصل ،في تحديد ملامح الهوية الإبداعية ورصد خطوطها السردية من قبل القارئ الحصيف، وهو بمثابة حمض نووي إبداعي لتمييز صاحب النص عمن سواه ، إذ أن قلة قليلة من الكتاب العرب والغرب فقط من استطاعوا أن يحجزوا لأنفسهم أمكنة بقاء في ركب هذه القافلة الإبداعية ومنحوا ذاتهم بطاقة عضوية دائمة فيها بأسلوبهم. وهنا نستحضر عبارة “ديكارت” التي تختزل أهمية تفرد المرء بالأسلوب والطريقة التي تمزه عن سواه ليس في الأدب فحسب ولكن في شتى ضروب الحياة يقول ديكارت ” لست أكثر عبقرية من أي إنسان آخر ولكني أمتلك منهجا (طريقة) بشكل إضافي”

*توظيف الهامش على رقعة النص*.

أن اقتصار توظيف الهامش و تموضعه بزاوية دون أخرى من مساحات النص لايصب في صالحه البتة
فالنص مسرح قائم بذاته ويسري عليه مايسري على نظام (الميزانسين) المسرحي حتى لاتظل هناك أماكن شاغرة ومظلمة في رقعة النص فتشكل بدورها ثغرات تشوه وتضعف حبكة القصة وتساهم في اختلالها.
ومن زاوية مقاربة يحتاج النص إلى معالجة وتشذيب واختزال زوائده الفائضة عن حاجة المعنى وتطويع مفرداته بكثافة أسلوبية وانزياحات أدبية راقية ومعبرة عن صميم الحدث، وهنا يكمن الأسلوب أو الطريقة
كما ان المقصود أيضا بالهوامش التي يراد من الكاتب أو القاص تأطيرها والاشتغال عليها ضمن الأطر السلوبية التجريبية هي الدراما التي تحاك في الظل أو على ضفتي النص،بمعنى كيف لي كقاص أن أشكل هذه العذابات والمعاناة الإنسانية وأترجمها بقوالب تتيح لهذا الهامش استيعاب هذا النسيج المتكاثف والمتجانس من الأنساق الدرامية المحبوكة وبعناية، بغض النظر عن تجيير المفردات أو تطويع المضمون أو تحييده او تناصه أو تماهيه مع أحداث تحوي مطالب أقلية مسحوقة أو معاناة من عنصرية اوتمييز أو هتافات الجماهير المشروعة أو غير المشروعة من وجهات نظر معينة وماتحمله من إحالات ظاهرة كانت ام مبطنة.

*كيف يتعاطي القاص مع الهامش؟*

كما يجدر بك كقاص أن تريني هنا ماذا يفعل الشخوص؟ بل كيف يصنعون الحدث ؟ وهم في طريقهم إلى مطلق أو مسلمة من قبيل التجريب الملموس والرقي بالمطلق إلى مصاف حقيقي وفعال في أطار القص ومحدداته،إلى جانب الاشتغال على المعطيات في ظل مواربة السياق وحدثه ،حتى تتوالد النتيجة في سرودها ضمن حقل دلالي مغلم باستنتاجات مفضية إلى النتيجة الأم ، وهذا هو مربط الفرس ولحم القص برأيي الذي يغطي الهيكل وهو الحبكة وسير خط الهدف العام
ولأن الأهم في الرحلة كما يقولون هو خط سيرها وليس نقطة الوصول، فطبيعة الانسان دائما عندما يصل إلى هدفه المنشود والمبتغى هو التحدث
عن المعاناة وليس عن الوصول، عن خط سير حبكة الصراع والمعاناة والمغامرة والمجازفة والتحدي والإصرار وكل مضمون ومدلول وصل عبره إلى هدفه إذا ما سحبنا هذه المضامين والمدلولات على واقعه المعيوش
ومن هنا تنطلق فكرة الهوامش التي تتناسل وتنسل عبرها الحكايا الصغيرة التي تشكل بدورها سلسلة من وقائع والاخفاقات والنجاحات من السقوط والوقوف من الألم والأمل من الراحة والمعاناة
من الموت والحياة ..وغيرها من الثنائيات والتضادات والمتجانسات أو المتغيرات التي شكلت هذا السلم ،لكنها تظل مادة مبتذلة أو مستهلكة إن لم يكللها الأسلوب والطريقة على بساط هذا المخفي حينا والظاهر حينا آخر الذي نسميه الهامش
ومن هذا المنطلق فإن المنتظر من القاص أن لا يسلك مسار القص التقليدي فيستعرض لنا عضلات من فاز أو انتصر في هذه المعركة أو تلكم الحرب أو يصور لنا انكسارات وخيبات الطرف المنهزم ولكن عليه وهو يقود زمام السرد وعلى بساط هامشه المسرحي رصد حيثياته هذا الهامش الصغيرة قبل الكبيرة التي أدت إلى هذا النصر او تلك الخسارة وليس عن النتيجة أو الحاكم أو البطل أو المنقذ، من هم وماذا يفعلون ؟
ولكن استجلاء الهامش
والكيفية التي صنعت بها النتيجة والفارق ، وبالمقابل كذلك عليه الغوص في لجج المفارقات وهي تنبثق من ثنايا الأحداث حتى لايقع في المباشرة فيكشف عن مسارات الهامش. إلى جانب التنقيب عن سبب السبب وجوهر الجوهر التي صنعها ابطال الهامش وما تحويه أرضيته البكر من خامات ومناخات وتضاريس شكلت هذا السبب أو ذاك الجوهر
وفي عالم الكتابة والقص يفتقر الكثير من الكتاب إلى صناعة الأسلوب والحفاظ على خط سير ضمن أطار أو أطر محددة بحيث يستطيع الامساك بزمامه أو التعريف بماهيته أو ماهو التأويل والتفسير تجاه هكذا طريقة؟ وكيف سبكها؟ وماهي أدواته في تشكيلها ؟ وغيرها من التساؤلات التي تصب وتبحث في هذا المنحى. بمعنى آخر هل يستطيع الكاتب الحفاظ على أسلوب ما ابتكره أو انتهجه ؟
وهل يستطيع توصيف معاييره وعناصره للآخر ؟ أم يظل يعرفه ويفسره كتعريف الماء بالماء !

