تقنيات الخطاب في رواية دماء جائعة للكاتب نشأت المصري/ بقلم:د.صبري فوزي أبوحسين

أستاذ ورئيس قسم الأدب والنقد بكلية الدراسات الإسلامية والعربية للبنات بمدينة السادات

أصدر الكاتب (نشأت المصري) أحد عشر عملا روائيا متنوعا  في  التوجه الفكري، بين رواية اجتماعية وهي “خاص جدًّا”، وثانية نفسية، وهي “المهزوز”، وثالثة رومانسية وهي “كوتشينة”، و عدة روايات تاريخية بين فرعونية ومملوكية، هي: نفرتيتي، تاوسرت، بلباى، الأمير المناور، سنة 1999م”، قبل روايته المبحوثة “دماء جائعة”، وبعدها روايات : ملائكة فى الجحيم ، اللحن المكسور، إمرأة بلا شاطىء ، ومن ثم فهو صاحب ممارسة إبداعية ممتدة مع هذا الجنس الأدبي الماتع.

وتأتي روايته “دماء جائعة” ضمن إصدارات الهيئة العامة للكتاب المتنوعة بين مختلف الأشكال الفنية والأدبية؛ سعيًا إلى نشر الثقافة والمعرفة بين مختلف أطياف المجتمع كالخبز والدواء؛ فهي منتج ثقافي إبداعي ساحر آسر جاذب، منير مرشد هادٍ، ومسهم في تطوير الشخصية المصرية والعربية، وتزويده بجرعة فكرية عتيقة تعينه على فهم واقعه وتحاول أن تجعل المتلقي يستشرف مستقبله. وهي رواية شبه تاريخية شخصياتها الرسمية والشعبية وبعض أحداثها متخيلة، بما يتسق مع روح المرحلة التاريخية والآنية معًا، وصياغتها بيانية شعرية فلسفية شفافة موحية، وهي متمازجة التوجهات في شخوصها وأحداثها وحوارتها، أيدلوجيًّا وتاريخيًّا وخياليًّا، فنجد فيها الاجتماعي والسياسي والعاطفي، والماضوي والآني في آن واحد، تجعل من التاريخ خلفية، بمعالجة أدبية ضمن مدرسة قائمة بذاتها تجعل التاريخ روحًا للعصر؛ فقد استدعى الروائي من الماضي هيكل عمله، وأنطقه ما يريد إيصاله إلى زمنه.

إنها رواية تتخذ من التاريخ قناعًا تقول من خلاله كل ما يعري واقعنا، ويعيننا على تجاوز خطايا الماضي وأزماته وتحديات الحاضر ومتاهاته، وتتضمن محاولات درامية لتحويل الثابت إلى متحرك، وتحيا شخصياتها فينا، حيث نرى أنفسنا في غيرنا؛ لنصبح في موقعنا المختار علامة عليه، ولكن إلى متى؟! وتوقن بعض شخصيات الرواية بقدرتها على التجاوز بلا حواجز، وحين تتصادم الغايات الكبرى قد تهزمها غايات صغرى وتتبدل المواقع وتلك طبيعة البشر في زمان ومكان، وحال ومآل…

والحق أنني طالعتُها منذ امتلكتها مطالعاتٍ عدةً، من ألفها إلى يائها، بشغف ونهم وحرص وتذوق، مطالعات جاءت في مفاتشة ذاتية مرات، ومحاورة نقاشية مع آخرين وأخريات حول بعض أطروحاتها، إلى أن أسفرت هذه المفاتشات والمحاورات عن تعديد معالم فنية بارزة في الرواية ومبدعها، على النهج الآتي:

التمهيد: خضرمة وعصرنة في المبدع

المبحث الأول: توظيف عتبات النص المحيط

المبحث الثاني: سيميائية المكونات السردية

وهاك بيان ذلك:

التمهيد: خضرمة وعصرنة في المبدع

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ما إن تراه أول مرة حتى تلفتك قامته الفارعة ، فهوإنسان قسيم وسيم مهاب، موغلة ملامحُه في الجينات المصرية والعروبية في آن واحد، كأني به الكاتب الفرعوني الحكيم(بتاح حتب) أو الحكيم الحنيف زهير بن أبي سلمى، أو الناقد الفذ والأديب العزيز (القاضي الجرجاني)… أو غيرهما من الكلاسيكيين العظماء الحكماء العقلاء النبلاء، فإن شافهته علمت أنك مع مثقف أصيل نبيل، ومبدع ساحر آسر ساخر، قليل لفظه، كثير مغزاه، عميق مرماه، هادئ نقده، بنَّاء لسانه، ذكي عقله، يتفرس من أمامه، ويختار مخالطيه.

