تقديم لرواية(الخَصيبُ وَسَلْمى وَالأَمانَةُ). بقلم- محمد فتحي المقداد. سوريا

لصحيفة آفاق حرة

 

تقديم

لرواية (الخَصيبُ وَسَلْمى وَالأَمانَةُ)

 

بقلم- محمد فتحي المقداد. سوريا

يومًا بعد يوم يُثبِت الكُتّاب الروائيّون بأنّهم يرتقون بأدب الرّواية إلى مُرتقيات عالية سامقة، ومع الانتشار الواسع للأعمال الروائيِّة المُنجَزة عربيًّا، يُلاحظ أنّ أكثرها لا يُساوي قيمة الورق والحبر، وتكاليف الطّباعة، ومع تنازل الكثير من دور النّشر  طوعيًّا عن دورها الرّياديّ؛ لتصبح دكاكين وأكشاك لبيع الكتب والخُرداوات؛ تُنشد الرّبح فقط على حساب جودة المُنتَج الفكريّ.

الخَصيبُ وَسَلْمى وَالأَمانَةُ، ثلاث كلمات مُتباعدة الدلالات والمقاصد، لم يلتئم شملها لتصبح كعائلة واحدة؛ عنوانًا يحمل من المعاني الإشكالية بمراميه البعيدة والقريبة، لتكوين عتبة واسعة لتفتح للتَّأويلات والمعرفة، أراد به الباحث والمفكر “محمود مرعي” إعادة الأمور إلى نصابها، ولفت الانتباه إلى المادّة الأدبيّة الوازنة بمُحتواها المعرفيّ الحقيقيّ بأصالته وعقلانيّته الواعية ذات البُعد الأخلاقيّ الإصلاحيِّ، والإشارة إلى مواطن الخلل والفساد لمعالجتها، وإلى الزوايا السّوداء لتسليط الضوء الكاشف عليها.

وهو ما عبّر عنه في أول عبارات افتتح بها روايته: (كُلُّ ظَلامِ الكَوْنِ لا يُمْكُنُهُ اخْتِراقُ بُقْعَةِ ضَوْءٍ. اِنْتِصارُ النُّورِ عَلى الظَّلامِ حَتْمِيٌّ، النُّورُ أَصْلُ وَالظَّلامُ طارِئُ غَريبٌ دَخيلٌ لا مَكانَ لَهُ)، وجوهر أي عمل كان يتمحور حول الفكرة واللّغة، بينما اللّغة هي الحامل الحقيقي للفكرة  والعمل، وهو ما يأتي يؤكّده “محمود مرعي“: (في البَدْءِ كانَتِ اللُّغَةُ.. وَبَدْءُ الحَياةِ اللُّغَةُ.. وَبَدْءُ الحَضارَةِ اللُّغَةُ.. وَالإِنْسانُ بِلا لُغَةٍ مَنْفِيٌّ وَبِلا هُوِيَّةٍ.. فازْرَعِ اللُّغَةَ في الإِنْسانِ تُحَرِّرْهُ وَتَحْفَظْهُ وَتَنْفي مِنْ وَعْيِهِ نَفْيَهُ).

بهاتين العبارتين المُحكمتيْن منذ أوّل صفحة، إنّما هما إعلان صريح لهويّة الرّواية إجمالًا؛ ولكي لا تدع مجالًا لضياع رسالتها أو إفلاتها من ذهن القارئ؛ فقد جاءت على محمل لُغويٍّ عالٍ بمُستويات شعريّة وسرديّة  مُتماسكة، تتجلّى فيها تقنيّات اللّغة بوضوح لا يُخفي خبرة وموهبة “محمود مرعي” الطويلة بصحبة الشّعر والأبحاث والدّراسات اللغويّة المُتخصّصة، الأمر المُثلج للصّدر بأنّ حاملي لواء العربيّة وحُرّاسها، مازالوا قائمين على ثُغورها يُنافحون عنها بكلّ ما أوتوا من قوّة في معركة البقاء.