*التأسيس لطرق وأساليب غير مؤطرة*

ومن نافل القول ان نجد الكثير من كتاب القصة من يؤسس لأساليب وطرائق جديدة جيدة ربما دون أن ينتبه لذلك الأسلوب أوالتكنيك في القص، فيرصده ناقد خبير أو قارئ مخضرم واسع الاطلاع ،ليبني عليه أسسا جديدة ومن وحيه يؤثث جنبات هذا العالم الساحر (عالم القص) . ولايشترط أن يكون هذا الأسلوب جليا أو واضحا ،فقد يستشف من بين ثنايا الهوامش ،أو من ماوراء سطور القص والسرد، أو من خلال التأطير لحدث ما بطريقة مغايرة غير الذي عهدنا في عالم القص وتظفيره ضمن سياقه والجو العام ،الذي سار الكتاب على توظيفه في كتاباتهم،
والتوظيف الذي نريده هنا، التوظيف المخالف للتقليد،المغاير للثوابت والمسلمات التي جرى عليها القص للتوظيف الظرفي الزمكاني لأهداف مغايرة تخدم الهدف الحدث أو القضية أو الشخوص وبطبيعة غير التي اعتدنا أن نلبسها إياها وبصبغة ونسق فيهما من التفرد والتجديد مايؤهلهما لأن يبنى ويؤسس عليهما فتحا جديدا في سياقات الهامش المتجدد، وبالإمكان أيضا ان يتم هذا التوظيف في إطار مزدوج يؤدي إلى مآلين في نفس الوقت ،على أن يكون كل ماذكرنا من توظيفات لتلك الظروف عقلاني ومنطقي والمنطقية هنا كذلك تشمل الميتافيزيقيا، حتى لايشذ هذا التوظيف عن هدفه بشكل غير مسؤول ،في إطار السياق العام لمسرح الهامش فيوظف بعيدا عن مساره ويغدو حينها بدعا من النص أو نبتا طفيليا يؤدي إلى ضعفه وركاكته .
وسواء كان هذا التشكيل للطريقة والأسلوب ضمن محددات الثوابت أو الهوامش
فإن الأمر يبدو شائكا لدى الكثير من الكتاب كيف يفسر أسلوبة او طريقته ؟
ومن زاوية أخرى وفي ذات النطاق الأسلوبي للنص فقد باتت الهوامش في عالم القص هي الشوارع والأبواب الخلفية التي يدلف عبرها السبب والنتيجة أو الحل والإشراقة في عرف الأطر الغير تقليدية لتؤدي بدورها إلى النهايات المرسومة للنص ،دون الانتباه من قبل الكثير من النقاد إلى حساسية هذه الجزئية التي
يفترض تطوير تقنياتها والاشتغال عليها ،إلى جانب تفنيد غموضها الموارب حينا والمشرع حينا آخر على سبيل الابتكار الأسلوبي الذي سبق ذكره في الفقرة السابقة.
كما لايمكن أن نغفل في هذا التجديد أنساق الهوامش التي يغلفها النص أو تحتويه فالتجديد بحذر ووعي يضمن بقاء هذه الهوامش ويؤسس لتموضعاتها كعوالم موازية تتشكل في أحشاء النص للتوالد وتنبثق من مساماته الخفية،
وهي بمثابة جبل عظيم لايظهر إلا القليل منه ،لتظل لذة البحث والتجريب متقدة لدينا ،كقراء ،و كتاب ،ونقاد.

