دراسة نقدية تحليلية بَينَ شِقيِّ رَحَا يقف  الشاعر عصام عبد المحسن  

 

بقلم :الناقد الدكتور صلاح أبو شادي

 مقدمة للشاعر

لم يكن بمقدوري فهم كل تفاصيل القصيدة الشعرية بلغتها الفصيحة كل الفهم ، فلقد بدأت كتابة الشعر بلغة العامية وظللت طيلة العشرة أعوام  من العام 1983 وحتى عام 1993 لا أفكر بغير العامية ،لا أتكلم بغير العامية ، ثم أبتعدت عن كل ما يخص عالم الأدب حتى عدت عام 2010 لبناء حياتي العائلية والعملية ،وعدت أيضًا لأكتب بالعامية المصرية حتى تبدلت ذائقة الكتابة عندي و جنحت لأكتب باللغة العربية الفصحي ، وبالطبع كتبت الترهلات بكل سذاجة وبساطة ، وما وجدته من القبول الساخر لدى أصدقائي شعراء الفصحى كان دافعا لي لأصبح بما بت عليه الآن من مكانة كشاعر فصيح ، في زمن قياسي أقل من اللازم بكثير ،إذ كانت الفترة ست سنوات بدأتها في عام 2014 وحتى اليوم وقد أنجزت خلالها خمسون ديوانا شعريا نثريا باللغة العربية الفصحى.

ولأني فخورا جدا بما قيل عني وما يقال ، أردت تقديم هذا الكتاب النقدي للدكتور صلاح أبو شادي ، والذي تعامل مع كتاباتي بطبيعته المعهودة عنه فلا مجاملة ولا رياء  ولا تضليل ، فهو مؤمن جدا بأن ما ساعد فاسد ليرتقي فقد أفسد أمة كاملة

وحقيقة أن من عظيم السرر أن قابلة لأول مرة مصادفة داخل إحدى الندوات بمدينة برج العرب حيث كنت ضيفا مصاحبا لضيف أصيل ، وتعارفنا ومنذ لقاءنا هذا ونحن أصدقاء نتعامل بكل شفافية وصدق ،ولأنه على يقين بأحقية المبدع الحقيقي صاحب الكلمة الصادقة والهادفة عليه بأن يسانده ويدعمه ويعمل على تثبيت أقدامه داخل الوسط الأدبي وخاصة بمدينته الرائعة الإسكندرية، ومن هذا المنطلق كانت رغبته في تناول أعمالي بالدراسة التحليلية لتكون أول دراسة تحليلة وتفنيدية جامعة عن عدد كبير من دواويني ،

وهاهي ذا دراسته ، وكما يقول دائما : (من يمقد نقدي عليه أن يأتي بحجته ويرد عليَّ بمكتوبه)

وأظن أني أول شاعر يقوم بوضع مقدمة لكتاب نقدي عن أعماله.

بقلمي/ عصام عبد المحسن

                                                 مقدمة المؤلف

                         الفصل الأول

السيميائية الشعرية

 اولا : مفهوم العنوان

 لقد أحتل العنوان مكانة هامة في الأعمال الإبداعية الأدبية ،والدراسات النقدية المعاصرة بإعتباره عتبة لها علاقات جمالية وتكاملية مشتركة مع النص ، نظرا لموقعه الاستراتيجي في كونه مدخلا رئيسيا وأساسيا لقراءة النص الأدبي .

ووفقا لهذه الأهمية ،عرّف النقاد العنوان علي معايير عدة .

منهم من قال أن العنوان هو الذي يخلق فرصة اللقاء الأولى بين المتلقي والنص ، وفي هذه الإستباقة يتأسس برتوكول القراءة التي سوف تحمل النص على القول الظهور ، ليبدأ كينونة جديدة للقارئ ، ومن هذا تنبثق إستراتيجية العنوان في ممارسة الغواية والإغراء علي المتلقي لأسره في شباك النص ,وحتى يكون له ذلك ينبغي أن يحقق أقصى درجات الشعرية بوصفه رسولا لبدايات اللذة المرتقبة .ولهذا فالعنوان إذ يخلق فرصة التلقي الأولى فإنه يؤسس في الوجود إطلالة على العالم .(1)* وقد عرف العنوان على أنه لغة يرجع إلى مادتين ، المادة الأولى عنن ، كما جاء في لسان العرب وعَننْتُ الكتاب وأعنَنْتهُ لكذا أي عَرضتَهُ له وصرّفته إليه ، عن الشئ ويَعُنَ عننا وعُنُونا ظهر أمامك (2)* وعرّف أيضا الدكتور محمد عزام  معرفا نقصد بسيميائية العنوان دلالته ،إذ السيمياء علم تفسير معاني الدلالات والرموز والإشارات وغيرها . ويعد من أحدث العلوم في ميدان اللغة والنقد(3)* ويلاحظ إتفاق النقاد وعلماء اللسانيات بأن العنوان جزء لا يتجزء من العمل الإبداعي ومكمل له .بل يعد العنصر الجاذب الذي يجلب القارئ للنص ويعد أيضا انه المستحوذ الأول علي مخيلة القارئ .

 ثانيا : شعرية العنوان

  ومثلما تحدث النقد الحديث عن شعرية القصيدة ، تحدث كذلك عن شعرية العنوان ، وهي شعرية ربما بدت موازية لشعرية النص ، ومن حيث يقوم العنوان بدور فعال في تجسيد شعرية النص وتكثيفاته .أو الإحالة إليها ، فالعنوان ،فضلا عن شعريته ربما شكل حالة جذب وإغراء للمتلقي للدخول في تجربة قراءة النص ، أو حالة صد أو نفور ومنع ، ومن هنا فإن على دارسي الشعر الحديث أن يدرك أن العنوان غدا جزءا من إستراتجية النص ، لأن له وظيفة في تشكيل اللغة الشعرية ليس بوصفة مكملا أو دالا على النص ، ولكن من حيث أنه علاقتة بالنص علاقة إتصال وإنتقال . ان العنوان غدا علامة لها مقوماتها الذاتية ،مثله مثل غيره من العلاقات المنتجة للمسار الدلالي الذي نكونه ونحن نؤول النص والعنوان معا (4)*.

وفي النصوص الشعرية التي تفتقر إلى الوصل المنطقي أو الترابط الإسنادي قد نستطيع أن نفزع إلى العنوان لنجسه جسا سيميائيا ، إذ ربما كان العنوان قادرا على تفكيك النص بقصدَ إعادة تركيبه وتصوره عبر إستكناه بنياته الدلالية والرمزية ، كي يضئ لنا ما أشكل من النص والغموض . فالعنوان في مثل هذه الحالة يصبح مفتاحا يجس به السيميائي نبض النص وتجاعيده وترسباته البينوية وتضاريسه على المستويين الدلالي والرمزي.

 ………………………………………………………………………………………….

1- خالد حسين حسين في نظرية العنوان ( مغامرة تأويلية في شؤون العتبة النصية ) ص 59
2-
ابن منظور لسان العرب دار الحديث القاهرة ص 486
3-
د. محمد عزام .النقد والدلالة نحو تحليل سيميائي للأدب .
4-
خالد حسين حسين في نظرية العنوان ( مغامرة تأويلية في شؤون العتبة النصية ) ص60

 وبما أن هذه الدراسة قائمة على تناول السيميائية الشعرية في دواوين عصام عبد المحسن .التي بلغت خمسين ديوانا شعريا. بحيث ندرس الرابطة البنيوية والدلالة بين عنوان الديوان ، وعناوين القصائد بداخله ذلك على أساس التشكيل النوعي بين العنوان وماهيته ودوره في تشكيل الدلالة الأسلوبية .بالإضافة الي تأويل المدلول الشعري لأكثر العناوين إثارة لمخيلة القارئ . حيث تتكشف لنا هذه الدلالة من خلال تناول تحليل السيميائية الشعرية للعنوان دلالة وأسلوب .وهو ما نعرضه فيما يأتي :

ديوان ( المتحول مني )

*- يمثل هذا الديوان باكورة تجربة عصام عبد المحسن الشعرية .وهي تجربة كان مبدؤها القصيدة الحرة . وعنون الديوان المتحول مني يحمل بين طياته رؤية فلسفة ذاتية بحتة ، التي أستحضر الشاعر فيها ذاته الرافضة لمتغيرات الحياة التي جعلته يتحول من ذاته الفطرية إلي ذات أخرى يجاري بها العصر المتغير للأسوء دائما .

أوجد الشاعر سيميائية تأثر الذهن لدى القارئ وتجعل المتلقي يعمد إلي تأويل المقصد وسيميائية > المتحول مني >.كما أن الذات الشعورية تبدو ظاهرة في العنوان من خلال وظيفتها الدلالية ، وإذا ما حاولنا أن ننفذ إلى مكنون العنوان كي نستبين طبيعة هذا التحول من ذاته المنقسمة علي نفسها  والرابطة السببة المقامة علي الدلائل  بين المتحول والمتحول منه هي في الأصل علاقة طردية  تتضح معها المضامين التى أشتمل عليها العنوان ، والتي تستوجب التوسع في المعنى بغية التأويل ، وان كان أصل الثنائية المتقابلة في تمثيل الحياة بين السالبية والإيجابية .وهذا ما نستوضحه وفقا لمَ طوي عليه الديوان من قصائد ذات دلالة ومكنون لا ينفك أن يصوبنا نحو الرؤية الفلسفية التي أراد تصديرها الشاعر الي المتلقي من عنونة ديوانه { المتحول مني ويلاحظ  من البنية اللغوية  فإن المتحولُ: مبتدأ ، مني: وقعت خبر شبه جملة .وعليه فان دلالة التحول بداية التغير ومني خبر سيخبرنا به الشاعر من خلال عتبات القصائد من الديوان . يحتوي ديوان المتحول مني على مسببات التحول وإنقسام الذات .أفتتح الشاعر الديوان بقصيدة
(
الفاتحة ) ويبدو من عنوان القصيدة انه عمد إلى دلالتين ، فأما عن الدلالة البيانية الأولى أن الفاتحة هي أول سورة في القران الكريم ، أراد الشاعر أن تكون إفتتاحية ديوانه الأول فاتحة جديدة له وبداية تجربته الشعرية ورؤيته الشعورية .

