جمالية الصورة الشعرية في ديوان “الفروسية” لأحمد المجاطي

آفاق حرة

حنان اليمني

 تقديم:

عندما تحررت القصيدة المعاصرة من قيود الشعر القديم، أخذ الشاعر يعبر عن قضاياه في صورة فنية تتوافق وحالاته النفسية والشعورية، بعدما تخلص من وحدة القافية التي كانت تقيد في بعض الأحيان صوره ومشاعره وأفكاره، وأطلق العنان للصورة الشعرية التي عرفت تجديدا كباقي عناصر القصيدة، بمعنى أن «عدم التقيد بعدد من التفعيلات في البيت مع التخلي عن نظام القافية المتراوحة لا يكفيان وحدهما لاعتبار الشعر شعرا حديثا ما لم تتوفر له عناصر الحداثة الأخرى، سواء ما تعلق منها بالشكل كاللغة، والتصوير البياني، أو ما تعلق بالمضمون نفسه»[1]. وعلى هذا الأساس سيعرف مستوى التصوير البياني كذلك تطويرا وتجديدا، وهذا لا يعني أن هذا المكون تم استحداثه في الشعر الحديث، بل تعتبر الصورة أحد ركائز الشعر الأساسية، وجزء من مبنى القصيدة منذ القديم، بل هي حسب رأي جابر عصفور«الجوهر الثّابت والدّائم في الشعر»[2]. و«إذا كانت الصورة تنبع عند الشاعر من الخيال والقدرة على إدراك الواقع وفهمه وسبر أغواره، لإعادة تشكيله بما يكون أكثر تعبيرا عن حقيقته، وهي بهذا المعنى تجمع بين الحقيقي والمتخيل، وبين المألوف والغريب، مما تصبح معه الصورة بالإضافة إلى وظيفتها الوصفية البيانية الجمالية ذات دلالة أعمق تكشف عن خبايا الشاعر وغور رؤيته وموقفه»[3]، فالشاعر الحديث لم يعد يهتم بتحرير أخيلته من الأساليب البيانية القديمة، وربطها بتجربته الجديدة فحسب، بل تعدى ذلك إلى توسيع أفق الصورة الشعرية نفسها، لتتسع لأكبر قدر من الاحتمالات المتصلة بأعماق التجربة، لأن الصورة الشعرية ترتبط ارتباطا وثيقا بالتجربة الشعورية وهي «طريقة من طرق التعبير ووجه من أوجه الدلالة»[4].

ومع الشاعر أحمد المجاطي، شرع الشعر المغربي نوافذه على رياح التغيير، فلجأ إلى مكون من مكونات الشعر، أي تشكيل صورة شعرية جديدة بأساليب جديدة محاولا بذلك اللحاق بركب تحديث الشعر. وبالإضافة إلى كون ديوانه الوحيد “الفروسية” يشكل المنعطف الحاسم في شعره، فإن إصداره له لم يأت عبثا، إذ يستخدم فيه الشاعر«جميع أسلحته دفعة واحدة، يقذف تاريخه الشعري في الفضاء ويبحث عن لغته الجديدة. لذلك تندرج جمله في أكثر من إيقاع واحد، وتشحن من داخلها وخارجها.. وهي في حركتها تحتضن الصور الشعرية ولا تتوقف عندها»[5].   

  1. النزعة البيانية القديمة في ديوان “الفروسية:

