جمالية الأدب في كتاب “جارة القمر” لـ كفاية عوجان/ بقلم:رائد الحواري

الكاتبة لا تصنّف عملها تحت أي مسمى، واكتفت فيما جاء بالعنوان “جارة القمر”، وهذا الأمر يستوقف القارئ الذي سيكون أمام جنس أدبي
(مجهول)، فهو في عصر الرواية التي تهيمن على كافة أجناس الأدب، فهل نجحت “كفاية عوجان” في مغامرتها هذه؟، وهل استطاعت أن تقنع المتلقي أن الأدب الجيد لا يعتمد على الجنس الأدبي بقدر اعتماده على جودة الصياغة وجمالية اللغة المستخدمة؟.
للإجابة على هذين السؤالين سنحاول التوقف قليلاً عند ما جاء في الكتاب ونبدأ من عالم المرأة الأسطورة “شهرزاد”:
“تسكنني شهرزاد…
فحين يرتدي المساء ثوب ليلها
تؤلف الحكاية التي
يصغي لنبضها السلطان في جموع الحاشية
فتشتري بمتعة الكلام عمرا ثانيا.

يقول بعض الحاضرين والرواة
بأنها تلفق الأحداث في فنون قولها
لكي يكون السرد سليما إلى طوق النجاة
تخاف الصمت والشرود شهرزاد
يدفق الحديث من شفاهها
وتمتطي شجرة الكلام
تطوف بالأسماع مثلما يطوف البلاد السندباد

أميرة أو جارية
ليست تهمها الألقاب ما دامت
تفتش عن نجاة من حريق الغاشية
لا منطق يحكم في الليل يا أميرة السلطان
إن ظلت الأحلام
من أغصانها الورقاء عارية
فأنت اللوحة والرسام
وأنت الحاكم والقانون
وأنت لوعة السجين ساعة، ويقظة السجان
لا عيب لا آثام
فكل ما ترمي إليه شهرزاد
أن تطرد الكابوس من بحار حلمها
وأن تنام ليها الطويل
دون خوف من هروب عمرها
من ملعب الأيام.