  وأما الدلالة الثانية أنه أراد أن يقبر ذلك الإنسان سليقي الإنسانية . ويبقى ذاك المتحول منه ,زعم الشاعر أن تكون الفاتحة رثاء على موت أنموذج للإنسان المثلي .ويتضح من عنوان القصيدة الفاتحة رابطة دلالية بينها وبين عنوان الديوان .كتب الشاعر يقول :

يا الله
لماذا أقمت حول فؤادي
سياجاً صدريا
وجعلت قلبي صغيرا
لا يستعُ لسكنى العالم
وجعلتَ قدر حدودي عجزاً
وعيوني مفتوحة للبراح
ومودتي ثمار تتدلى
على النواصي
سبيلا للعابرين

يبدأ الشاعر قصيدته بمناجاة لله عزوجل متسأئلا لماذا أقمت حول فؤادي سياجا صدريا .ضاق الشاعر بما يحمله من خصال حميدة ،حاملا معاناة إنسانيته داخل هذا السياج الذي أحاط بقلبه الصغير .فأتى الشاعر بلفظين كليهما يعبران عن الرمزية الشعورية وهو القلب . أستخدم الشاعر لفظة الفؤادالترادف للقلب للتعبيرعن مدى الحزن الذي أصابه وجعله يناجي الله سبحانه وتعالى .وذلك لقول الله تعالي في سورة القصص{ وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا}.(1) .وبالركون للدلالة وإزدواجية المعانى في إستخدام وتوظيف القلب ، الفؤاد فإن الفؤاد يراد به القلب المحزون بفعل الفقد ويلاحظ أن دلالة السيميائية المشتركة بين العنوان وعتبة النص .وكذلك إستخدم الشاعر القلب علي حقيقة الإسم المراد به موطن الشعور ومجاز الإحساس معا .إلا أن القلب الذي يتأسف الشاعر إنه قلب صغير لا يقوى علي مجابهة العالم المتغير والذي ضاق عليه وأخرج منه المتحول عن ذاته لذات أخري ، غير راضٍ عنها . ومن الملاحظ أيضا أن الدلالة الإسمية للعنوان بما توحيه من دلالات ومقاصد جعلت من العنوان الرئيس للديوان المتحول مني والقصيدة التي إفتتح بها الشاعر ديوانه بات ذات رابطة إستراتيجية بين قصائد الديوان

وبين سيمائة الديوان . ولقد جاءت الكثير من عناوين قصائد الديوان معتمدة على الجملة الطويلة مثل ( رثاء يلملم قلبك من رفاتي ، يتساقط كالنبض حنينا ، بعض من وخز الوحدة ، وطن يلاقي حتفه بين ضلوعي ، والباعة الجائلون ..)  ومن الملاحظ على هذه العناوين أنها رغم طولها الواضح من جهة التراكيب إلا أنها تعتمد بشكل أو بأخر على عنصر محذوف مقدر .يرجي تقديره للقارئ قاصدا إحكام الدلالة والسببية بين العنوان والقصيدة . وبالتحقق من الدلالات المشتركة بين العناوين وسيميائية الديوان تكتمل الرؤية القصدية والمضامين المقدرة على سياق واحد وهو الصراع الذاتي بين النفس والروح ، بين القبح والجمال وبين المتغيرات والثوابت .وأن جل مسميات القصائد تكشف عن ذلك الفاعل المستتر بين طياته ، وأن عموم البنية التى عمد الشاعر إلى أن تكون العناوين ما بين  الإسمية والبنية الفعلية مثل ( يعلمك الطير ، يتساقط كالنبض حنينا ،يخرج من عينيك ) أراد الشاعر أن يحدث مقارعة للرؤية من خلال الإسم على الحدث والفعل المترتب من الحدث كي يحكم البعد الدلالي بين السيميائية الشعرية وبين العنوان المنبثق من فلسفة القصد الذي ينبئ عنه العنوان ، كأن العنوان هو رسول الشاعر للقارئ والمعرف به .

 ( ديوان محتدم فراغي )

ومن ديوان ( مُحتَدم فراغي ) نلاحظ أن الشاعر يعمل على صناعة الدهشة في مخيلة القارئ ،بما تحمله شعرية عنونة الديوان. وأن ديوان محتدم فراغي هو الديوان الثاني الذي أخرجه الشاعر ,ويلاحظ  السميائية الشعرية في دواوين عصام عبد المحسن عامل حيوي سرعان ما يستقطب وجدان المتلقي ، ومنها يحذب خيال القارئ الي عالمه الشعري بحرافية تشوقية يأسر بها ذهن القارئ ،علي درب الغواية .إلا أن ما تحويه قصائد الدواوين لا تخلو من ترجمة العنوان الرئيس للديوان .وبما أن قضية الذات والنفس أو الآم الإنسانية في أغلب حالاته تتضح رويدا رويدا من خلال دراسة تجربة الشاعر ، وتحقيق قضيته القائمة علي الذات والعالم ، والعلاقة بين النفس والروح في ثوب شعري قوامه الفلسفة وأحيانا التجريد المتعمد في صناعة عنونة القصائد والإشتراك الضمني بينها، وبين السيميائه الشعرية والرمزية في النص . وأن لكل مدرسة شعرية مرجعية ينتهجها الشاعر تقيم بها تجربته الشعرية وأيدولوجيته ،وكذلك معايير القياس ،حيث يحمل الديوان

 الثاني محتدم فراغي .مدلولا على الضجروالتأجج والإحتدام .وتُعرب كلمة محتدم : خبر مبتدأ محذوف جوازا تقديره هو ، وهو اسم مفعول . وتُعرب فراغي نائب فاعل لاسم المفعول مرفوع بالضمة المقدرة على ما قبل الياء منع من ظهورها انشغال المحل بحركة مجانسة للياء ، وهو مضاف ، الياء ضمير متصل مبني في محل جر مضاف اليه . وقد أناب الشاعر كلمة فراغي : نائب لاسم المفعول . وإذا أردنا التوسع في المعنى سيتضح لنا أن الشاعر استعار فراغه إستعاضة عن ضجره، وتأففه من فرط الفراغ والخواء من المعاني ومن التمرد علي هذا الخواء .ولو إن قارئ هذا النص إن لم يحُسن ترجمة وتأويل هذا العنوان يصعب عليه الدخول إلى فلسفة الشاعر .فالعنوان هنا ليس مجرد تركيب لغوي فحسب . بل هو وسيلة يستطيع القارئ أن يلج من خلالها  إلى رؤية الشاعر التي أفرغها على صفحات ديوانه محتدم فراغيوإذا أردنا تأويل الدلالة الشعرية . اللافتة في بنية القصائد التي يحتوي عليها الديوان ، سنجد أنها تدور حول المضامين القصدية التي أراد الشاعر أن يرشدنا إليها من خلال طرح عنوان يحمل مدلولا أكثر عمقا تناوله بأكثر من زاوية تستوضح هئية ذلك البعيد من خلال مسميات القصائد مثل ( وتريات النعاس ، نافذة الدم ، أتوكا علي عصا الخيبة ، مواسم العماء وغيرها …) إذ قال في قصيدة على كتفي هموم آدم من ديوان محتدم فراغي

على كتفي هموم آدم
ما عادت الشمسُ
تهوى لقائي
وما عُدتُ شغوفاً
بخروجي المقرر كُل صباح
من نوافذِ البيوتِ
متكاسلاً
خائفاً
أحملُ
على كتفي هموم آدم
وسعيه الدؤوبَ
لاستعادةِ موطن الولادةِ

 وبالبحث عن الرابطة الدلالية بين العنوان والتعريف نستوضح  هيئة ذلك البعيد المتواري بين مسببات الإحتدام وبين حقيقة الفراغ المجازية في العلاقات الدالة بين مسمى الديوان ودلالة السميائه في بناء العناوين المترجمة لرؤية الشاعر القاتمة، حين أطل علينا من نافذة الدم أصقل من خلالها  الشاعر مأساة بني آدم مذ خلق الله الإنسان واستخلفه في الأرض .ونلاحظ أن قصيدة < على كتفي هموم آدم < قائمة علي إظهار الوجه الأسود للخطيئة الإنسانية على مر العصور .وعمد أن يأخذنا لتلك النافذة كي نرى سر الإحتدام من خلال قصيدة عمد الشاعر في دلالته المجازية أن يُصدِّر لنا مأساته نيابة عن الإنسانية . كتب عصام عبد المحسن نص نافذة الدم قائلا :
نافذةُ الدم
تفتحُ
في القلبِ نافذةً
أفرحُ

فتغمس
إصبعكَ في دمي
وتكتبُ
قصيدة لموتي

وهذا يعني أن بنية ودلالة العنوان لا تنفصل عن بنية ودلالة العمل الذي يعنونه . فالعنوان لا يوحي إما بجزئية تمثليه للنص أولشمولية ، وهو يختزل النص من حيث البنية والمعني معا .وهذا تماما ما تؤكده بعض الإتجاهات في الشعر المعاصر نحو العناوين الرئيسة وعلاقتها بالمحتوي النصي ،وعلاقتها بالعناوين الفرعية . ويتضح ذلك من خلال الفحص الظاهري للعنوان في هذا الديوان والعناوين الثانوية للنصوص الداخلية .تتأكد الرابطة السببية من حيث الإشتراكية المعنوية للمضامين لدى الشاعر ،كما تكتمل الدلالة البيانية في ثبوت العلاقة الموضوعية للمدلول القصدي في إحكام الرؤية الشعرية والتماس بين دلالة العنوان الرئيس للديوان والعناوين الفرعية ، وحتى عتبات النصوص تتطابق إذا

ما دققنا وتحسسنا المقاصد الشعرية وكيفية المعالجة للقضية لوجدنا الآلم الإنسانية التي حملها الشاعر نيابة عن أدم .

 ثالثا : وضعية العنوان

 سنتاول في هذا الجزء من دراسة السيميائية الشعرية والبنية الدلالية كيفية صناعة العنوان في شعر عصام عبد المحسن .وحقيقة أن للغرب دورا بارزا في تفنيد واضع العنوان وفقا لمعايير دقيقة .إذ يقول د. جمال حمداوي في كتابه صورة العنوان في الرواية العربية إن كتابة العنوان ما هو إلا فاعلية لها شروطها وملابساتها المستقلة عن كتابة العمل نفسه . وتتطلب من واضع العنوان وقتا من التأمل والتدبر لتوليده . وتحويله إلى بنية دلالية معينة ، لأن العنوان في أغلب الحالات يقدم ملخصا للنص الذي يعنونه بطريقة تقريرية مباشرة أو إيحائية رمزية . لذلك فإن كل عنوان يلصقه الكاتب على ظهرروايته أو يعلق كالثريا في رأس الصفحة أو يموقعه في وسط كل فصل أو قسم ، لا شك أن المؤلف أفرغ فيه جهدا وتطلب منه إختبارا
لأن صياغة أي عمل إبداعي هو جزء من الكتابة الفنية (1) .فإن العنوان عند عصام عبد المحسن قد جانبه الإبداع في صناعة الدهشة عند القارئ ، وكذلك إثارة المخيلة بفعل التشويق الذي ينتج عنه التسويق لمنتجه الفني .وأما بشأن البنية الدلالية والرابطة المشتركة بين عناوين الدواوين والعناوين الفرعية للنصوص . هذا بناء علي ما قدمه الشاعر في ديوانه  ( قشور من جداري الصلد ) قصيدة :

             “أخرجُ تاريخي القديم
من جسدي  
أخرجُ
تاريخي القديم
وأحمله على كتفي
مولودا جديدا
ينتظر الصباحَ
القادمَ من بعيدٍ
لـ هابيل

نخلص مما سبق أن العلاقة بين العنوان والنص عادة ما يصبح مرجعا بداخله العلاقة والرمز وكذلك تكثيف المعنى ،بحيث يحاول المؤلف أن يثبت فيه قصده برمته أي أنه النواة المتحركة التي ينسج عليها النص (2)

 رابعا : مظاهر الانزياح في العنوان

 تعد مظاهر الإنزياح في العنوان ضمن الدراسة الإسلوبية للنص .إذا كان البحث في مسألة الإنزياح هو بحث فيما أسمته البلاغة بالمجاز ،فذلك راجع لخاصية المجاز المتمثلة في وجود عنصر الاستبدال والإحلال فيه
 سواء كان متتصلا بكلمة أو جملة وسواء سمح السياق بتجاوز المعاني مع أولوية بعضها على البعض الأخر مثل الكناية ، أم كان يقطع بقصديه أحدهما واستبعاد الآخر كما في الاستعارة (3) مثال الانزياح الاستبدالي الذي يتسم به الشاعر في عنونة دواوينه.

 …………………………………………………………………………………………
1-.
جمال حمداوي في كتابه صورة العنوان في الرواية العربية ـ
2-
المصدر السابق

3- صلاح فاضل بلاغة الخطاب وعلم النص .