إنه من النوع البشري الخاص جدًّا، الجاذب جدًا جذبًا روحانيًّا خالصًا، كأنه جد حينًا أو أب تارة أو أخ طورًا . إنه (نشأت المصري)، ذلكم الذي تابعت ما كتب عنه في نتائج (العلامة جوجل) وتعمقتها فأوقفتني على بداياته، وتطوراته، وإنجازاته الأدبية، وإسهاماته الثقافية بطريقة ومضية خافتة خاطفة، فبسطتها في مقالتي هذه:

إنه (نشأت شوقي محمد المصري) المولود في (منية النصر) في محافظة الدقهلية بمصرنا النجيبة، وتدرج في التعليم العام حتى حصل على بكالوريوس اقتصاد وعلوم سياسية من كلية التجارة بجامعة الإسكندرية عام 1967م، ثم عمل في مطلع حياته بالجمارك، ثم تفرغ للعمل الإبداعي الإيجابي الهادف، حيث حصل على منحة التفرغ للإبداع من وزارة الثقافة لمدة أربعة أعوام…

قال الشعر منذ وقت مبكر, اهتم اهتمامًا قرائيًّا بالأدب الموضوعي من قصة ورواية فقرأ قراءة متذوق عيون الأدب العربي والعالمي فيه، ومارس الكتابة على أنساقه، ثم اتجه إلى الكتابة للإذاعة والتلفزيون فقدم البرامج الأدبية والتمثيليات والفنون الدرامية, والمسلسلات الإذاعية, وكتب السيناريو للتلفزيون، وقد أسهم في العمل الصحفي فأشرف على تحرير بعض مجلات الأطفال في مصر والعالم العربي وأمريكا مثل مجلات: زمزم، وسنابل، ونورالدين…

هذا إلى جانب إبداعه الشعري الذي نشره في كبريات الصحف السيارة، والمجلات الخاصة بالأدب عامة أو الشعر خاصة. ومن دواوينه الشعرية: (النزهة بين شرائح اللهب) سنة 1979م، و(القلب والوطن) سنة 1986م، و(الحلم المعاند) 1996م، و(إلا هذا اللون الأحمر) 2004 م، و(قد نختلف) 2017م .

و امتد اهتمامه إلى المسرح الشعري، فقدم “أشواق النصر” و”الحفر إلى أعلى” وتم تنفيذ الأولى على مسرح جامعة الإسكندرية، وهما تنتميان إلى اللون الوطني. ومن إبداعه الشعري للأطفال: (حديث الأشجار:شعر الأطفال) سنة1983م، و(صانعة الإشعاع:شعر للأطفال) سنة1992م، و(البذور الغامضة: قصة شعرية للأطفال) سنة1992م ، و (معجزات الأنبياء شعرا للأطفال) 2016م

كما قدم سلسلة إبداعية نثرية للأطفال من خمسة أجزاء، عنوانها: (تسالي الليالي)، وغيرها ثم اتجه إلى التأليف الديني، ومن تجاربه للكبار: (النبي زوجًا)، (النبي باسمًا)، (النبي مبشرًا)، (كيف تكون مؤمنًا؟)، (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)، (الأحاديث القدسية)، (أخبار الجنة والنار). ومن دراساته الأدبية كتاب: (صلاح عبدالصبور الشاعر والإنسان)…. وقد تجسد نتاجه في ما يقرب من سبعة وعشرين عملاً روائيًّا وقصصيًّا، وثلاثين عملاً شعريًّا، ومسرحيتين، بالإضافة إلى ست آلاف وخمسمائة حلقة إذاعية، وقد بلغت أعماله المنشورة أكثر من مئة كتاب للكبار والأطفال في الشعر والقصة والمسرح والتراجم. كما نشرت أشعاره وأعماله الأدبية للكبار والطفل في معظم الصحف والمجلات المصرية والعربية، منها فى مصر: الأهرام، الهلال، الشعر، إبداع، أدب ونقد، أصوات معاصرة، الثقافة، الثقافة الجديدة، المنار الجديد، الكاتب، روزاليوسف، المسرح، مجلة الثقافة والفنون، القاهرة، المختار الإسلامي، وجريدة المصريون. وفى العالم العربي:جريدة الرياض، المجلة العربية، الفيصل، الكويت، الرافد، الآداب البيروتية. وترجمت بعض قصائده إلى الإنجليزية.

وفي مجمل إبداعه تجده سهلاً ممتنعًا ومضيًّا، فيما يقدمه من قصائد أو مسرحيات وقصص للأطفال، ويرجع دارسو شخصيته ذلك التوجه الإبداعي البياني التكثيفي لديه إلى تكوينه العلمي بحكم دراسته للسياسة والاقتصاد، ثم عمله الوظيفي مأمورًا للجمارك في مطلع حياته؛ إذ أفاده كثيرًا في الاختصار والبعد عن الإسهاب، والقدرة على اكتناز المعاني الكثيرة وحشدها تحت المفردات القليلة.