مازال أحمد المجاطي يسير على خطى الشاعر العربي القديم في الاعتماد على أسلوبي التشبيه والاستعارة لأنهما يحققان وظائف في النص الشعري، فإلى جانب الوظيفة الجمالية التي تضفيها على النص الشعري، فإن لها وظيفة تعبيرية ودلالية كذلك؛ لأن الصورة الشعرية باعتبارها تشكيلا لغويا فنيا يكونه خيال الشاعر انطلاقا من معطيات حسية ونفسية وعقلية، ذلك أن «الصورة هي مرآة التجربة التي تعكس من خلال خيال الشاعر قوة انفعالاته، في شكل خيوط تلتحم وتتنامى منسجمة في إيحائها وتجريدها مع إيقاع الحروف والكلمات، لتبعث دلالات تتلقاها النفس مثارة مشوقة، بما تحمله من أحاسيس الشاعر ودفقات إبداعه»[6]،  والتي قد تكون ممتدة وكلما امتد الانسياب النفسي لدى الشاعر كلما شملت الصورة الشعرية عددا غير محدد من الأسطر، لأن الصورة الشعرية في القصيدة المعاصرة لم تعد رهينة بيت شعري واحد، وإنما أصبحت الصورة في الشعر الجديد تشمل مجموعة من الأسطر قد تقصر وقد تطول لتستغرق القصيدة بأكملها، وخير دليل على ذلك قصيدة “عودة المرجفين” التي تعتبر كلها صورة شعرية واحدة تصور الواقع، وتتضمن بين ثناياها صورا شعرية فرعية عديدة ترتبط بالصورة الأصل، ويعتبر هذا الامتداد في الأسطر الشعرية أو في الصور الشعرية خاصية من خصائص القصيدة المعاصرة، وبتأملنا لهذه القصيدة نجد معظم صورها تصور الواقع المتردي والمنهزم، من الصور التي تحدث فيها عن المرجفين الذين كانوا فرسانا وشجعانا، وبسبب الاضطراب والذعر والرعب الذي خيّم عليهم بعد الهزيمة:

صارُوا كالضَّبَاب الجُـون

قيلَ أبْيَضٌ كالقُطْن

               قيلَ أسْوَدٌ كالمَوْتِ[7]

يبدو أن السطرين الثاني والثالث “صورتان فرعيتان” يفصلان ما جاء مجملا في السطر الأول “الصورة الأصل”، أي أن لون المرجفين بعد عودتهم منهزمين صاروا كلون ضباب خالطه لونين تم توضيحهما في الصورتين الفرعيتين “أبيض كالقطن” و”أسود كالموت”. وعموما فالصورة الشعرية هنا تتكون من تشبيهات دلت على عمق المأساة والهزيمة والضياع. وهذه الدلالة تمت عبر الجمع بين ثنائيتين (أبيض/أسود، القطن/الموت). وهذا الجمع بين الأضداد خلق توترا في القصيدة.

أما بالنسبة لأسلوب الاستعارة فالقصيدة غنية بالاستعارات، نقتصر على الصورة الشعرية التالية:

لا جبَلَ يَصُولُ إذا مَشَوْا[8]

شبه الشاعر هنا الجبل بالإنسان حيث ذكر المستعار له “الجبل” وحذف المستعار منه “الإنسان” ورمز إليه بشيء من لوازمه “يصول” على سبيل الاستعارة المكنية.

من خلال هذين المثالين تتبين لنا براعة الشاعر في إحكام صياغة صوره الشعرية وقدرته على تشكيلها الجميل ليس في هذا النص وحده بل في سائر قصائد ديوان “الفروسية” التي تتخصب دلالاتها بشبكة متداخلة من الصور الشعرية، فالاستعارات والمجازات في القصيدة تتكاثف بشكل لافت للانتباه، حيث تطل منذ مطلع قصيدة “الفروسية” مجموعة من الانزياحات التي تتحول معها معاني ألفاظ النص إلى معان جديدة:

سَحَائبٌ مِن نَشوةِ الغُبارِ

          في السَّاحَهْ

تَصفعُ وجهَ النَّجمِ

         أوْ تصوغُ أشباحَا

        من خَببٍ بطيءْ

والخَيلُ تعلكُ المَدى

          تدكُّ ألواحَهْ[9]

في هذا المقطع تحول مثار النقع أي الغبار المتطاير إلى رغوة، وأن النجم صار وجها يُصفع، والمدى مادة تعلك، والأشباح تصاغ من خطى الخيل، وتنطوي القصيدة على كلمات وعبارات أخرى ملأها الشاعر بمعاني جديدة، منها قوله في نهاية المقطع الأول:

وَتَنْتَشِي زُغرودهْ

تهلُّ أو تُضيءْ

             ويستفيقُ الثَّلجُ في أحشاءِ

                                  بارودَهْ[10]

حيث الزغرودة أضحت تنتشي وتضيء، والثلج يستفيق في أحشاء بارودة.