 ( ديوان مضغة الروح )

إن عنوان الرئيسي للديوان يحتوي على الإنزياح الاستبدالي ،كونه أزاح حقيقة مضغة التي هي اسم حالة من حالات التكوين الخلقي للإنسان بل هي الثالثة من حيث الترتيب كما ورد في القرآن الكريم .قال تعالى في محكم التنزيل { ثمُ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا } (1) صدق الله العظيم ،وبما أن هذا الاستبدال من المادية وهي مرحلة التكوين للجنين ،إلى القصدية المعنوية التي رمز لها بالروح , وعليه فان هذا الاستبدال أو المسمى بالانزياح الاستبدالي عن صحيح خصية اللفظ قد أفاد تأكيد الغرض المعنوي الذي أراده الشاعر هو سمو يرتجيه، حيث أن هذا السمو والرقي لا موطن له سوى الروح .فقد استبدل الشاعر الجسد بالروح جنوحا عن المعنى الحقيقي للكلمة وأخراجها من طبيعتها وأسند لها تكوينا معنويا أكثر بلاغة ورؤية للطهر والخلاص أو الميلاد الجديد . ويلاحظ شكلا آخر للانزياح الاستبدالي من خلال عرض قصيدة من نفس ديوان مضغة الروحعنوانها الشاعر
علي النحو التالي :”تصهلُ الريحُ تحت أقدامي قائلا :

تصهلُ الريحُ تحت أقدامي
أُمشط تاريخي الغجري
أجدلهُ على ظهرعمري
أضعُ على وجههِ تداعياتٍ
من لحظاتي المفرحةِ
تُزيل تجاعيدَ الوجعِ
المثمرة كآبةً

……………………………………………………………………………………………
1-
سورة تبارك الآية 14  

 يتضح من خلال المجاز المعنوي في إستبدال الريح وتوظيفها كناية عن الخيل يعد إنزياحا عن طبيعة استخدام اللفظ في غير موضعه للدلالة علي مدى تعظيم حالة الإهتزاز والتذبذب وعدم الإستقرار الذي يعمدالشاعر في تصديره للقارئ ، للدلالة علي  ما يعاني من التخبط والترنح .وقد استعار صهيل الخيل وأسنده للريح ،مع استبدال المعنى الوظيفي للكلمة ,يلاحظ أن هذا الانزياح عن المعنى الحقيقي ضاعف من قوة المجاز في الصورة الشعرية فأكسبها عمقا وبعدية تستوي مع عتبات النص ومحاكاة عنوان الديوان.آ

ما وقد تطرقنا لطبيعة  الانزياح الاستبدالي ونوعه في شعر عصام عبد المحسن والإجتراء على الحقيقة الوظيفية للأسماء والمسميات المستحدثة للأشياء بقصد إحكام المضمون ومحاكاة معنويتها الاثيرية علي منهجية المدرسة الفنية التجريدية ،التي تنشد المجاز على المعنى لا الشكلية الرتيبة على أصالة خصائصها المتعارف عليه .وبحكم أن هذا الانزياح متعلق فيما يخص العنوان وعلاقته بالبنية الدلالية للعنوان .

فقد قسمنا صور الانزياح في هذه الدراسة علي عدة معايير تشمل المجاز الاستبدالي في سيميائية العنوان على النحو الآتي :

1- تراسل الحواس

 ويقصد بظاهرة  تراسل الحواس علي رأي المدرسة الغربية كمدرسة  بودليرالذي يرى أن الإنفعالات التي تعكسها الحواس قد تتشابه من حيث وقوعها النفسي ، فقد يترك الصوت أثرا شبيها بذلك الذي يتركه اللون أو تخلفه الرائحة ، ومن ثم يصبح طبيعيا أن تتبادل المحسوسات ، فتوصف معطيات حاسة بأوصاف حاسة أخرى ، بل يضفي الشاعر خصائص الماديات على المعنويات أو يخلع سمات المعنويات على الماديات وهذا ما عمد إليه الشاعر في صناعة العناوين الرئيسية والعناوين الفرعية ،وفيما يلي نستوضح بعض العناوين تراسل الحواس علي مستوى بنياتها الدلالية وفقا لمعطيات الجدول الآتي :

القصيدة اسم الديوان ديوان رقم
يجرحون السكون أُمشطُ الوجودَ تَحتَ جِلدي 16
يشتم رائحة صباك الطمثُ يشقُ لولادتنا طريقا 17
الأكوابُ المملوءةُ بالشفقةِ لست أنا المطرود إليها 19


إن التراسل الحاصل بين معطيات الحواس في هذه العناوين جلية الوضح فيما هيمن عليه الانزياح على الدلالة لوظائف الحواس ، ونتيجة ذلك غياب أوتغيب بعض المدلولات الحسية والاستعاضة عنها بمدلولات أخرى بوظائف مغايرة .
فعنوان أُمشطُ الوجودَ تَحتَ جِلدييبنى علي التضاد الإفتراضي بين  اللمس والنظر، لان التمشيط يستوجب حاسة اللمس والبصر ، في حين أن الوجود القابع تحت جلده معنوي خلع عليه الشاعر ثوب المادية واسكنه تحت جلده. وأن الانزياح قام عن طريق خاصية التجسيد والتجسيم موجدا اقتراب الصورة من تراسل الحواس أوبمعنى أدق تبادل المادية بالمعنوية .
وكذلك حاسة الشم في العنوان الفرعي يشتمُ رائحة صباك يأتي الانزياح علي شكلية أخرى بالمجاز بين الصبا وحاسة الشم استخدم الشاعر المراسلة بين معنوية المجاز في عنفوان الشباب محدثا له رائحة ، في حين إن الصبا لا يرى كونه مجاز معنويا ، وبين حاسة الشم . دعم بها مدى تأثير هذا الصبا بإضافته للمادية التي تخضع لخاصية الشم . ويلاحظ أيضا شكل أخر من الانزياح صنعه الشاعر في هذا العنوان الفرعي  وهو الأكواب المملوءة بالشفقة تبدو الصورة الشعرية من بنيتها مجازية ، فان الأكواب حين ترد في صورة شعرية فأنها تستجمع الحواس الخمس مجتمعة أي الشم ،اللمس ، النظر ،السمع ، التذوق .وذلك لأن الكوب يرى ويلمس ويتذوق ما به وكذلك يُسمع حين سكبه أو صبه . اشتمل هذا العنوان علي  عمق أكثر شمولية في ترسيخ  تراسل الحواس ما بين المادية والمعنوية في الانزياح .” وهنا يجد القارئ نفسه أمام حالة نفسية وشعورية على غير العادة .يستقبل من خلالها اللفظ والكلمة إستقبالا خاصا ، هذا الإستقبال يعتمد في الأصل على تجسيد المعنويات وإعطائها شكلا يختلف عن شكلها الطبيعي المتعارف عليه .فأن السكون و الصبا والشفقة ،كلها معطيات مجردة لا يمكن إدراكها بالحواس المادية ,إلا أنه قد أُلحقت بصفات وأفعال معينة تخلت عن طبيعتها المجردة ودخلت في حيز المحسوسات “.(1)

 2- التنافر الدلالي

 يعتبر التنافر طابقا من بناء يشمل طابقين إثنين

وهو الطابق الذي يحقق وضعية الانزياح لبنائه على خرق منظم لقواعد الكلام ، ويصبح معه التركيب شاذا من الناحية المنطقية ،لكنه يبقى مع ذلك لحنا مبررا على حد تعبير تودوروف وتجدر الإشارة إلى أن الشاعر هو المسئول عن الطابق الأول الخاص بتشكيل الإنزياح

أما المتلقي فهو موكل بالطابق الثاني الخاص بفك هذا الانزياح وإعادة الترتيب إلى المنطقية لما أراد الشاعر هو من يعمد إلى خلق التنافر داخل تراكيبه ، إنما بفرض على القارئ أن يتحرك داخل التنافر ليكشف المخرج من داخله ، وهو بذلك يلفت نظر القارئ إلى أن التنافر الطريقة الوحيدة التي تؤدي إلى الدلالة المقصودة ، بطريقة شعرية حقا ، إذ لا مجال للتنافر داخل الكتابة النثرية التي تتميز بشفافيتها وقابليتها على أن تسمح بإبراز مكنوناتها بعيدا عن أي إلتواء أو إنحراف عما هو منطقي (2)

ومن خلال البحث عن الدلالة الأقربإلى المنطقية  لما أراد الشاعر تصديره لمخيلة القارئ وقد احتوت عناوينه الرئيسة والفرعية للقصائد على صور عديدة للتنافر الدلالي ومنها مايلي :

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1- محمد عبد الرحمن الوصيفي : تراسل الحواس في الشعر العربي

2- عبدالله راجع : القصيدة العربية  

 

القصيدة اسم الديوان ديوان رقم
ليَهدأ ضَجيجُ صَمتي المتعامدة استواءاتي على السماء 6
وكان الشراكُ جميلا مضغة الروح 8
تستجمعُ كُل خُيوط الشمسِ  تلكَ البوصلة لن ترشدكم تاريخي 10
تسلقٌ مُنحداراتِ الشفاعةِ أمشطُ الوجودَ تحت جلدي 16
أنتَ الحيُ الميتُ فيناَ لستُ انا المطرودَ إليها 19
قرعُ الأجراسِ لا صوت لهْ مثاقيلُ الميزانَ رَصاص وطين 21

يبدو من خلال عناوين القصائد بالجدول ويلاحظ ،أن عصام عبد المحسن مفتون بالجمع بين المتناقضات التي ينفي كل منهما الآخر نفيا قاطعا ، بحيث لو وقفنا على حقيقة الدلالة المعجمية لهذه المتناقضات لترتب على ذلك مقارعة اللامعقولية المنطقية لكل تناقض كما عنوان { ليهدأ ضجيج صمتي } إذ يبدو التنافر واضحا حين أسند الشاعر الصمت إلى الضجيج الذي هو دلالة الصوت الصاخب غير محدد مضمون .فليس من المعقول أن يكون للصمت ضجيجا كي يهدأ ،إنما تعود الدلالة  المعقولية المجازية لتعبر عن عظم الصراع الذاتي غير المسموع ، إذ يكون الضجيج داخليا يسمع من الأنا الداخلية للشاعر.

ويلاحظ أن هذا التنافر اللامعقول حينما يشير هذا التركيب اللامنطقي إلى خلق إثبات من النفي ،حيث أن الصمت يتعارض تماما جملة وتفصيلا مع الضجيج الصاخب ،ولا تنتفي حقيقة المدلول الثاني أي لم تتغير معقوليتها بتغير المعنى المتناقض كماحقيقة الصمت فتأتي الصورة لإثبات الدلالة القائمة على النفي . وكما هو التناقض في العنوان السابق ،جاء عنوان فرعي من ديوان مضغة الروح نحو التالي:

{ وكان الشراكُ جميلا } تبدو هنا التناقضات المتنافرة بين الشراك وجميلا إذ يتضح  لنا اللامعقولية أن يكون السقوط في الشراك شعور جميل  لدى الشاعر .لكن هذا أيضا لم

 يغير المدلول الأول وهو الشراك ولم يخرج من معقوليته ، إنما اختلف المنطق التركيبي للمدلول الثاني ،و ذلك للدلالة على الشعور اللا منطقي حين يقع الشاعر في شراك كفريسة بالخديعة .

أراد الشاعر أن يجعل من هذا التناقض إشباعا من شدة القبح فينصرف القصد ليظهر مدى سخرية الشاعر من القبح حين سقط بفعل الخديعة في شراك ،أو بالآحرى السخرية من  الهزيمة ، حيث يظهره العنوان الرئيس لديوان:

 (تلكَ البوصلة لن ترشدكم تاريخي )

فيلاحظ أن المدلول المتناقض تنافر بين كلا اللفظين البوصلة : الإرشاد إن أداة التنافر لن فقد استخدم الشاعر أداة النفي الدالة على نفى وقوع الحدث في المستقبل ،ويستبين التناقض بين النفي للقادم مع تاريخي حيث أن التاريخ حدث في الزمن الماضي وأداة النفي لن تنفي ما هو قادم ، يحتبك القصد في تنافر زمنى ما بين الماضي من التاريخ والقادم من الإرشاد . أما عن القصيدية المجازية بين دلالة النفي والإثبات ، المستقبل والماضِ تنصرف صيرورتها إلى فقدان الإتجاهات لحقيقة ذات الشاعر النائبة عن رقي الأنسانية ، والدلالة التي حملت التضاد بين الألفاظ والمفرادت فأحتملت التناقضات دلالة شعرية ذات كثافة وقوة أضفت على النص تمييزا بفعل حركة التفاعلات بين طرفي التضاد .