*القصة وتوازناتها الداخلية*

ويتسع الحديث عن الهوامش وما تحدثه من توازنات بينها وبين الثوابت وتمد جسورها الخفية مابينها وبين المسلمات لتصل ببعضها وتتماهى لتنصهر في منظومتها الحكائية في بوتقة إبداعية متماسكة ، وحين نفتش في ثناياها لا نجد إلا اشتعالات الشغف، ونجوب خمائلها تطوافا وتحليقا تحدونا روح الدهشة وأطياف المتعة التي تتهادى كطيوف خلال أظاليلها المخملية وعندما نبحر في عباب متخيلها الفسيح يهب علينا نسيم الدهشة وتلفحنا عواصف تقلبات تياراتها فلا يفسد هبوبها اللافح غتامة الأجواء وعتو زوابعها الطاغية ولايبين صحوها الشفاف عن تمايزات متباينة تفرز الهامش عن المطلق بعد أن صارا جسدا واحدا محبوكا ومنصهرا في بعضه أو حتى تجسدت به صيرورته في إطار تداعياتها المشكلة لجسد النص فصار ركاما مبعثرا لكنه بالمقابل متجانس ومتماهي في ذاته .
ولعلي هنا أورد نصا مقتطعا من رواية “عابر سرير ” لأحلام مستغانمي يصب في صلب هذا التشبيه والتصوير للقاء الهامش بالمطلق وصيروراتهما على امتداد النص كنوع من المقاربة رغم اختلاف مضمون المقطع لكن مغزاه يتقاطع مع هذا التصوير والالتحام الذي يشابه لقاء الأحبة والعشاق .
( التقينا إذن .. الذين قالو ا: وحدها الجبال لاتلتقي أخطأوا،
والذين بنوا بينها جسورا لتتصافح من دون أن تنحني ،لايفهون شيئا في قوانين الطبيعة.
الجبال لاتلتقي إلا في الزلازل والهزات الأرضية الكبرى ، وإذ ذاك لاتتصافح بل تتحول إلى رماد واحد .)” ٢”
وعلى الرغم من تهميش الهامش في كثير من نصوص القص والحكايا ،إلا أنه يتموضع بين ذرات غبار هذه الجدلية ،من خلال إشكالية بناء النص الحكائي في تمظهراته وإحالاته
ودلالات حضوره ،فهو تارة يتكامل بمبني جسده ومتنه
وأخرى يتهادى خلالها مغزاه ويسري كروح تدب في جسد النص من دون أن يرصد، بحيث يظل مبهما كجسد حاضرا كمعنى
فيلجأ إليه القاص أو الكاتب حين يشعر بأنه قد أفرط في تعاطيه مع المطلق ومدلولاته على طول رقعة النص وعرضها ،عوضا عن ان هذا الافراط في التناول يكشف مدى بروز ثغرات على جدار النص إلى جانب فجاجة الطرح والوقوع في دوامة الاستهلاك اللغوي كمشكل أساسس في بنية جسد هذا النص،فينسل القاص عبر طوق نجاة الهامش كخيار بديل وباب طوارئ أوجسر عبور ،ولكن في هذه الحالة سيلعب الهامش دور كومبارس،وبحضور خجول وغير فعال ،الأمر الذي يحول دون رصده وتأطيره .
ويجدر بالهامش في بعض الحالات ان ينصهر بالمطلق ليجسدا نصا مائزا ومغايرا كنوع من تحقيق ،وبعيدا عن المجازفة الغير محسوبة التي تلغي ملامحه وهويته من خلال طغيان المطلق وسيطرته على مساحات النص فتلغي هذه السيطرة والطغيان حضور الهامش كمبنى ومعنى وهي إشكالية شائكة وقع في دوامتها الكثير من كتاب القصة
وإذن ، فإن آليات القصة من الداخل وأسسها ومداميكها وعناصرها، تخضع،وتصاغ ضمن مكونين رئيسيين ،هما : المتن الحكائي ،والمبنى الحكائي، وسواء كان الهامش أو المطلق هو الموضوع السردي المكتنف للنص، فإن هذين المبنيين يتحكمان في كيفية عرض واحتواء الأسلوب من الداخل كما ان كل أشكال السرود ،وأنماطها تصب في بوتقتيهما ، فيغزل عبرهما الكاتب المتمكن من أدواته وأنساق التداعي، والتتابع ،والتضمين ،والتناوب، أبهى الروائع والحلل الإبداعية الأدبية.

 

*هوامش :*
______________

١ – من مقال للكاتب والصحفي هشام أصلان بعنوان : ” إبراهيم فتحي .. قراءة العالم الروائي عند نجيب محفوظ” نشر في مجلة نزوى العمانية العدد ٧٠ إبريل ٢٠١٢م . / ص ٨٥

٢ – النص من رولية “عابر سرير ”
لأحلام مستغانمي/ ص ١٥٣

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!