ببساطة شديدة لا بدّ من التوقُّف أمام جدليّة العنوان مع أول كلمة منه وهي “الخَصيبُ” غير المطروقة بصيغة صفة إلّا للدلالة مثلًا على مصطلح جغرافي (الهلال الخصيب) ليحمل معانيَ أيديولوجيّة ذات أبعاد سياسيّة برؤى حزبيّة ضيّقة أقرب للقناعة بتقزيم الوطن العربي الكبير، والاكتفاء ببلاد الشّام والرّافديْن. وبالاستدلال مما ورد على لسان الكاتب: (كانَ الخَصيبُ يَعيشُ عَلى شَفى حاضِرٍ مُسْتَحْضَرٍ مَجْلوبٍ بِلا تَطْرِيَةٍ.. كانَ حاضِرًا في مَتْنٍ مُمْتَدٍّ مِنْ مَطْلِعِ القَوْلٍ إِلى مَغارِبِ الإِفْكِ.. كانَ يَزيدُ خُصوبَةَ اللُّغَةِ كُلَّ آنٍ.. وَيَزْرَعُ تُرْبَتَها شَجَرًا يُؤْتي أُكُلَهُ كُلَّ حينٍ بِإِذْنِ رَبِّهِ.. كانَ الضَّميرَ الـمُتَّصِلَ بَيْنَ الأَئِمَّةِ الأُوَلِ وَفُقَراءِ يَقينِ عِلْمِ الأَسْماءِ.. عُراةِ الكَلامِ الـمُتَقَوِّلينَ في حاناتِ الخَطَلِ الحَداثِيِّ.. كانَ دائِمَ قِراعِ اللَّيْلِ الـمُتَرامي.. يَشُدُّ الفَجْرَ إِلى مَطْلَعِهِ وَاللَّيْلُ يَأْبى انْسِلاخَ الفَجْرِ عَنْهُ).

محمود مرعي” اختار بطله “حكيم الزّمان” الموازي لينطلق في عوالم السّرد تحت هذه اليافطة ببعد أهدافها ومراميها المهجوسة بواقع قلق وتاريخ مُترَع بصراعات مُتأججة مُتسارعة بوتيرة مثيرة، صراع النور والظلام، صراع الخير والشر، صدام الحضارات، ويمكن القول: إنّ “حكيم الزّمان“، ما هو إلّا الذاكرة التاريخية للأمَّة، وفي النهاية فإنّ “حكيم الزّمان” يمثّل “الخصيب“، وإن ظهر شخصًا آخر من شخوص الرّواية، ويكون بالتَّالي هو “محمود مرعي“، حَتّٰى الأمانة التي يُسلّمها “حكيم الزّمان” في نهاية الرواية للخصيب ثم يَتَلاشى، والأمانة حسب الرّواية هي تاريخ الشرق أو ذاكرة الأمة.

وبذلك يقول: (أَمَّا حَكيمُ الزَّمانِ فَلَيْسَ شَخْصًا، إِنَّما هُوَ التَّاريخُ بِأَحْداثِهِ، يَتَجَسَّدُ شَخْصًا حينًا وَيَظَلُّ خَفِيًّا حينًا، وَهُوَ مَوْجودٌ مُنْذُ بَدْءِ الزَّمانِ في الشَّرْقِ، وَقَدْ عاصَرَ الشَّرْقَ مُنْذُ قَتَلَ ابْنُ آدَمَ شَقيقَهُ، مُرورًا بِنوحٍ وَطوفانِهِ وَدَعْوَتِهِ لِابْنِهِ لِلرُّكوبِ مَعَهُ في السَّفينَةِ، إِلى عادٍ وَثَمودَ وَهَلاكِهِمْ، إِلى إِبْراهيمَ وَالقَوْمُ يَأْتَمِرونَ بِهِ ثُمَّ يُلْقونَهُ في النَّارِ فَيَخْرُجُ مِنْها سالِـمًا.. إِلى ابْنِ أُخْتِهِ لوطٍ وَقَوْمِهِ وَكَيْفَ كانَتْ عاقِبَتَهُمْ، إِلى بابلَ وَجِلْجامِشَ الَّذي ذَهَبَ بَحْثًا عَنْ عُشْبَةِ خُلودِهِ وَلَمْ يَعُدْ، إِلى تَشْييدِ بُرْجِ بابِلَ وَحَدائِقِها الـمُعَلَّقَةِ.. إِلى بِناءِ أَهْرامِ مِصرَ، إِلى موسى وَفِرْعَوْنَ الَّذي قَضى غَرَقًا هُوَ وَجَيْشُهُ، إِلى كِلْيوباتْرا وَانْتِحارِها، إِلى سَبَإٍ وَسَيْلِ العَرِمِ، إِلى داودَ وَسُلَيْمانَ الَّذي حَكَمَ الإِنْسَ وَالجِنَّ، إِلى عيسى وَصَبْرِهِ عَلى أَهْلِ الضَّلالِ ثُمَّ مُحاكَمَتِهِ.. إِلى زَنوبْيا وَوَفاتِها في روما، إِلى إِشْراقِ النُّورِ مِنْ جِبالِ فارانَ، أَيْ مَكَّةَ، وَما جرى لِلنَّبِيِّ العَرَبِيِّ الأَمينِ.. إِلى خَليفَتِهِ الأَوَّلِ وَحُروبِ الرِّدَّةِ، إِلى خليفَتِه الثَّاني وَفَتْحِ الـمَدائِنِ وَبِلادِ فارِسَ.. إِلى خالِدِ بْنِ الوَليدِ وَاليَرْموكِ.. إِلى قُطُزٍ وَبيبَرْسَ وَما خاضاهُ مِنْ مَعارِكَ.. إِلى شَجَرَةِ الدُّرِّ، إِلى صَلاحِ الدِّينِ وَمَآثِرِهِ.. إِلى جانِبٍ مِنْ حوادِثِ الرُّومِ، كَيوليوسْ قَيْصَرَ وَطَعْنِهُ مِنْ صَديقِهِ بروتوس، إِلى زَحْفِ الـمغول وهولاكو عَلى بَغْدادَ وَحَرْقِ كُتُبِها، إِلى ريكارْدوسَ، قَلْبِ الأَسَدِ وَمَعارِكِهِ مَعَ صَلاحِ الدِّينِ وَشَهادَتِهِ بِنُبْلِ صَلاحِ الدِّينِ، إِلى مَحاكِمِ التَّفْتيشِ في الأَنْدَلُسِ.. إِلى حَرْبَيْنِ كَوْنِيَّتَيْنِ، وَتَقْسيمِ هٰذا الشَّرْقِ إِلى مَمالِكَ وَدُوَيْلاتٍ رَغْمَ أَنَّ اللِّسانَ واحِدٌ وَالرَّبَّ واحِدٌ.. كُلُّ هٰذا وَفَوْقَهُ عايَشَهُ حَكيمُ الزَّمانِ.. وَشَهِدَ جانِبًا آخَرَ مِنْ حَياةِ الشَّرْقِ.. فَقَدْ كانَ شاهِدًا عَلى سَمَرِ العَماليقِ في مَكَّةَ وَالجَواري تُنْشِدُهُمُ الشِّعْرَ وَالخُمورُ تَفْعَلُ فيهِمُ الأَفاعيلَ، إِلى غَيْرِ ذٰلِكَ).