وفي المقطع الأخير من القصيدة:

 تفلتُ من أصابعي الثَّوانْ(…)

                   فتىً يمصُّ الخَمرَ مِن مَراضِعِ الدِّنانْ

حتَّى الصهيلُ المَيْتُ

             حتى الْخَببُ الكَئيبُ

والقِنَّبُ المفتولُ في حِبالِكَ

                 المَمْدودَهْ

أمسى سَراباً سالَ من جُعبَةِ

            بارودهْ،[11]

صارت الثواني تنفلت من بين أصابع الشاعر، والدِّنان تصبح مراضع يمتص منها الخمر، والصهيل يموت والسراب يسيل من جعبة البارودة…، إن هذه الانزياحات وغيرها «هي التي تخرج اللغة من الاعتيادية إلى الشعرية.. وبالتالي الغرض منها الرفع من حدة الدهشة… والرفع من شدة الانفعال، والتوتر.. والرفع كذلك من جمالية اللغة وفنيتها.. وهذا كله يزيد المتلقي تأثرا، وانفعالا… وبالتالي تصبح العلاقة ما بين القصيدة ولغتها والمتلقي، لغة تأثر وتفاعل…»[12].

ومن هنا نجد الصورة الشعرية بتشبيهاتها واستعاراتها وانزياحاتها قد حققت في المتن الشعري وظيفتين اثنتين؛ الأولى فنية والثانية تعبيرية دلالية؛ إذ أضفت على النص جمالا ورونقا من جهة، وساهمت في شحن لغة النص بدلالات جديدة خدمة للرؤية الشعرية المختزنة فيها، وهي تعرية واقع الهزيمة والانكسار ونقل صورته المأساوية إلى القارئ من جهة ثانية.

  1. رموز وأساطير ديوان “الفروسية“:

لقد تطورت الصورة الفنية عند الشعراء المغاربة الجدد الذين لم يقفوا عند الجماليات البيانية التي قننتها البلاغة العربية، ولم يكتفوا بها، بل سارعوا إلى إغناء التجربة الشعرية المغربية المعاصرة، وذلك من خلال التوسل بتقنيات جديدة أبدع الشاعر المغربي في توظيفها بمهارة فائقة، لتشكيل الصور الشعرية في نصه الإبداعي، ونقصد بهذه التقنيات الرمز والأسطورة. وكانت غاية الشاعر المغربي من توظيفه لهذه التقنيات الجديدة هي البعد عن التعبير التقريري، ولن يتأتى له ذلك إلا عن طريق التوسل بالرمز وهو أسلوب «يقوم على الإيحاء والتلميح، بعيدا عن التعبير التقريري المباشر، إذ يسعى الشاعر إلى عالم غير عالمه الواقعي الذي ضاق به، يعبر عنه بلغة تخرج عن مألوف المعجم العادي مشحونة بكل ما يمدها به الرمز من معان وتأويلات»[13]. وقد برع أحمد المجاطي في ديوان “الفروسية” في الاعتماد على الإيحاء بغية إغناء المعاني وتكثيفها، ولتحقيق هذه الغاية استثمر الشاعر في صوره الشعرية الرمز على اعتبار أنه «ليس إلا وجها مقنعا من وجوه التعبير بالصورة»[14].

وتعتبر قصيدة “الفروسية” نموذجا من رمزيات الشعر المغربي المعاصر، ويقصد الشاعر برمز (الفروسية) وبمشاهدها الفولكلورية الفشل الذي طال الطبقة الثائرة التي كانت تحاول الانطلاق نحو فروسية جديدة في الواقع السياسي، وهذا يعني أن بطولتها وهمية، لأن الطبقة الحاكمة وقفت في وجه كل من يقف ضد مصالحها، وبهذا فإذا كانت تعبر الفروسية عن الفرحة والنشوة باعتبارها لعبة تجسد الفروسية والشجاعة في المجتمع المغربي، فإنها تعني عند المجاطي الانهزام والفشل في تعبير المواطن المغربي عن رأيه في الوضعية السياسية المغربية في مرحلة الستينيات.

وإذا نظرنا إلى رموز قصيدة “عودة المرجفين” فهي في الغالب مستوحاة من حقل الطبيعة مثل: الليل- الموج – النهر- الماء- الريح- الثلج… ولعل أكثر الرموز ورودا في شعر المجاطي وفي الشعر الحديث عموما هو رمز(الريح) الذي يعتبر«من النماذج البدئية التي تشكل قوام اللاشعور الجمعي للجماعة البشرية. وذلك بوصفها رمزا للدمار والخراب. حيث إن الآلهة حين كانت تغضب على مدينة ما، تسلط عليها أداتها التدميرية الفعالة، وهي الريح، فتجعلها نسيا منسيا. لقد منحت الشعوب القديمة آلهتها أسلحة فتاكة واحدة، وهي الصاعقة والرعد والريح»[15]. وقد ورد هذا الرمز في قصائد عديدة من ديوان “الفروسية”، والمقاطع التالية توضح ذلك:

يقول المجاطي في قصيدة “كبوة الريح”:

علَى الْمُحِيط يَسْترِيحُ الثَّلجُ

      والسُّكوتْ

تَسَمَّر الْمَـوْج علَى الرِّمَالْ

   والرِّيحُ زَوْرَقٌ

           بِلا رِجَالْ

           وبعضُ مِجْذافٍ

                     وَعَنْكَبوتْ،[16]

في هذا المقطع صارت (الريح) مرادفا لزورق تائه مهجور تقطنه العنكبوت ويعمه السكون.

ويقول المجاطي في القصيدة نفسها:

وكَانَ رِيشُ النَّسْرِ

        فِي جِراحِنا العَمِيقَهْ

       فَماً

       وَتوقاً ظَامِئاً

       لِدَقَّةِ الطبولْ

لِعَصْفةٍ مِنْ كَرَمِ الرِّيحِ

      تَبلُّ رِيقَهْ[17]

وفي قصيدة “كتابة على شاطئ طنجة” يقول:

هَبَّتِ الرِّيحُ مِنَ الشَّرْقِ

زَهَتْ فِي الْأفْقِ الغَرْبِيِّ

             غَابَاتُ الصَّنَوبَرْ[18]

كما وردت كلمة (الريح) في قصيدة “سبتة”:

أنا النهرُ أسْرجُ هْمسَ الثَّوانِي

          وأَركُب نَسغَ الَأغانِي

          وأَترُكُ للرِّيحِ والضَّيفِ صَيفِي[19] 

أما في قصيدة “الدار البيضاء” فيقول:

هَا أَنَذَا أُمْسِكُ الرِّيحَ

نْسُجُ مِنْ صَدَإِ القَيْدِ رَايَهْ[20]

وغيرها من المقاطع الشعرية التي وردت فيها (الريح)، وتختلف دلالات هذا الرمز الطبيعي من مقطع إلى آخر، حيث ورد في قصيدة “عودة المرجفين” مرة للدلالة على الدمار ومرة للدلالة على الثورة، الدلالة الأولى وردت في المقطع الثاني:

ولكنَّ الذي اسْتَغْوى أسارِيري

انْتصِاراتي علَى المْوتِ

امْتِدادي في مَهَبِّ الرِّيحِ

تَفْجيري الأسَى

               في سَطوةِ الدّهرِ اللَّعينَهْ[21]

أما الدلالة الثانية فوردت في المقطع الأخير:

يا قلباً رَمَى الِمرساةَ

        لِلرِّيحِ الجَريئَهْ

قِفْ عَلى مَوْتاكَ

      وادفِنْ سَوْرةَ الثَّلجِ

                        بعينَيكَ،[22]

لتحديد دلالة رمز واحد متكرر في كل مقطع، «ينبغي أن ندرك أن استخدام الرمز في السياق الشعري يضفي عليه طابعا شعريا، بمعنى أنه يكون أداة لنقل المشاعر المصاحبة للموقف وتحديد أبعاده النفسية. وفي هذا الضوء ينبغي فهم الرمز في السياق الشعري، أي في ضوء العملية الشعورية التي تتخذ الرمز أداة وواجهة لها»[23]، ودلالة رمز(الريح) في قصيدة “عودة المرجفين” تتحدد في المقطع الثاني في سياق حديث الشاعر عن الثورة والتغيير، أما في المقطع الأخير فقد ورد في سياق تصوير واقع السقوط والهزيمة، ومن هنا تبرز علاقة السياق بدلالة الرمز، وهذا ما يمنح الرمز في القصيدة المعاصرة قيمة جمالية.

وبهذا جعل الشاعر (الريح) رمزا موحيا تختلف دلالاته من سياق لآخر، ولكنه جسد عموما معاناة الإنسان، وعلى هذا الأساس فإن رمز (الريح) يحيل «على أكثر من محمول جمالي بحيث يصعب تصنيفه في حقل جمالي واحد، غير أن هذا لا يمنع من القول إن ثمة سياقات تكاد تكون محددة، استعمل فيها رمز الريح، في الشعر الحديث. مع الإشارة إلى تلك السياقات تضيف الكثير من المعاني إلى الريح بوصفها نموذجا بديئا. حيث إن الريح، في الشعر الحديث، قد انتقلت من حقلها الطبيعي ومن حقلها الديني أيضا، إلى الحقل الاجتماعي بمعناه الأوسع. أي الريح لم تعد سلاحا بيد الآلهة، بل سلاحا بيد الحياة الاجتماعية، والسياسية منها بخاصة»[24].