 وكذلك العنوان الفرعي لقصيدة{ تستجمعُ كُل خُيوط الشمسِ } من ذات الديوان حين استخدم الشاعر اللامعقولية بالتنافر بين الفعل والإسم ،فقد استخدم الفعل تستجمع مع الإسم الشمس يبدو في هذا النوع من التنافر للدلالة على المعنى المعقول من التوظيف اللامعقول أو بالأحرى اللامنطقي في صورة شعرية يراد بها خلع الحسية المادية على أشعة الشمس ،التى جعل الشاعر الخيوط كناية عنها ، ويلاحظ دلالة التناقض من تجسيد غير المادي بمنطقية المدلول الأول وهو فعل الاستجماع . قد أحدث هذا التناقض في تنافر المدلول الأول والمدلول الثاني على الرجاء في فجر جديد أملا يرتجى ولكنه غير منسوج لا ملامح له ، كمن يجمع خيوطا من المستحيل أن تجمع , فأتى الشاعر بمن يعيش على أمل كاذب صنعه من الوهم.

  كذلك في عنوان 🙁 تسلقٌ مُنحداراتِ الشفاعةِ )

من ديوان (أمشطُ الوجودَ تحت جلدي )
صنع التنافر في هذا العنوان حين أخرج الشاعر اللامنطقية في فعل التسلق للاسفل أي أن التلسق لا يمكن أن يعبرإلا على الصعود للأعلى ، هنا فعل التسلق يمثل المدلول الأول ، أما عن المنحدارات التي تمثل المدلول الثاني الذي أحدث هذا التناقض والتنافر الكلي ما بين الصعود والهبوط ،حقق الدلالة بحرافية الشاعر حين ابتكر صورة تحمل بين مفرادتها مدى جهالة من يأمل في الشفاعة ويسعى إليها بجهالة  ظنا منه أنه يصعد إليها ، وفي حقيقة أمره أنه ينحدر للأسفل بما يحمله من ضلال عقيدة ، إن الإنحدار هو طريق الغواية ، أُحكمت التناقضات والدلالات على التنافر اللفظى والتنافر المعنوي .وبما أن الشاعر تعمد أن يستفز مخيلة القارئ عن طريق اللامعقولية بغية إظهار قدرته على التلاعب بالألفاظ وصياغتها على غير المتعارف عليه والأتيان بصورة شعرية ذات كثافة من حيث التراكيب المعنوية التي ألبسها الشاعر ثوبا ماديا جعل القارئ يتحسسها جسا محاكاة للمسجمات نابضة بالإحساس والشعرية

كما جاء في عنوان  قصيدة من ديوان لستُ انا المطرودَ إليها ” (  أنتَ الحيُ الميتُ فيناَ )

وأيضا التنافر المعنوي الواضح بين الحياة والموت ، هذه حالة قد تبدو أكثر وضوحا في تضاد معقوليتها من حيث التكرار الاستمراي أو الاستهلاكي لمدلول الحياة والموت ،إلا أن الشاعر أراد تنافر صورة الانزياح الاستبدالي في نفي الموت ونفي الحياة معا ، وكذلك ثبوت الموت والحياة في سياق واحد .حقق به الشاعر الموت المعنوي مجازا عن حياة اليأس من فرط معاناته ، فكأن حياته موت . جاء الشاعر بالإشارة للموت في دلالته الثانية كي ينفي بها الحياة فأتى الموت على حقيقته وهو الفناء ،واستخدم دلالة الحي في صورة لا منطقية في ظاهرها دلالية فى مجازيتها كونها صورة للموت المعنوي للمعذبين والمقهوريين . وبالأخير نري أن العنوان( قرعُ الأجراسِ لا صوت لهْ )

ومع تكرار التناقضات في عناوين عصام عبد المحسن وكثرة تجاوز حدود الدلالات يخلق منها حقائق وقرائن لا ينفك يكشفها كلما صدَّر لنا عنوانا جذابا يصيب منا العنوان دهشة عدم منطقية التراكيب المعجمية إلا أن هذا اللامنطقي من حيث التراكيب ، يكشف لنا

 دلالة شعرية يستجلبها الشاعر من هذا التصادم اللغوي تمكنه من إختراق خيال القارئ  وإثارة وجدانه .
3- مجاز الألوان

كثيرا ما تستخدم الألوان كمقوم من مقاومات الدلالة التعبيرية لتوصيل رسالة بعينها للقارئ ، وإن دلالات الألون معلومة لدى الجميع كالأسود كناية عن الحزن والموت ، والأبيض مجازا للخير، كما الأخضر للنماء والخصوبة إلى أخره إلا أن الشاعر قد أكسب الألوان معطيات بغير ألونها الحقيقة كي يكسبها إنفعالاته الملونة بألوان تجربته الشعورية وهذا ما نستظهره من خلال العناوين الآتية :

 القصيدة اسم الديوان ديوان رقم
أحمل سيفَ الرغبةِ البيضاء مضغة الروح 8
عروة مصباح يضئ بالأخضر أمشطُ الوجودَ تحت جلدي 16
 في حدقةِ الضوء الأزرق أفتتحُ الفردَوسَ بداخلي لكم ْ 18
الأحلام تُرسم سوداءَ لست أنا المطرود إليها 19
وغَمسَ الكَاهنُ كَفَّيهِ في الأَحمرِ ممتزجة كل الأرض بطين أشعاري 30

يلاحظ في العنوان ( أحمل سيف الرغبةِ البيضاءأن الشاعر لوَّنالرغبة وأن هذا المعطى المجرد لا لون له في أصل حقيقته ،ذلك كون الرغبة مسمي غير مرئي ولا مادي ،فلو قيل أحمل السيف الأبيض لكان منطقي التركيب ،إلا أن الشاعر أبا الإعتبار للمعطى الحقيقى كي يعبر عن دلالة شعورية لا دلالة طبيعة لخصائص ألوان , وفيما يبدو أن استخدام اللون الأبيض استظهارا للرغبة ، ما كان إلا يترجم حالة شعورية لدى الشاعر يراد بها الرغبة المحمودة رغبة منه في الدفاع عن الحق بسيف الكلمة .

 وأما في العنوان ( عروة مصباح يضئ بالأخضر ) فهو أكثرمنطقية من العنوان الأول علي أساس أنه يمكن أن يضئ مصباحا باللون الاخضر ، إنما ما يهم ههنا اللون كونه مؤشرا دلاليا ، وأن معطى اللون الأخضر يعبر عن النماء والخير الذي إبتدعه الشاعر من عروة مصباح ، فتنتفي منطقية عروة المصباح لعدم المنطقية وينتفي معها الضوء الإفتراضي الذي هو منبعث من شعور ومخيلة الشاعر ولا معقولية رغم وجود مصدر الضوء في المدلول الأول المصباح وكذلك المدلول الثاني الاخضر وتنفصم العلاقة رغم منطقيها داخل عروة ً كانت هي أمنية شعورية  نافذة من الشاعرعلى الرجاء المنعدم .
*- 
ونلاحظ هنا عنوانا فرعيا من ديوان ”  أفتتحُ الفردَوسَ بداخلي لكم ْ وهي قصيدة تناول فيها الشاعر الألوان بدلالة تعبر عن إحساسه ومحاكاة شعوريته ، لا بمعطياتها التي تواضع عليها الناس عن ماهيتها .

( في حدقةِ الضوء الأزرق )

كسيمفونيةٍ متوترِة
تمرُ الحياةُ بي
تنشِذُ
تعتدلُ
درجات السلمِ
تصعدُ بالروحِ
إلى بؤرةِ ضوٍء حمراءَ
تسقطني فجأةً
في حدقةِ الضوءِ الأزرقِ
فيترنحُ جسدي الإصفراري
بين تصفيقِ النهاية السوداءِ

يتضح التباين الدلالي في العنوان والقصيدة موضحا كيفية تناول عصام عبد المحسن الألوان كطلاء إستخدمه كناية عن المجاز الشعري وخلعه للشعورية الحسية . إذ استخدم اللون الأزرق وانسبه للضوء في العنوان ، كمؤشر عن الأفق اللامنتهي كالسماء الصافية بزرقتها ، وأما عن اللون الأحمر كناية ومجازا عن الجحيم كناية عن النار

 ،فأحكم باستخدام اللون الأصفر تعبيرا عن النهاية أو لونا للموت والفناء ، إذ يقول فيترنح جسدي الإصفراري دلالة عن الموت ولون النهايات . ويختتم الشاعر القصيدة بالنهاية السوداء وجاء اللون الأسود علي معطاه الحقيقي غير المحمود ،

وحيث أن الشاعر إتخذ من الألوان مجازية الإحساس وليست الدلالة التصريحية ، وذلك للرابطة الفنية المشتركة بين الرسم والشعر ،

واني أقول أن ثوب الشعر الملموس هو الرسم والنحث باختلاف مدارسهم الإبداعية .

ذلك كان يسيرا على الشاعر أن يتخذ من الألوان مجازا يضارع تجربته الشعورية محاكاة للمدرسة التجريدية أو السريالية في التعبير.

 الفصل الثاني

التناص الديني

 لقد تطور الشعر العربي الحديث وقد تعدد أشكال التناص فيه ،كالتناص التاريخي والأسطوري وكذلك التناص الديني ، ويعد التناص من الظواهر الأكثر ذيوعا  في العصر الحديث ، حيث أنه بات يقام عليه بناء القصيدة وكذلك ترسيخ الدلالة الشعرية ، ومن أبرز أشكال التناص هو التناص القرآني والتراثي الديني ، إلا أن التناص القرآني ليس كغيره من أشكال التناص حيث أن الشاعر يقوم بأقتباس آية قرأنية أو من كتب سماوية آخرى كي يعظم بها الشاعر مقاصده في إضفاء رونقا وجمالا على النص ، ومنهم من عمد إلى التناص الديني لغرض عبقرية البناء الفني للقصيدة ما له من دلالة ومضامين عظيمة ومقاصد ثرية سوء كانت ذات مدلول إشاري ، ونرى أن التناص عند الشعراء جاء متنوعا من حيث اللفظ والمعنى عند البعض وإيحائيا قائما على الحس المعنوي عند البعض الآخر .وأن كلا منهم قد وظف التناص الديني وفقا للرؤويته وأفكاره تحقيقا لما يرنو إليه في بلوغ الإشباع الكامل في الصورة الشعرية على عموم صنوفها .وحيث أن ظاهرة التناص الديني لها حساسية خاصة وقدسية عامة تحديدا فيما يتعلق بالآيات القرآنية المقتبسة التي يضمنها الشاعر تناصا بين القصيدة أو النص الأدبي ، ولهذا قد وضعت معايير وضوابط آشبه ما تكون بميثاق عقائدي نظرا لقدسية النصوص الدينية ومن في حكمها من السيرة والشخصيات الدينية التي لها منزلة ومكانة عظيمة مثل الأنبياء والرسل وكذلك صحابة رسول الله صل الله وعليه وسلم ، فلا يجب أن توظف أى من آيات الكتب السماوية وبخاصة القرآن الكريم في موضع لا يتفق مع قدسية النص القرآني أو العبث في محورة الآيات القرآنية في إقحامها في مواضع تتعلق بالهوى والغواية فإن كان للشاعر أن يتناص من الكتاب الكريم فعليه أن لا يجنح بما هو مقدس لما هو يصنف تحت شعر الهوى فلا تصنف المقداسات من الدين إلا لأجل قضية تتعلق بالقيم الإنسانية والقضايا الكبرى حال كان الشاعر يحمل بين جنباته قضية قومية أو إنسانيه تخدم المجتمع ، وبالآحرى لا يوظف التناص القرآني أو الديني إلا للعظيم الأمور حتي لا يكون مستباح لكل شاعر أن