الروائي حاذق بصير لخطورة موقفه وموقف كلّ غيور من هذه الأمّة، فقد نسج توليفته السرديّة بالترميز والتكنية، للإفلات من أعباء ومصاعب الواقع اليائس والمُحبِطة بمجمله وتفاصيله، من خلال نافذة الحلم، لإعطاء مساحات أوسع للتعبير، وفرصة لانطلاق مخيال الكاتب إلى آفاق وعوالم بلا حدود ولا قيود، وللقارئ كذلك بتذكيره الدّائم بأنّه صاحب قضيّة، لا تقبل أنصاف الحلول، وأنصاف الالتزام، وأنصاف الحق. و رُبّ إشارة أقوى من كلمة، واللّبيب من الإشارة يفهم.

فرواية “الخصيب وسلمى والأمانة” لا أراها إلّا فسيلة غضّة العود، في تُربة صالحة للنموّ؛ لتنشر طيب ثمارها، وعبق عطرها، وفيء ظلالها الوارفة؛ لكلّ مُتعب يحمل نُسختها، يروم البحث عن الحق والفهم بالقراءة  الواعية والعميقة، وينهل من معينها الصّافي.

أمَّا سلمى الَّتي ظهرت حبيبة عَلى طول الرِّواية مع الخصيب، الحبيب، فنجد أنَّ دورها أكبر بكثير من كونها حبيبة، فقد قاسمته كلَّ شيء، حَتّٰى التَّعذيب كان لها منه نصيب لا يقلُّ عن نصيبه، وفي النِّهاية كانت الأمانة صندوقًا ثمَّ كتابًا، والكتاب لكليهما وليس له وحده، أي إنَّها قاسمته حمل الأمانة،  إذن، دور سلمى إضافة إِلى كونها حبيبة، فهي الشَّريكة في الأحداث وصانعة لها مثله من البداية إِلى النِّهاية، وفي هٰذا تحقيق إنصاف الـمَرأة كامِلًا.

الرواية بمجملها وقفة فكريّة وامضة شاهدة على العتمة. إنّها رواية مثقّفة باتّكاءاتها واستعادتها للأشعار  المُتوافقة في كثير من طُرُقها، أوردها الكاتب لتعزيز فكرة عمله الروائي، وللتأكيد على المكانة الهامّة للغة والشّعر والحكمة والقصص والحوادث، لاستجلاء العبر والعظات منها.

والله ولي التوفيق والنجاح.

 

إربد. الأردن

21/12/2022

 

عن محمد فتحي المقداد

كاتب وروائي. فاز بجائزة (محمد إقبال حرب) للرواية العربية لعام 2021م. الروايات المطبوعة هي تشكيل لرباعية الثورة السورية. -(دوامة الأوغاد/الطريق إلى الزعتري/فوق الأرض/خلف الباب). ورواية (خيمة في قصر بعبدا)، المخطوطات: رواية (بين بوابتين) ورواية (تراجانا) ورواية (دع الأزهار تتفتح). رواية (بنسيون الشارع الخلفي)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!