وإذا نظرنا إلى الكلمات الواردة في قصيدة “القدس” نجدها تبدو بسيطة، لكنها تصبح أكثر اتساعا لدلالات أعمق، والمقاطع التالية توضح هذه الكلمات، يقول في المقطع الأول:

رأيتُكِ تَدفنينَ الرِّيحَ
تَحتَ عرائشِ العَتْمَهْ
وتَلْتَحفِينَ صمتكِ

              خلف أعمدةِ الشَّبابيكِ[25]

ثم يقول في المقطع الثاني:

تحزُّ خناجرُ الثعبان

                ضوء عيونك

                            الأشيبْ                               

وتشمخ في شقوق التيه

              تشمخ لسعة العقربْ

وأكبر من سمائي

              من صفاء الحقد في عينيّ

                                     أكبر[26]

وفي المقطع الثالث يقول:

مددتُ إليكِ فَجراً من حنيني

للرَّدى وغمستُ مِحراثي

ببطنِ الحُوتْ[27]

يجسد الشاعر من خلال هذه المقاطع واقع القدس في ظل الاحتلال الصهيوني عن طريق توسله برموز بالغة التكثيف، ومن خلال صور شعرية غزيرة الدلالة، فكلمة (الريح) في أول مقطع من القصيدة قد تحيل إلى “قصة سليمان”﴿وَلِسُلَيْمَٰنَ ٱلرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ﴾[28]، وكلمة (الثعبان) في المقطع الثاني تحيل إلى “قصة موسى” وكلمة (الحوت) في المقطع الثالث قد تحيل إلى “قصة يونس”… وغيرها من الكلمات.

كما ظل الشاعر في المستوى الرمزي ينهل من الطبيعة، وهذه المرة اعتمد رمز (النهر) في قصيدة “قراءة في مرآة النهر المتجمد”:

يحمل في غثائه الأشجارْ

والكتبَ الصَّفراءَ

             والمَوائِدْ                       

والصَّمتَ والقَصائِدْ

ودارَ لقمانَ

           وأطلالَها       

والْمُدنَ الأسوارْ

حتَّى إذا أتى رحابَ القُبَّةِ السَّعيدَهْ

أَلقى نُثارَ الغَضبةِ الحمَراءْ[29]

استعمل الشاعر رمز (النهر) في هذا المقطع في سياق التعبير عن الماء القوي الجارف لكل شيء يصادفه في طريقه كالأشجار والكتب الصفراء والموائد والصمت والقصائد ودار لقمان وأطلالها والمدن والأسوار، وحين أتى رحاب القبة السعيدة يهدأ ويلقي جانبا غضبته الحمراء، من هنا فالنهر لم يكن رمزا للدمار بل رمزا للتطهير أي تطهير الطريق من كل العراقيل التي تحول دون تحقيق الآمال المرجوة.

ورغم أن رموز الطبيعة هيمنت في الديوان بشكل بارز، فإن الشاعر عمد إلى تنويع مصادر رموزه نظرا لموسوعيته وغنى ثقافته، وهذه المرة استلهم من النسق التاريخي لصياغة صوره الشعرية شخصية (طارق) في قصيدة “سبتة”:

أمنحُ عينيكِ لونَ سُهادي

                  وحزنَ صهيلِ جَوادي

وأَمنحُ عينيكِ صولةَ طارِقْ

وأَسقطُ خلفَ رمادِ الزَّمانِ

              وخلفَ رمادِ الزَّوارِقْ[30]

من المعلوم أن هذه الشخصية التاريخية تركت بصمات مشعة في التاريخ العربي من خلال البطولات والأمجاد التي صنعتها، وكأن الشاعر يدعو إلى الاحتذاء بها لتحرير مدينة سبتة من قبضة المحتل، لكن يبدو أن المؤهلات غير كافية لتحقيق المراد، لذلك “يسقط خلف رماد الزوارق”، «وقد ساهمت هذه الأنساق التاريخية الموزعة في الديوان في رسم صورة ودلالات شعرية متوهجة تستلهم الأحداث التاريخية وتعيد إنتاجها شعريا دون السقوط في أسر التاريخ وأسر اللغة الشعرية»[31].