 يوظفه وفقا لهواه ومبتغاه بلا ضوابط أو معايير وان كانت هذه الضوابط من قناعاتي وأخرين قد يتفقوا معي وأعلم أن الغالبية يتعارضون مع هذا الميثاق . وفي هذا الباب من التناص في شعر عصام عبد المحسن سيكون متعلق بالتناص الديني في شعر عصام عبد المحسن ويليه الجزء الثاني  التناص الأسطوري والتاريخي وعلاقتهما برؤية الشاعر وكذلك الوقوف على كيفية توظيف الأسطورة في شعر عبد المحسن ، وان كان التناص الأسطوري ليس له من القدسية ما للتناص الديني إلا أنه له معايير وضوابط يخضع لها الشاعر طوعا وكرها وذلك كون الأسطورة تصنف على أنها قصص خيالية أو أحداث حدثت في زمن غير معلوم تحتمل المنطقية واللامعقولية معا ، وإن كان الشعر الحديث اعتمد بشكل كبير على التناص الأسطوري كي يتخذ منه متكآ للقصد ويستطيع أن يطرح أفكاره ورؤيته الشعرية من خلال قالب الأسطورة وبما أن التناص قد أصبح ظاهرة من مظاهر الحداثة في الشعر العربي الحديث كان لعصام عبد المحسن أن يسعى لإثبات قدرته وموهبة الشعرية وسط كبار الشعراء اللذين تميز ِشعرهم بكثرة التناص الديني بما له من عظيم المكانة في نفوس الأمة العربية والتناص الإسطوري وما له من ذاقة وإستحسان عند عموم المجتمع العالمي بشكل عام والمجتمع العربي بشكل خاص وذلك لاشتراك الحضارات الشرق أوسطية في تلك الأساطير كالحضارة الفرعونية كأسطورة إيزيس وأوزريس وغيرهم ، يوزازيها في الجانب الآخر الحضارة الإغريقية والتي تعد من أشهر الأساطير قاطبة بعد الحضارة المصرية الفرعونية وكذلك حضارة بلاد الرافدين السومرية والآشورية وكثير من الحضارات التي خلفت إرثا كبير من الأساطير التي أمست حقول خصبة للشعراء في النهل منها تناصا بزعم إثراء منتجهم وبلوغ مقاصدهم بسهولة ويسر لدى القارئ

 التناص

 أولا :ماهية التناص

التناص مصطلح نقدي حديث وافد من الغرب، فرض حضوره في مجمـل الدراسـات الغربية والعربية منها مؤخرا. وهو حديث الوفادة على المشرق العربي، ولقد إختلفت النظريات والمفاهيم والتفسيرات حوله باختلاف التيارات الفكرية والمدارس النقدية أساسا في الغرب.

وقبل الحديث عن دلالة التناص في بعده الأدبي، يجدر بنا الكشف عن المرجعية اللغوية له، علما أن مفهوم التناص لغويا لا يسعفنا في التعرف إلى المعنى الإصطلاحي بشـكل حاسـم .(1) فعلى الرغم من قدم المادة، لم يكن لها مرجع يتصل بالبيئة الأدبيةوالتناص لفظ يعود إلى جذره اللغوي (نصص)، وقد أورد أصحاب المعـاجم اللغويـة مجموعة من المعاني تفسر هذا الجذر، فقد جاء في لسان العرب أن النص: “رفعك الشيء. نص الحديث ينصه نصا: رفعه وكل ما أظهر فعد نصّ. وقال عمرو بن دينار: ما رأيت رجلا أنص للحديث من الزهوي: أي أرفع له وأسندونص المتاع نصا: جعل بعضـه علـى بعـض .
ولعل هذا يقودنا إلى ما اشترطه ابن خلدون لإنتاج الشعر، إذ أنه وضع شـروطا مـن أهمها الحفظ من جنس العمل الأدبي فيقول: “اعلم أن لعمل الشعر وإحكام صـناعته شـروطا، أولها الحفظ من جنسه، أي من جنس شعر العرب حتى تنشأ في الـنفس ملكـة ينسـج علـى منوالهاومن كان خاليا من المحفوظ فنظمه قاصر رديء ولا يعطيه الرونـق والحـلاوة إلا كثرة المحفوظ. فمن قل حفظه أو عدم لم يكن له شعر، إنما هو نظم ساقط، واجتنـاب الشـعر أولى بمن لم يكن له محفوظ، ثم بعد الامتلاء من الشعر وشحذ القريحة للنسج على المنوال يقبل على النظم، وبالإكثار منه تستحكم ملكته وترسخ، وربما يقال: أن مـن شـرطه نسـيان ذلـك المحفوظ، لتمحي رسومه الحرفية الظاهرة، إذ هي صادرة عن استعمالها بعينها فإذا نسيتها، وقد تكتفت      النفس بها، انتعش الأسلوب فيها كأنه  *منوال يؤخذ بالنسج عليه بأمثالها من كلمات أخرى (2( ضرورةوإذا كانت الإنتاجية شكلا

 من أشكال التناص الذي يعتمد على التفاعل والتشـارك بـين النصوص، والتفاعل يقتضي نصوصا متعددة، فهل يمكن لنا إعتبار التناص قضية نقديـة لهـا جذورها في الموروث النقدي؟ وبعبارة أوضح، هل يمكن لنا أن نحمل ما قالـه ابـن خلـدون ونفسره على هذا النحو:
مما لا شك فيه أن التناص يقتضي الرجوع إلـى الـوراء، ثـم الأخـذ بمـا يتناسـب والنصوص الجديدة، وهذا يتطلب الحفظ والفهم والإطلاع على النصوص الأدبية السابقة، تمامـا كما يتطلب نظم الشعر عند ابن خلدون الحفظ والإطلاع، إذ لا يمكن أن نفسـر الحاجـة لـنظم الشعرأو إنتاج النص إلا بالحفظ. وقد كان التناص ترادفا للتضمين والإقتباس ، وبرغم أن مصطلح التناص ورد من الغرب إلا أنه لا يعدو كونه مرادف التضمين بشتى صورة تاريخية كانت أو أسطورية أو دينية وغيرهم .. هذا ما نبينه على النحو الآتي :

ثانيا : التناصترادف التضمين  

ولوأقررنا بأن التضمين ضرب من ضروب الفنون المتبعة بين الشعراء والأدباء ، فإنه مصطلح أعم وأشمل لكل أنواع الآخذ من الأخرين ويستوي هذا الآخذ إذا كان شعرا آم نثرا .فإذا كان التناص قد عرَّفه النقاد تعريفات كثيرة وكان من أبرازهم الباحثة جوليا كريستفيا إذ قالت وقد حددت وعرفت التناص على أنه (مجموعة من الإقتباسات، وأن  كل نص هو أخذ وتحويل لنص آخر. كما ترى أن التناص هو التقاطع والتعديل المتبادل بين وحدات عائدة إلى نصوص مختلفة )(3)*

ـ…………………………………………………………………………………………..
1-
عبد المطلب محمد الحداثة عند عبد القاهر الجرجاني
2-
مقدمة ابن خلدون
3-
عمر عبد الواحدمقالات مترجمة  لجوليا كريستفيا

 وإن القارئ لشعر عصام عبد المحسن  يظهر له بوضوح حرص الشاعر على توظيـف التـراث الديني في أشعاره ، فالنصوص القرآنية مختزله والمعاني المستوحاة من القرآن كثيرة والإيحاءات والأفكار متعددة، ومظاهر التناص والتضمين منهج عند الشاعر.

ولعل السبب في ذلك يعود إلى أمرين: أحدهما هذا التوجه الإرادي والذاتي لدى الشاعر المطلـق بأن الحل لمأساته ومأساة الشعوب عامة تكمن في التوجه لهذا الدين.

وثانيهما إيمـان الشـاعر واعتقاده بأن الاستلهام من القرآن أولا والتراث الديني ثانيا له بالغ الأهمية في الانتقـال بشـعر الشاعر من مصاف الشعراء المغمورين إلى مدارج الشعراء المتميزين بشعرهم.

فالشعوب العربية  تميل بطبيعتها للمنهجية  العقائدية فى أحداثها الحياتية ، ودائما تتوق لمن يضرب لها على أوتار مآسيها، وإذا علمنا أن هذه الشعوب قد أصـبحت لا تـرى حـلا إلا بالعودة إلى الدين الذي يتكفل بحل كثير من  قضاياهم ومشاكلهم ، هذا الدين الذي يخاطب وجدانهم ومشاعرها وأحاسيسهم فتطمئن وتلجأ إليه وتفتح قلبها

 له ولكل من اتصل به من (ولا يخفى على أحد الآن هذا التوجه العام لمعظم الشعراء لاسـتخدام التصـويرله من حيث الشكل الفنـي بوصفه لوحة يبرز فيها الشاعر أفكاره وأحاسيسه ومشاعره بعدما كان الشعر أو بالأحرى نظرة النقاد له نظرة جامدة على أنه مجرد ألفاظ ذات معان مفردة. كان التصوير الفني هو الأداة المفضلة في أسلوب القرآن فهـو يعبـر بالصـورة المحسوسة  المتخيلة عن المعنى الذهني والحالة النفسية، وعن الحادث المحسوس والمشهد المنظور والطبيعة البشرية، ثم يسمو بالصورة التي يرسـمها فيمنحهـا الحيـاة الشاخصة ، أو الحركة المتجددة فإذا المعنى الذهني هيئة أو حركة وإذا الحالة النفسية لوحـة أو مشهد  وإذا النموذج الإنساني شاخص حي، وإذا الطبيعة البشرية مجسمة مرئية. (1)*

فأما الحـوادث  والمشاهد والقصص والمناظر، فيردها شاخصة حاضرة فيها الحياة .
عمد كثيرا من الشعراء للتضمين والإقتباس من القرآن ، الذي أستعاض عنهما بالتناص بنوعيه اللقظي والمعنوي، في تعزيز وتعظيم مقاصدهم ، فمنهم من  تناول مآساة الطفولة في البلاد العربية الاسلامية 

 كما حدث عنها  الشاعرأمل دنقل في قصيدته المأساوية ( من يقتل أطفالي المساكين ) (2)* وقد أستهل القصيدة بزفرة آلم وحزن على هؤلاء الأطفال المساكين .

كتب دنقل يقول :

آه
من يوقف في رآسي الطواحين؟
ومن ينزع من قلبي السكاكين؟
ومن يقتل أطفالي المساكين !!؟

يبدأ دنقل قصيدته بكثير من الآسى على حال أطفال المشردين الذين قُتلت طفولتهم بيد الحكومات المستبدة ، وكأن الأحزان أشعلت في رآسه طواحين تعصف بعقله وفكره ، مبينا عدم إستعابه كيف يشرد مثل هؤلاء الأبرياء ويصبحون ضحية حاكما فاشلا ظالما ،وقد سلبوا حقوقهم أثرياء المجتمع الزائف ، فأستخدم صيغة الأستفهام التعجب سبيلا ودلالة لعدم اللامعقولية التي لا يمكن لكل ذي لبُ ان يستسيغها لما أحدثه نظام السلطان الجائر بتلك الأبرياء المعذبين ، وان يتركهم يطوفون الشوارع وإشارات المرور يسألون السادة قوت يومهم ،

وتكمن عبقرية دنقل في أن آتخذ أطفاله كناية عن كل طفل شرد نتيجة سياسة حاكم لا يعرف الرحمة متجرد من الإنسانية ، يتسأل قهرا من ينزع من قلبه السكاكين ، جاءت السكاكين بصيغة الجمع للدلالة والإشارة إلى أن كل طفل مشرد ضائع في وطنه كأنه سكين مغروس بقلبه .لم ينتظر دنقل الجواب فكان جوابه مضارعة للمآساة هؤلاء فقال :

لكيلا يصبحوا في الغد شحاذين
يستجدون اصحاب الدكاكين
وأبواب المرابين

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1-
السيد قطب التصور الفني في القرآن الكريم
2-
قصيدة من يقتل أطفالي المساكين أمل دنقلالأعمال الكاملة

 كان جواب الشاعر هوحالة عايشها من واقعهم المرير وحالهم أثناء التسول حتى ينالوا شئ أو بعض شئ يسد رمقهم أو يفلحوا في إطعام أخوانيهم وأخواتهم .