إنه (نشأت المصري) الذي له من اسمه كل نصيب: فاسمه من الجذر اللغوي(ن/ش/أ) الدائر حول الرفعة والسمو، قال ابن فارس في معجمه مقاييس اللغة:”النون والشين والهمزة أصل صحيح يدل على ارتفاع في شيء وسمو”، كما أنه دائر حول النشأة والإنشاء أي الإبداع والاختراع والابتكار، ولقبه(المصري) بكل ما توحيه اللفظة من عمق تاريخي وفني بديع عبر الزمان والمكان والإنسان. إنه من الأيقونات الأدبية السبعينية العصامية في آننا، اكتشفت موهبتها من عمر مبكر، في مرحلة الثانوية، فصنعت نفسها وحققت مجدها، ونشرت إبداعها في كبريات المجلات ودور النشر، ويلاحظ تعاور الشعر والسرد والدراما على موهبته وانطلاقه في الأجناس الثلاثة عبر رحلته الإبداعية المنداحة، وقد بسط الشعر أجنحته على إبداعه كله فأضاف إليه وعمَّق تعبيره، وأوقفه على جذور المعاني…

وما زال يمارس الإبداع خلال هذه الرحلة الطويلة حتى صار له باع كبير في مختلف الأشكال الفنية والأدبية، بين المسرح والرواية  والشعر وأدب الأطفال، والدراما الإذاعية، والكتابة للبرامج الإذاعية، والنقد الأدبي. وقد استطاع منذ انطلاق مسيرته الإبداعية أن يخلص لقضايا مصر والأمة العربية، وأن تكون تلك القضايا أحد مشاغله الرئيسة. وعلى الرغم من انتمائه إلى جيل السبعينيات معاصرًا للعديد من الاتجاهات والتيارات التي أشعلت الساحة الأدبية والنقدية وغيرت الكثير من سياقات الكتابة إلا أنه ظل محافظًا ومحتاطًا لتجربته التي تعمقت على اختلاف مساراتها؛ لتشكل بناء خاصًّا في نسيجه الأسلوبي والرؤيوي.

وسعي الإنسان نحو العدل والحرية مشغلته الأولى في مجمل إبداعه، وكذلك قضية الانعتاق من عبوديتنا للماضي التي تعطلنا عن الوثوب إلى المستقبل، فهو يرى أن ليس كل ما نرثه قابلاً للتطبيق أو ينبغي تطبيقه، وأن هناك أمراضًا نفسية وعقلية متجذرة في الجنس العربي المهزوم والمأزوم معًا الآن. وأنه قد أصبحت تعلة سخيفة ووسيلة الرمز للهروب من ضراوة الواقع، أو اللجوء إلى التاريخ أو الغرق في إسقاطات بدأت تفقد تأثيرها أمام الصور المباشرة الصارخة…

أيضًا تشغل كاتبنا وتعذبه هذه البشاعات الدامية اليومية في الوطن العربي المسكين؛ فقد أصبح الدم رخيصًا ومشهده اعتياديًّا. ومن رؤاه النقدية الجالدة أن الأدباء والمثقفين منفصلون حتى عن العربة الأخيرة، عربة السبنسة! وأننا نحتاج إلى مثقف يواجه أمراضنا الاجتماعية والسياسية معًا دون انتظار للدولار أو الدينار أو منصب مختار!

وتعجبني دعوته إلى ضرورة التخصص في العملية النقدية وأن ساحتها ليست مفتوحة أمام الأدعياء والأصفار من: المرتزقة والمتفرنجة والمنغلقة…

ومن ثَمَّ نال تقدير مجايليه وقارئيه ونقاد إبداعه فُلِقّب في الساحة الثقافية بـ(حكيم الشعراء) و(صديق الأطفال)، و(الكاتب المسرحي)، وأُلقبه بـ(المخضرم المعاصر)؛ لجمعه بين ثنائية الأصالة العتيقة، والمعاصرة الحديثة، بدقة وجودة وإمتاع وإبداع…

كما أسهم بفعالية في عضوية اتحاد الكتاب, ونقابة الصحفيين، وجمعية الأدباء، ورابطة الأدب الحديث, ورابطة الأدب الإسلامي العالمي. كما شارك في عضوية بعض لجان المجلس الأعلى للثقافة والمجلس الأعلى للشئون الإسلامية. كما حصل على جائزة الدولة في الشعر عن ديوان “قالت الأشجار”سنة1998م، وجائزة اتحاد الكتاب لأفضل قصص مصرية للطفل “مدينة القطط”سنة 2007م.

وقد نال إبداعه تلقيًا نقديًّا وثقافيًّا متنوعًا فنوقشت أعماله في كثير من الندوات والمؤتمرات من قبل كبار النقاد والمثقفين، ومن خلال العديد من الرسائل الأكاديمية في مرحلتي الماجستير والدكتوراه وغيرهما من الأبحاث العلمية في ميدان الدراسات الأدبية والنقدية والثقافية.إنه كنز مصري ما زال في نتاجه الكثير الذي يجدي ويضيف، ويغري بالقراءة والمثاقفة وصفًا وتحليلاً وتقييمًا. إنه حقيقة أديب متكامل مثير هادف، ما إن تسمعه أو تقرؤه حتى تجد نفسك أمام محيط من الثقافة والرؤى والمشاهد والمسارح والمسارد!  . ..

وها نحن أولاء نعيش مع روايته(دماء جائعة) من خلال عتبات نصها المحيط:(غلافًا وعنوانًا وعبارة مفتاحية، وتذييلا أو تعليقًا ختاميًّا)، ثم من خلال بنياتها الداخلية: (البناء الحدثي، والقوى الفاعلة في البناء الحدثي، والتعالق النصي).

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!