إن الرموز بمصادرها المتنوعة، تدعم بحمولاتها الفكرية والنفسية دلالات النص العميقة، وبالتالي تعمل على إيقاظ ذاكرة المتلقي وإخراجها من دائرة السكون، وهذه الغاية هي التي تعلل لجوء الشاعر إلى الذاكرة التاريخية والدينية ومداعبتها لاستنطاق تاريخ أمته وتراثها.

ومن هنا تبرز براعة الشاعر أحمد المجاطي في استخدام رمز ضارب بجذوره في التاريخ ويجيد ربطه بالحاضر، «ومما لا شك فيه أن الشعر قد اكتسب أبعادا جديدة عميقة باستخدام المادة الرمزية والأسطورية، فاستخدام رموز متنوعة بنفس معانيها… يساعد الشاعر على إبراز العامل المشترك في الحضارة الإنسانية، زيادة على أنه يجعله يبدو شاعرا عالميا يستخدم صوت التاريخ ليبعث الماضي، ويقرنه بالحاضر ومشكلاته »[32].

إلى جانب التعبير بالرمز لجأ الشاعر المعاصر كذلك إلى الأسطورة كوسيلة للتعبير عما عجز عن توصيله التعبير المباشر، وتخضع هذه التقنية للمبادئ نفسها التي تحكم استخدام الرمز الشعري أي منطق السياق الشعري؛ بمعنى أن الأسطورة «لا تحتل سياقها الطبيعي إلا إذا انبثقت من مشاعر المبدع وانفعالاته وتأملاته وتواتراته»[33]، وعلى هذا الأساس «توسل التعبير الشعري المعاصر بالأسطورة، لما تتيحه من تخيل واستحضار أشخاص وصراعات ومواقف تجعل الشاعر يطرح واقعا معينا يعرضه أو يحلله ويفسره، بواسطة ما تزخر به الأسطورة من رموز فنية متعددة »[34].

لقد استحضر المجاطي في ديوانه “الفروسية” أسماء وإشارات تاريخية ودينية…، كشخصية (لقمان الحكيم)* الذي عاش في عهود غابرة وليس في العهد المشار إليه في عنوان قصيدة “دار لقمان عام 1965″، وبعثه الشاعر من مرقده ليشهد على الواقع المتردي للأمة العربية، فقال في قصيدته “مشاهد من سقوط الحكمة في دار لقمان”:

أَقامتِ الخَمَّارهْ

في باحةِ الجامعِ ركعتَينْ

شَجرةُ الزقوم

تَفرغُ من صلاتِها

                عاريَة النَّهدينْ

تَرقُصُ في أَقبِيةِ النَّارِ

               وفي أقبِية الدُّخانْ

تسقطُ بينَ الكأسِ والدِّنانْ

أهذه دارُكَ يا لُقمانْ؟[35]

بهذا يكون أحمد المجاطي قد اخترق الشعر واخترق الثقافة المغربية المعاصرة، «ولا نملك سوى أن نردد مع نجيب العوفي “إننا في حاجة دائمة إلى أحمد المجاطي”، أحمد المجاطي الذي اخترق الرمز والأسطورة وخلق أسطورته الخاصة»[36].

 حنان اليمني

طالبة باحثة بسلك الدكتوراه

كلية الآداب والعلوم الإنسانية

جامعة ابن طفيل

القنيطرة

المغرب

**********

المصادروالمراجع:

[1] أحمد المجاطي، وجهة نظر في موسيقى الشعر الحديث، مجلة أقلام، العدد1، المغرب، فاتح ماي 1972، ص 67.

[2] جابر عصفور، الصورة الفنية في التراث النقدي والبلاغي عند العرب، المركز الثقافي العربي، بيروت، الطبعة الثالثة، 1992، ص7.

[3] عباس الجراري، تطور الشعر العربي الحديث والمعاصر في المغرب من 1830 إلى 1990، مطبعة الأمنية، الرباط، الطبعة الأولى، 1997، ص 510 (بتصرف).

 جابر عصفور، الصورة الفنية في التراث النقدي والبلاغي عند العرب، ص 323.[4]

[5] محمد بنيس، الشعر المغربي الحديث: بنياته وإبدالاتها – 3- الشعر المعاصر، دار توبقال للنشر، مكتبة الأدب المغربي، الدار البيضاء، الطبعة الثالثة، 2001 ص 17.