إن الحكومة ما رعتهم حق رعايتهم ، ما كان لدنقل أن لا يستخدم التناص القرآني في تعزيز قصيدته التي تحمل مأساة الطفولة المعذبة في وطن لا سلام فيه محكم التنزيل{ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ 46 }*(الآية رقم 46 من سورة الحجر  )

هذه الأرض التي وعد اللهُ بها
من خرجوا من صلبها
وانطرحوا في حبها مستشهدين
فدخلوها بسلام آمنين
ادخلوها بسلام آمنين

وهنا :

يكثر الشاعر عصام عبد المحسن من التضمين والإقتباس معززا ومطرزا شعره بالنصوص القرآنية ، بغرض إحكام المقاصد والمضامين في بنيوية القصيدة

 إذ يقول في قصيدة عُروةُ مِصباحٍ يُضئُ  بالأَخضرِ

الأَطفالُ عَلى بَابِ الجَامعِ

تُرتِّلُ بتَعالٍ

( الرَّحمنُ عَلَّمَ القُرآنَ )

(والتِّينِ والزَّيتونْ)

والجُوعُ المَكنونُ

وخَواءُ الصُحونِ

 والبُطونِ

ونَحنُ الجَائعونَ
حيث يتجلى التناص اللفظي الجملي  مع سورة الرحمن عند عصام عبد المحسن في أوضح صوره من ذكرصفات الرحمن عز وجل وما أنعم به على العباد ، يلاحظ من هذا التناص تضاد ما بين نعم المولى عزوجل وخيراته للخلق جميعا ،هذا من جهة ومن جهة أخرى يحرم هؤلاء الأطفال المساكين هذه الخيرات والنعم من جراء سياسة حاكم وحكومات أستعبدت الشعوب وحرمتهم من نعم الرحمن ،والوجهة الأكثر إلآماً التى عمد الشاعر تصديرها للقارئ أن القرآن يرتل والآذان يرفع فوق المآذنة ولكن لاعدل في الأرض ،

يطرح الشاعر سؤلا على لسان الأطفال الجوعى الواقفون على باب الجامع يرتلون {الرحمن علم القرآن } (1)* آأنتم علمتم القرآن وأين نعم الرحمن ؟ كأن الدين أضحى طقوس لا تدين في بلاد الاسلام .
وإكمالا لدعم قضية العبث واستعباد الحاكم المسلم بمقدرات الشعوب تضمن الشاعرتناصا مكملا لقصيدته
يُزيلُ دِماءَ الطُّيورِ الأَربعةِ ”  (2) *

(من ديوان/ أفتتح الفردوس بداخلي لكم * رقم 18- 14)

فيشير الشاعر في هذا التناص المحكم الي خيرات الأرض التي وهبها الله لمصر خاصة في سورة التينويلاحظ  هذا التناص اللفظي من سورة التين ،إذ يقول الله تعالى { وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ ، وَطُورِ سِينِينَ ، وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ } (3)* ويبدو من الدلالة البيانية أن الله قد حبى مصر بكل النعم إلا أن الحاكم قد نصَّب نفسه إلها يستبد بالأمة ويعبث بمقدراتها حد التجويع والفقر ، ولا يجيد سوى الإستنكار والشجب عند كل مأساة تصيب الأمة ويطالبهم أن يصبروا على الجوع وخواء البطون . فلا نفع هؤلاء الأطفال المساكين والفقراء المقهورين ما يصدع به أئمة الحاكم وشيوخ النظم الفاسدة ،

 ولا نهالهم من خيرات البلاد شئ .

ويكشف الشاعر مدى ما أحدثه الفساد في العالم الاسلامي باثره و مصر منفردة  إذ يقولJ

أَفرغُوا (الطُّورَ)

مِنْ السِّينينِ

فَسقطَ الجَبلُ
واحترقتْ حَدائقُ

التِّينِ والزيتونِ

 يجلد الشاعر الحكام على مر العصور بقول الله فيهم وكذلك أئمة السلطان وشيوخه نعتا إياهم بأنهم هم من أضاعوا أقوات الشعوب ،

أستند أيضا إلى التناص القرآني في الآية { وَطُورِ سِينِينَ ، وَهَذَ الْبَلَدِ الْأَمِينِ } وأنهم أحرقوا جنائن التين والزيتون كناية عن سلب أقوات العباد ،

وأما الإشارة عن الجبل فهو طور سيناء ،

أسقط الشاعر الجبال دلالة رمزية لضياع كل مقدس ونهب كل خير في هذه البلاد التى صار أطفالها يتسولون أمام المساجد يسألون عن العدل في القران وعن الخير الذى وعد الله به أرض مصر

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1-
قصيدة عروة مصباح يضئ بالاخضر ديوان أمشط الوجود تحت جلدي
2-
قصيدة يُزيلُ دِماءَ الطُّيورِ الأَربعةِ ”  (من ديوان/ أفتتح الفردوس بداخلي لكم * رقم 18- 14)
3-
سورة التين (95- الآيات 1-2-

 ،ويكمل الشاعر قائلا :

وكَانَ الإنسانُ

فِي أَسوأ تَقويمْ

ويعد هذا التعدد من التناص ليس عبثا ،

بل أن الشاعر لم يضمن الألفاظ فحسب وإنما ضمن الأسلوب أيضا، فكما أن القرآن أكد على أن الله قد خلق الإنسان في أحسن تقويم . إذ يقول الله تعالى { لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ  فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ } (1) * إلا أن السلطان قد آحال هذا التقويم الحسن إلى القبح والسوء ،

ونجد الشاعر صب سخطه على الحاكم بعظيم قول الله فكل ظالم مستبد ،فشتان بين الحق والعدل وبين الظلم والباطل وشتان بين عطايا الرحمن وبلايا الحكام المستبدة على مرالتاريخ الاسلامي بشكل عام ومصر بشكل خاص حيث إن مصر أكثر البلاد العربية والاسلامية تدينا وكذلك أكثرها فقرا واستعبادا .
لم يكتفي الشاعر بجلد ظهر الظلم بآي الذكر الحكيم بما تضمنه شعره من تناص استند إليه في سخطه على أشكال وصنوف الظلم المنتهج ضد الشعوب والمستضعفين بأمر الحاكم وباسم الدين ، بل أعلن عن الضرورة على التمرد على هذا الظلم والإستبداد .

إذا يقول في قصيدة حَملتْهُ الرِّيحُ وصَعدتْ (2)*

من ديوان (روحي حائط مبكاكم أنا البشير )

–  يعالج عبد المحسن معاناة الشعوب العربية الملئة بالجوع والخوف والسجن ،

فيتسأل لماذا هذا الصمت على ظلم الحكام وجرائمهم ضد الإنسانية ؟
وبما أن كانت آيات القرآن حجته التي يدمغ بها الباطل المستشري في البلاد العربية ، كأنه سرطان أصاب العدل منها وطمس الحق فيها ,

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1-
سورة التين ( الآية رقم 3 )
2-
نفس المصدر السابق  

ومن جهة آخرى يفرض الشاعر قناعته بضرورة التغير وحتميته مؤكدا أن الثورة على هذه الأنظمة الفاسدة هي سبيل للخلاص من بطشهم ،

وأن رسالة الشاعر ليست محفزة للثورة فحسب . بل رسالة توعية وتنوير العقل ، حتى يكون التغير نابعا من ثقافتهم الذاتية لا التبعية الخرقاء لكل ذي مصلحة أوغاية سياسية تحلت بحلة دينية كانت أو بمفاهيم غربية لا تتفق مع أيدولوجية الشعوب العربية
وبما أن الثورة لها قدسية ومكرمة لدى عبد المحسن فكان التناص القرأني هو أطهر حلة تدعم مقاصده التحررية

إذ يقول في قصيدة حملته الريح يقول :

عَلى الجِدارِ

كَتبَ الفَتى النَّاقمُ

(رَبِّي أَرني كَيفَ تُحيي الثَّورةَ )

فرَفعتُ رَأسي

للسَّماءِ وانتظرتُ

 جاء التناص في القصيدة من الآية الكريمة { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ } (1)* ويلاحظ من القصدية الشعرية التي عمد إليها الشاعر أنه يرجو برهان بين تستيقنه نفسها بأن الثورة لم تمت ولم يوئدها المستبدون بالسلطة  ،وقد نتلمس مدى الآسى والأسف اللذان أستحوذا على جو القصيدة ،بأن الأمل القائم على الرجاء في أحداث التغير وإحياء الثورة من جديد حلم قد تبدد بددا ، وإن كان دعوة الشاعر محمودة على بنية الأمر بغرض الرجاء فى إحياء الثورة من جديد ، كون تلك الثورات التى ثارت على وقع الظلم ولم ُيقدر لهذه الثورات أن تحقق أهدافها ,فكانت نتيجتها الفشل والهزيمة ، لا لعيب في مبادئها ولا قصور في من قاموا بها  وعملوا على إنجاحها ، بل لكون ثورتهم كانت قائمة على المثالية والرقي اللذان لا يتفقان مع الواقع الفاسد آنذاك . إلا ان عبد المحسن رغم يأسه

 مازال ينتظر ثورة حقيقة تتسم بالمثالية ورقي الفكر ،

ولا تكون شعارات كتبت على جدران الحائط وتطمسها أيدي النظم الغاشمة .
يختم الشاعر قصيدة تحمله الريخ قائلا :

بينما أنا أقرأُ

عَلى الجِدارِ

فيأَتيَني صَوتُ القَاريءِ

في المِذياعِ

(أَو لَمْ تُؤمنْ)

فأُردِّدُ وأَنا أُقهقهُ :

بَلى

وقَد اطمأنَّ قَلبُه 

تبدو الصورة الشعرية التمثلية النابضة بالواقعية والسخرية معا وكأنها مضارعة  الأحداث والمجريات التي واكبت آحداث الثورات التي بأت بالفشل ، وتتجلى الرمزية الثورية فى الجدار ذاك الجدار الذي كان دفتر شعارات الثورة وصفحة تاريخ مُهَارها أحرار الشعب بعبارات تحمل مبادئ وأهداف من ثاروا على الظلم والإستعباد .

ويتجلى التناص غاية أخرى أشد بؤس وإلآمً بعد سماع صوت مذياع النظم الفاسدة يقول  الله تعالى  {أو لَمْ تُوُمنْ قَال بلى} (2) *

……………………………………………………………………………………………
1-
الآية رقم -260 من سورة القرة
2-
نفس المصدر السابق

 عكس الشاعر المضامين وخالف المقاصد مبتكرا تضاد غايته تبيان مدى إحكامه المعنوي في الربط بين صوت المذياع الذي يمثل صوت القوة القاهرة للثورة ، بأن (أولم تؤمن) بأن الثورة قد وئدت ؟؟ وأنها لن تحيا ثانية . وأن الحقيقة التى أرادها الشاعر من هذا التناص

هو أسباغ الدليل على أن الثورة لن تحيا إلا بقدر الله وقدرته . وأن هذه الأنظمة المستبدة قادرة على قتل كل اعتراض أو حراك ينتج عنه ثورة عليهم ،

كما أن الشاعر استطاع إسقاط رؤيته وتوظيفها بغية دلالة مغايرة لحقيقة النص القرآني ،وإن كان مراد نبي الله أبراهيم صلوات الله وسلامه عليه ، هو يقينه بأن الله على كل شئ قدير .