لا ستائر لا أقفال
مفتوحة على مصرعيها الأبواب
ليدخل الضوء والضجيج…” ص9 -11.
إذا عدنا إلى ما جاء في كتاب ألف ليلة وليلة نجد مجموعة قصص/حكايات متنوعة الشكل والمضمون، منها ما جاء ممتعاً ومنها ما جاء مؤلماً، كما أن صياغة القصص/الحكايات تتداخل فيها أصوات الرواة، فهناك أكثر من راوٍ في الكتاب، فرغم أن هناك راوية رئيسية “شهرزاد” إلا أن هناك قصص روتها شخصيات غيرها. في هذا النص نجد ذكر “شهرزاد ثلاث مرات، الأولى جاءت من خلال الكاتبة نفسها “تسكنني شهرزاد” والثانية جاءت من خلال “يقول بعض الحاضرين”، والثالثة جاءت من خلال (استنتاج عام) “أن تطرد الكابوس من بحار حلمها” لما جاء في كتاب، هذه التقنية في (السرد) تتماثل مع ما جاء في “ألف ليلة وليلة”، وأيضاً نجد في النص المتعة حاضرة من خلال تعدد وتنوع القصص/الحكايات، فهناك مشاهد ممتعة وجميلة كما هو الحال في: “تطوف بالأسماع مثلما يطوف بالبلاد السندباد: وأخرى قاسية موجعة كما هو الحال في: “وأنت لوعة السجين ساعة، ويقظة السجان”، وبما أن “ألف ليلة وليلة” مُكوّن من ليالي، فقد استخدمت “كفاية عوجان” ما يشير إلى الليل من خلال: “المساء، ليلها (مكرر)/الليل، وبما أن الليل كان وقت سرد القصص والكلام، فقد انعكس هذا الأمر أيضاً على ما جاء في “شهرزاد”: “الحكاية، يصغي، الكلام (مكرر)، يقول، الرواة، قولها، السرد، الحديث، بالأسماع”، وهذا ما يجعل شكل نص “شهرزاد” صورة مصغرة عن ألف ليلة وليلة.
أما على صعيد المضمون فهناك سلطان وحاشية: “يصغي لنبضها السلطان في جموع الحاشية” أمراء وأميرات وجواري وخدم وحشم: “أميرة أو جارية، ومغامرات “سندباد” وعالم قاسي: “لوعة السجين ساعة، ويقظة السجان” وحكم: “لا ستائر لا أقفال/مفتوحة على مصراعيها الأبواب/ليدخل الضوء والضجيج” إذن نص “شهرزاد” صورة مصغرة عما جاء في “ألف ليلة وليلة”، فالكاتبة قدمت الكتاب بصورة معاصرة، تنسجم مع عصر السرعة والتكثيف، وهذا ما يجعل القارئ يتقدم إلى ما جاء في الكتاب ليعرف أكثر عن هذه العوالم وهذا الإبداع القصصي/الحكايات”.
الكاتب/ة الجيد هو الذي يقدم ثقافته/لغته بطريقة غير مباشرة، بحيث يوصلها للقارئ من الأدب، فلا يشعر بأنها مفروض/سقطت عليه ممن يعتلي المنبر، فالثقافة الدينية جزء أصيل من تكوين الكاتبة، ولا يمكن تجاهلها أو إهمالها، لكن طريقة تقديمها مهم لتصل بصورة صحيحة وجميلة للمتلقي، هذا ما فعلته “كفاية عوجان” في كتابها “جارة القمر” جاء في “سهاد القلب”:
“كيف يكون غياب طيفك يا صديق الناي
محمولا على جسد الحضور؟
تحيط بي في حوامة الفراغ والقلق،
وتستفز غفلة بروقا في دمي…،
فتنكسر الحواجز في سهاد الليل
حين يرشفها المطر
سل نايات المطر
سل نايك الغجري
كم لبثت مدامع عزفه هنالك
في رقيم القلب
أيوماً؟ أم هل تُراك لبثت بعض العمر؟
تزاور شمس الروح عنك
ولو اطّلعت على رنيم القلب
ما وليت عشقاً من سهاد
وللبثت في كهف الشغف،
يا وجدي العالي… سنين عددا” ص21و22.
سورة الكهف تتحدث عن الفتية الذين لبثوا في كهفهم سنين عددا، فهناك تركيز على الزمن الذي لبثوا فيه، فهو المعجزة/الكرامة التي خصها الله بهم” لبثوا” تستخدمها الكتابة في نصها فتكرره ثلاث مرات، وكأنها تؤكد على قدسية “لبثت/ وللبثت”، ونجد تأثرها بسورة الكهف” من خلال: “في رقيم القلب/ أم هل تُراك لبثت بعض العمر؟/ تزاور شمس الروح عنك/ولو اطلعت على رنيم القلب/ وللبثت في كهف الشغف/ سنين عددا” كل هذه جعل النص في غاية الجمال، فالتناص لم يأتِ مقحماً في النص، بل جاء منساباً وسلساً، بحث أضفى لمسة ناعمة عليه، وأيضا أكد وأوصل فكرة ثقل زمن الفراق/الابتعاد عن الحبيب، فهذا المزج بين ما هو ديني/مقدس وبين ما هو شخصي/عاطفي، لا يأتي إلا ممن هو قادر على توظيف ثقافته ولغته بصورة أدبية.
ولم تقتصر الثقافة الدينية على الأدب فحسب، بل نجدها في سلوك الكتابة، فإيمان بالله هو أساس الدين، “كفاية عوجان” تتحدث عن الإيمان في “غربة متضرعة”:
“…
تصعد الآه في أعماقي بسجدة
وأقول: يا الله
يا من تقدست أسماؤه الحسنى
وسبحت له الخلائق في علاه
رأسي مثقل
وكل نبض في صارخ: تعبت هي الحياة
أخمد ضجيج الكون في دمي
لم يبق إلا دمعة أفضي بها إليك
نيرانها سالت على الشفاه
فمن سواك
يعيد روحي التعبى إلى حماك” ص139و140.
نلاحظ أن بداية مخاطبة الله جاءت بتقديسه وتعظيمه: “يا من تقدست وسبحت” وهذا يعود إلى مكانة الله في الكاتبة، فتراه أهل لهذا التقديس والتعظيم، ونجد مشكلاتها/همومها تتمثل في “الاختناق، مثقل، تعب، ضجيج” وكلها نفسية وليس مادية، وهذا يشير بطريقة غير مباشرة إلى أن الدعاء صادر من أديبة/كاتبة، تمتلك مشاعر مرهفة وحساسة تجعلها تتأثر بأي شيء حولها، فتطلب من الله أن يساعدها على تخطي تأثرها بالواقع/بالأحداث/بالشخصيات/بالزمن/بالمكان، وبما أن النص ختم بكلمة “حماك” فقد بدا للمتلقي أن كل الهموم التي ذكرت قد زالت بعدها.
جميل أن يكتب الكاتب/ة ذاته، ما يشعر به، والأجمل أن يقدم هذا الشعور/الحاجة/الرغبة بصورة أدبية، في “أراك أكثر” تحدثنا الكاتبة عن حاجتها/حبها كامرأة للرجل:
“…
وشم أنت في عيني وذاكرتي
ما زال اسمك لكل أشيائي كلمة مرور،
أتذكر حين علي كنت منهمرا كحبات المطر
وتشعل صيفي الناري بطيفك إن حضر،
فكيف يجوز تتركني خريفا عاري الأغصان
أدق بكفي باب الأمل” ص168.
اللافت في هذا المقطع الصورة الأدبية التي تحاكي فصول السنة، فالكاتبة حالها كحال الناس الذين بطبيعتهم يميلون إلى قبول الصيف والشتاء، لكنهم ينزعجون من الخريف، لما فيه من موت للخضرة/للجمال وانعدام الخير/الخصب، “كفاية عوجان” عبرت عن حاجتها/رغبتها/حبها من خلال موضوع عام، ليكون خاصاً وخاصاً جداً، فهي تحاكي رغبة “عشتار” في تموزها، وكيف أن غيابه عنها يمثل خريفاً لها، فبدا النص وكأنه قادم من العالم القديم، عصر عشتار وتموز، عصر بعل وعناة، وهذا ما أضفى عليه جمالية تراثية/أسطورية ممزوجة بالعصر/بالحاضر، وهنا يكمن إبداع “كفاية عوجان”.
الكتاب من منشورات وزارة الثقافة الأردنية، الطبعة الأولى 2022.

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!