 عباس الجراري، تطور الشعر العربي الحديث والمعاصر في المغرب من 1830 إلى 1990، ص 509.[6]

[7] أحمد المجاطي، ديوان الفروسية، قصيدة “عودة المرجفين”، شركة النشر والتوزيع المدارس، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، الطبعة الثالثة، 2011، ص 20.

[8] أحمد المجاطي، ديوان الفروسية، قصيدة “عودة المرجفين”، ص 17.

 نفسه، قصيدة “الفروسية”، ص 26[9]

 أحمد المجاطي، ديوان الفروسية، قصيدة “الفروسية”، ص 27.[10]

 نفسه، قصيدة “عودة المرجفين”، ص 29.[11]

[12] محمد داني، بنية المنجز الشعري المغربي الحداثي، دراسة لشعر عبد الناصر لقاح، الدار البيضاء، الطبعة الأولى، 2015، ص 62.

عباس الجراري، تطور الشعر العربي الحديث والمعاصر في المغرب من 1830 إلى 1990، ص 516. [13]

[14] عز الدين اسماعيل، الشعر العربي المعاصر، قضاياه وظواهره الفنية والمعنوية، دار العودة-بيروت، الطبعة الثالثة، 1981 ص 195.

 محمد المتقن، معالم الجمالية الشعرية العربية المعاصرة، مطبعة آنفو- برانت، فاس، ط1، 2013، ص53 – 54. [15]

 أحمد المجاطي، ديوان الفروسية، قصيدة “كبوة الريح”، ص 23.[16]

 نفسه، ص 24. [17]

 نفسه، قصيدة “كتابة على شاطئ طنجة”، ص 56.[18]

 نفسه، قصيدة “سبتة”، ص 59.[19]

 نفسه، قصيدة “الدار البيضاء”، ص 64.[20]

 نفسه، قصيدة “عودة المرجفين”، ص 19.[21]

 نفسه، ص 22.[22]

 عز الدين اسماعيل، الشعر العربي المعاصر، قضاياه وظواهره الفنية والمعنوية، ص 200.[23]

 محمد المتقن، معالم الجمالية الشعرية العربية المعاصرة، ص 55. [24]

 أحمد المجاطي، ديوان الفروسية،  قصيدة “القدس”، ص 47.[25]

 نفسه، ص 47 – 48.    [26]

 أحمد المجاطي، ديوان الفروسية،  قصيدة “القدس”، ص 48.[27]

 سورة سبأ، الآية 12.[28]

 أحمد المجاطي، ديوان الفروسية، قصيدة “قراءة في مرآة النهر المتجمد”، ص 36.[29]

 نفسه، قصيدة “سبتة”، ص 59 – 60.[30]

 حسن لشكر، النسـق الشعري في ديوان الفروسية، مجلة المشكاة، العدد 24، وجدة، 1996، ص 59.[31]

[32] س موريه، الشعر العربي الحديث (1800-1970) تطور أشكاله وموضاعاته بتأثير الأدب العربي، ترجمة شفيع السيد وسعد مصلوح، دار غريب، القاهرة 2003، ص 377.

 عباس الجراري، تطور الشعر العربي الحديث والمعاصر في المغرب من 1830 إلى 1990، ص 524.[33]

 نفسه.[34]

* قيل عن لقمان في التفسير: إنه كان نبيا، وقيل كان حكيما لقول الله تعالى  في سورة “لقمان”: «ولقد آتينا لقمان الحكمة» (الآية 12)، وقيل كان رجلا صالحا، وقيل كان خياطا، وقيل كان نجارا، وقيل كان راعيا وروي في التفسير أن إنسانا وقف عليه وهو في مجلسه فقال ألست الذي كنت ترعى معي في مكان كذا وكذا؟ قال بلى، قال: فما بلغ بك ما أرى؟ قال صدق الحديث وأداء الأمانة والصمت عما لا يعنيني…

[35] أحمد المجاطي، ديوان الفروسية، قصيدة “مشاهد من سقوط الحكمة في دار لقمان”، ص 75.

[36] بشير القمري، (نقل عن نجيب العوفي)، مجازات، مقاربات نقدية في الإبداع العربي المعاصر، دار الآداب، بيروت، الطبعة الأولى، 1999، ص 42.

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!