ويلاحظ كذلك عامل السخرية اليآسة الذى ختم بها الشاعر قصيدته دلالة مفادها مجافاة للشك في إحياء الثورة  وثبوت يقين وقرا في نفس الشاعر من جديد

فيقول فأُردِّدُ وأَنا أُقهقهُ” (بلى) ”

وكأنه يقول هيهات أن نستسلم وإن كان قد اطمأن قلب السلطان .

لا شك أن التناص الديني عند عصام عبد المحسن  له بعد دلاليا واضحا وخاصة القرآني منه ، ويعد التوظيف الجيد والإيجابي للتناص سياقات ترقى النص وترقى بصاحبه تعزيزا وتعظيما للألفاظ القرآنية وإن كانت قد حُملت بمضامين مختلفة من حيث الموضوع إلا أنها تتفق في الدلالات المعنوية بين الشك واليقين وقرينة للإحتجاج بها على الظالمين ,بالإيضافة الي التناص اللفظي هوان للفظ القرآني عبقرية لغوية تركيبية وبنيوية  ومعان ٍتنفذ الي النفس فتطمأن بها القلوب .

وبما أن الشاعر قد نصَّب نفسه نبي الثورة وقاهر الظلمة وأيضا بكونه معدن الحكمة .فما كان له إلا أن يتضمن من القرآن ما يجعله مددججٍ بقول كتاب كريم يجابه به عدو لئم ظلوم .
يستعرض الشاعر وثائق  ووقائع من الواقع العربي المزري مستوضحا واقع المواطن العربي بشكل عام والمواطن المصري بشكل خاص ، بعد أن حولت آلهة الحكم المواطين العرب إلى دماة حية تستقبل آوامر الحكام والفراعين وهم صامتون صابرون لا يملكون مأكلهم

 ولا مشربهم إلا بأذن الفرعون الإله .
ومن هذه البعد الذى كان التناص حاكما على جوهر حقيقته ومضاهاته على الواقع المرير الذي قدرته آلهة الحكم على الشعوب ، فكان للتناص اللفظي هنا دلالة قوية من حيث الأسلوب وجمال البنيوية الممزوجة بالتناص اللفظي من آي القرآن الكريم .

فقد قدم لنا عصام عبد المحسن

قصيدته
كي نتعلم منه الحكمةَ “(1)* من يدوان (ثقوب لا يشوهها النزيف ) أو نزيفُ الأنبياء ،

إذ يقول

هل خبأَ الملكُ
حين قبضَ من الأرضِ
فشكَلها اللهُ
ونفخَ فيها من روحهِ
وقال:
(
اهبطوا منها جميعاً)
فتصارعناَ
كي نقتص من الشمسِ

كان للتناص القرآني في قصيدة > كي نتعلم الحكمة < وقع آخر من حيث المدلول البياني المستند إليه في الرجوع إلى حقيقة بني آدم ،

وماهية المساواة في الخلقه وعدالة الخالق الذي بدلها آلهة الحكم اتباع الشيطان
حيث يطرح الشاعر تسأله بإسلوب إستفهاميا فلسسفيا بديعا عن كيفية التكوين قبل خلق آدم ،حين كلف الله

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1-
قصيدة كي نتعلم الحكمة ديوان ثقوب لا يشوها النزيف ( نزيف الأنبياء)

 عزوجل ملك الموت بأن يقبض من الأرض قطعة كي يشكلها الله وينفخ فيها من روحه . حيث يتسنى لنا التناص الذي استخدم الشاعر دلالته المعنوية من الآية الكريمة التى قال الله تعالى في محكم التنزيل عن كيفية خلق آدم في سورة الحجر { وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ (28)
فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (29) }  (1) *

هنا يربط الشاعر بين العدل الإلهي في خلق البشر وبين ظلم من نصبوا أنفسهم آلهة على العباد واستضعفوهم ويقصد الشاعر بهذا التناص اللفظي والمنعوي الحكام العرب ويكأنهم يملكون الشعوب ومنحوا لأنفسهم حق التصرف فيما يملكون . يستند الشاعر أيضا الي الفتنة الآزلية في قول الله تعالى { قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى } (2)* دلالة على الغواية والصراع لأجل الخُلد ، وقد اتخذها الشاعر قرينة على الحكام العرب الذين يظنون أن لهم الخلد على كراسيهم ولهم خلافة الأرض ظلما وبهتا ، وبما استحلوا من خيرات البلاد لأنفسهم وتثبيت ممالكهم وسلطانهم  ، وحين يعطوا الشعوب شئ من حقوقهم التي وهبهم الله وانتهبوها هم ، فلا عطايا تمنح للهؤلاء المساكين  إلا بالإذلال والخزي .

يكمل عصام عبد المحسن قائلا :

من قصيدة كي نتعلم الحكمة (3)*

وجلسنا على حافةِ الأرضِ
نحاولُ القضمَ
وذو القوةِ وحدهُ
من قضم كُل الثمارِ
من حصدَ كُل الأرضِ لذاتهِ
وراح يرجمنا بحصواتِ صبرنا
أم أن الملكَ
سلم الله القبضةَ كُلها
 فنفخ فينا

وقال: اهنؤوا
وحين عصيناه

 يخبرنا الشاعر عن طبيعة المعركة الآزلية بين الحكام العرب والشعوب المستعبده من جهة ، وبين العدل والمساواة اللذين نادت بهما كل الرسالات السماوية من جهة آحرى بغرض التضاد بين ماشاء الله وبين ماشاء هؤلاء المتغطرسون ، لكن هيهات للحكام أن يفقهوا الحكمة الإلهية .

وعليه فإن الشاعر يحيلنا من خلال الخطاب الديني ودلالته للتفاعل معه من خلال إقامته علاقة جدلية فلسفية بين التناص القرآني لفظيا ومعنويا كي يكشف سوءة هؤلاء السلاطين من خلال تصدير مقاطع شعرية تجلى فيها التناص المعنوي بما أحتمل المعنى من مضامين وما أشتمل النص عليه من دلالات أحكمها الشاعر على المقاصد البنيوية للنص
تلك المقاصد التى عالجها عبد المحسن تأسيسا على تناص ضمنه من النص القرأني حتى يكون له البرهان على صدق جادت به قريحته ، وما يقبله القارئ وبما له في الخاطر من قداسة النص الدينى واللفظ البليغ .

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1-
سورة الحجر الآية 28 :29
2-
سورة البقرة الآية 38
3-
قصيدة كي نتعلم الحكمة المصدر السابق

 قال :
اهبطوا منها جميعًا
كي نتعلمَ منه الحكمةَ
ونطبعَ الأمرَ
ولاة
وسلاطينَ

 يستخدم الشاعر الإنعكاس الدلالي بين الطاعة الواجبة لله عزوجل وبين طاعة ولاة الآمر والسلاطين ،كما يعمد الشاعر بصيغة الفاعل المستتر القائم بتصدير الحكمة المفقودة وبين حقيقة الطاعة الواجبة للخالق دون سواه وأن جوهر مراده يكمن فيما ضمن وقبس تناصا لفظيا ،أن يسقط به الورقة التي طفقا الحكام العرب يخصفون علي عوراتهم بها ، كما فعل أبونا آدم وحواء حين وسوس لهما الشيطان بالغواية في قضية الخلد والإشارة البالغية في السعي لأجل ملك لا يبلى ، وذلك لقول الله تعالى في سورة طه { فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَىٰ شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَىٰ (120) } ،وأن هؤلاء الحكام هم من أضلهم الشيطان وزين لهم أعمالهم ، فاستباحوا دماء الأبرياء وسطوا على مقداراتهم ونهبوا حقوقهم , معتقدين أن ملكهم لا يبلى . فلا حكمة تعلموها من خطئية آدم التي كانت السبب في الصراع الآزلي بين المُلك إغتصابا وبين المُلك بالغواية وضلالا ، فما كان التناص الذي أسبغه عصام عبد المحسن إلا إنعكاس لفتنة هؤلاء السلاطين الهالكين لا محالة  وأنهم لم يفقهوا قول الله ولا فلسفة الحق الذي قال بأن العدل أساس الملك.

ثانيا :التناص الديني المعنوي من ( قصص القرآني)

وكما كان لقصص الأنبياء دورا جوهريا كذلك كان للشخصيات القرآنية دلالة جلية استند إليها عبد المحسن من خلال عملية التضمين والإقتباس تناصا معنويا وآخر لفظيا كي يقارع به الواقع الذي ظل ممتد مذ فجر الرسالات والرسل الذين أختصهم الله كي يحملوا

 رسالته لتبليغ منهج الله في الأرض ،وكذلك ضبط حركة العباد وإخراجهم من الضلال إلى الهداية ، حتى لا يسترقهم ويستعبدهم  أرباب الشيطان الحكم وولاة الآمر في الآمة العربية ، فكان قبسه منها حجة بالغة على آئمة الحكم المستبدين .
وبما أن شعرعصام عبد المحسن قد اشتمل على الكثير من القصص القرآني التي استخدمها الشاعر في أشعاره بغية إثراء الصورة الشعرية وإكسبها قيمة فنية خاصة ذات مدلول عميق يكون له بالغ الآثر في وجدان المتلقي بعد أن يمنحها رؤيته وفلسفته الخاصة في معالجة قضايا الوطن وأوجاع المواطن العربي .وحقيقة يلاحظ من شعر عبد المحسن فيما يتعلق باستخدامه للتناص القرآني جملة كان أو مفردة إلا فى قضايا الوطن ومعاناة الإنسانية كافة والقومية العربية خاصة . وعليه وبالبحث فى كيفية توظيف عبد المحسن للمفرادات القرآنية في النص الشعري . يستعرض الشاعر رؤيته الشعريه الممزوجة بين تاريخ فرعون موسى الذى نصَّب نفسه إلها حين استخف قومه ، وبين تناص اللفظ المفرد وربطهما بالزمن الحاضر وكأن الزمن لم يمر والرسالات السماوية  ما وجدت الي قلب الفرعون سبيل ، وما تعلم الشعب أن لا يستخف به  حكامه . رؤية وثائقية أراد منها الشاعر إنعكاسهما على حياة الشعب المصري تحديد والحكام
إبراهيم  الخليل عليه السلام
ليس غريبا آن يتناص عبد المحسن إستقضابا معنويا ولفظيا مفردا فقد سبقه كثر من الشعراء في الإقتباس والتضمين بما له من بالغ الآثر في نقوس الآمة العربية قاطبة وذكرها في عموم الرسالات السماوية ، وكذلك نبي الله اسماعيل عليه السلام . فقد تناص كثيرا من الشعراء مثل الشاعر العراقي أحمد مطر في قصيدة لافتات *  فكتب مطر يقول :

يا مولانا إبراهيم 
أغمد سكينك للمقبض

 وأقبض أجرك من أصحاب الفيل
لا تأخذك الرآفة فيه
بدين البيت الأبيض
نفذ رؤياك ولا تجنح للتأويل
لم ينزل كبش . لا تأمل بالتبديل
يا مولانا
إن لم تذبحه نذبحك
فهذا زمن آخر
يفدى الكبش بإسماعيل

 جاء مطر بمفارقة عبقرية في زمن الرؤيا هذا الزمن غير رؤيا زمن إبراهيم والفداء قد تبدل ،فإن معجزة فداء اسماعيل بالكبش معجزة من رب العلمين ، آما في زمننا فقد تبدل الحال وصار الكبش هو المفدى بإسماعيل .وأن دلالة مطر الذي عمد إليها مدي المهانة والوضاعة التي إتسم بها الإنسان العربي في عصر ألهة الحكام العرب ،وأنه أضحي أقل قيمة من الكبش , بل ما دون الحيوان ، فكل شئ أصبح معكوسا في هذا الزمن والرحمة تتلاشى من الأرض . فآتي عبد المحسن برؤية تتفق في المقاصد والمضامين بالمقارنة مع رؤية أحمد مطر العبقرية ، وتختلف من حيث المعالجة والسياقات وكذلك التوظيف والتراكيب اللفظية .
فما كان من مطر كان بمثابة سوط يجلد به ألهة الحاكم بما أوتي من فصيح قول وقوة بلاغة إبتكارية
وأن قضية معاناة الأمة العربية عند مطر تتوافق منهجا ورسالة مع رؤيوية عصام عبد المحسن ، وإن كانت المعاصرة الزمنية لا تختلف آحداثها فالآلهة مازالوا ملتصقين على عروشهم  والقضية لم تحل بالجلد والهجاء وإنما أراد عبد المحسن أن يكون التنوير والإستهجان وإن توافق مع مدرسة مطر ، إلا أن التنوير ربما عمد الشاعر إليه خشية بطش الفرعون ومن على شاكلته , ويتضح أيضا شجاعة وإيمان مطر دون غيره من سبق

 ومن لحق من الشعراء . فيحسب لمطر أنه أكثر الشعراء شجاعة وبسالة بل هو المقاتل بالكلمة .ويلاحظ أن منهج التنوير المراد به عند عبد المحسن يعالج قضية مآساة  العرب تعميما لا لشئسوى تذكير وتنوير كما أسلفنا آنفا.

وبما أن فرعون هو الرمز الأوحد للإشارة لمصر بطبيعة جنسية عصام عبد المحسن ، إلا أنه مزج قصة فرعون موسى مع مدلول قصة بني الله إبراهيم وإسماعيل ، وقد ربطهم الشاعر على مذهب اليأس والرجاء من جهة ، وبين الشك واليقين من جهة آخرى . وأن ما كان من فرعون موسى مازال قائم حتى يومنا هذا ، وكان فرعون لم يجعله الله نكلا لما بعده من الحكام والمستبدون في الأرض ،

كذلك تأرجح الشاعر بين الشك واليقين في إرساء قواعد العدل والحق للهذه الشعوب المستعبدة من زمن فرعون موسى حتى الألفية الثانية .

كتب عبد المحسن قصيدة بَينَ تَقلباتِ أَصابعِ الفِرعونِ (1)*

من ديوان (من صدر السماء أتدلى ثمارا للخلد)

قَالَ:

أو لَمْ تُؤمنْ مِثلَهُ

قُلتُ:

بَلىَ

ولَكنَّها كُلُ الطيور..

هَاجرتْ

فَما وَجدَتْ

مِثلمَا وَجدَ هُوَ

 استخدم الشاعر التناص في قصيدته على وجهتين أما عن الوجهة الأولي هي التناص الشكلي الجزئي ، وهو إقتباس جمل أو أجزاء أو تراكيب مجتزئه من النص القرآني وإضافتها للنص لاحق كما جاء فى قوله [ أولم تؤمن مثله] فإن التناص هنا قد عمد الشاعر إجتزائه من الآية الكريم  { أو لَمْ تُوُمنْ قَال بلى } آتى عبد المحسن بهذا مرة آخرى للصراع بين الشك واليقين بقصة نبي الله ابراهيم عليه صلوات الله وسلامه ، تلك الشك الذي يستحوذ على نفس الشاعر في إحياء الحق والعدل ودحر الباطل والظلم ، كناية عن الطيور الأربعة التي فرقَّها خليل الله على قمم الجبال الأربعة بعد آن صرهن ، فقد قال عز وجل من آيات الذكر الحكيم من سورة البقرة
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ ۖ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن ۖ قَالَ بَلَىٰ وَلَٰكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ۖ قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَىٰ كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا ۚ وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260 } (2)*

وإن كانت الغاية التي يرنو اليه الشاعر تعظيم الإستبداد والظلم من هؤلاء الحكام الفراعنة وأما عن الوجهة الثانية وهي إستخدام المفردة مثل قوله ( بلي ) فكان للشاعر أن يضع ما ضمنه من القرآن بين قوسين وذلك أن الدلالات اللفظية وإن كانت مجتزئة ومضاف إليه نص تكميلي، إلا أن النص القرآني له قداسية عظيمة ، وأن هذا التخصيص لن يغير في الدلالات التي عول عليها الشاعر ما بين المقاصد والمضامين وذلك يوظف أيضا في خدمة السياق الأدبي للنص بدلالة مغايرة وجديدة دون المساس بقدسية النص القرآني .

وأما من حيث المراد والمدلول من التناص المجتزء واللفظ المفرد الذي يتجلى معنًا ومضمونا هو ما يحاول أن يقنع به الفرعون المستضعفين أنه الإله القادر العارف

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- –
قصيدة بين تقلبات أصابع فرعون من ديوان من صدر السماء أتدلى ثمارا للخلد
2-
الآية : 260 من سورة البقرة 

 وما سعى له الشاعر أيضا شتان ما بين العدل الإلهى وبين عدل الفرعون وأن الشك سيظل قابع بنفس الشاعر مهما برهن الفرعون على قدرته ،

 وأن البرزخية التي يسكنها الشاعر بين الشك واليقين تتزاد سطوعا حيث قال :

 وكَأنَّ بُرهانَ اليَقينِ

قَد اختفَى

وتَحركتْ كُلُّ الجِبالِ

عَلى صُدورِ المُتعبينَ

وقَد رَسَتْ

وتَكوَّمتْ

عَلى الأَجسادِ

كُلُّ أَشكالِ الفَجيعةِ

 يعرض الشاعر رؤيته على محاور ثلاثة مختلفة التناص من حيث السياق ، مشتركة المعني من حيث وحدة الموضوع .

فأما عن المحور الأول آتى الشاعر تناصا شكليا وجزئيا من قصة الإيمان والشك فيما يتعلق بتغير الواقع المرير من فرط بطش الفرعون ، وكذلك العلاقة الطردية المجازية في إحياء الفضائل الأربع وهي الحق ، العدل ، المساواة ، الأمن

وفناء الرذائل الأربع وهي الباطل ، الظلم ، التفضيل ، الخوف
تلك الخصال الحميدة التى يعمد الشاعر أن يجهر بها  كونها منتهى الرجاء من الحاكم ، وهي تلك التى أبدالها الحاكم بخصال مذمومة وقد أمست وأصبحت قوانين الحكام العرب

 في أستتباب ملكهم على عرق ودماء الشعوب العربية .

وآما المحور الثاني الذي أرد عبد المحسن معالجته من خلال التناص المعنوي في قضية أزلية صناعة الآلهة فى تاريخ مصر.

وآما عن المقصد الآخير يبدو من رؤية الشاعر هو رابطة السببية بين اليأس في إحداث التغيرعلى مجريات الأحداث في قابل الأيام ،وههنا يمتزج الآمران بين قصة فرعون القائم منذ فجر التاريخ وبين الإيمان الذي يعول عليه الشاعر في التغير بقدر الله وبفضل تنوير العقول الشعوب العربية المظلمة قاضبة والمصرية على وجه الخصوص ,

ويستلهم الشاعر قصة فرعون تناصا معنويا استهلالا بعنوان القصيدة آنفا ، متخذا من قصة فرعون موسى كناية عن كل حاكم ظالم من الحكام العرب المسلمين ، وكآن الشاعر آراد من هذا التضمين اللفظي والمعنوي بين قصة إبراهيم وموسى عليهما السلام أن يدعو الناس إلى الإدراك بأن فرعون ما هو إلا طاغية قد استبد بشعبه ، وأن مصيرة الهلاك لا محالة .

ويكمل الشاعر مخبرا عن فعال فرعون بالأرض المقدسة وكيف نكل بهؤلاء المستضعفين إستخفافا وساذجة قد آتى الشاعر بملحمة خراب معاصرة من عمق التاريخ حتى وقتئذ وفرعون مازال يقول أنه الإله وما لهذا الشعب إله غيره . وأن جل ما عمد الشاعر إليه هو إلى متى سيبقى كل فرعون على عرشه فى العالم العربي ؟

ويتضح هذا للقارئ في قول الشاعر فى قصيدته

تَقلباتِ أَصابعِ الفِرعونإذ يقول :

بَينَ تَقلباتِ أَصابعِ الفِرعونِ

عَلى العَرشِ

وحَريقُ الفِردوسِ

بِكُلِّ جَنباتِ الأَرضِ

 قَد احتدَمَ

حَولَنا

ولا بَرْدَ عَلينَا

نَنتظرهُ

يلقي الشاعر بظلاله الآخيرة على نتيجة تقلبات الشعب بين يدي فرعون ، فما خلف فيهم إلا حريق الفردوس الذي هو رمز للخير ورغد العيش ، وما آحدثه من خراب عم جنبات الوطن ، وأن الإستخفاف بالناس وسلب مقدارتهم كونه المفكر الأعظم والقادر الأوحد . فقد أحال البلاد إلى خراب .

وقد استدعى الشاعر قصة فرعون وموسى لعدة أسباب فأما عن السبب الأول هي مكانية الحدث على أرض مصر ،

وان السبب الثاني هو إستمررية منهج فرعون ومعاصرته حتي وقتنا هذا دون إختلاف إلا في الأسماء والتواريخ .

واما عن السبب الأهم هو أن الشاعر صنع محاكاة بين فرعون موسى وبين فراعنة الحكام بمصر ومن على شكيلتهم من عموم حكام آقطار الوطن العربي . وإن كانت رؤية عبد المحسن مذمومة عند البعض إلا أن التاريخ قادرا على إنصاف كل من استلهم قصة فرعون وربطها بالواقع  كونها قصة لا يجحدها جاحد كونها قصة تعيد نفسها على مر العصور .
لم تكن هذه القصيدة هي الدلالة المعززة بالتناص القرآني في شعر عبد المحسن فحسب ،بل تناص أيضا تناصا معنويا في عدة قصائد بغية إتساع نطاق معالجة قضية الحكم الجائر والعروش القائمة على أعناق الشعوب  العربية قاطبة ، فآتي بمعالجة مختلفة وبدلالة إبداعية في قصيدته

المساحةُ تشعلُها الأربابُ الصمُ (1)*
من ديوان ( ثقوب لا يشوهها النزيف )أو نزيف الأنبياء .

 حول البيتِ
تجمعتْ الآلهةُ
وضجيجُ السمارُعلى الطرقاتِ
يهيجٌ صفوَ الأتربة

الباعةُ يعلنونَ عن فردوسٍ مجهولٍ
يحملهُ إله لا ينطقُ في السوقِ
من يبتاعُ إلهي هذا؟
فلسانُ الحكمةِ فيه قريب
طليق حين يباعُ

لم يقتصر عبد المحسن على الإقتباس والتضمين من القصص القرآني وخاصة قصص الأنبياء ، وقد تجلى تناصه مع الأنبياء وقد خص خليل الله إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه في آكثر من موضع وعلى صور متعددة ، ونرى أن الشاعر يعزى الشاعر هذا التضمين والتخصيص لرابطة سببيه مشتركة ما بين إلهة الولاة العرب . وأن جنان هؤلاء ما هي إلا وهم محض يبيعونه للعباد وفردوس لا وجود له إلا في عقيدتهم الخربة .

فيمثل الشاعر هنا الواقع بقصة نبي الله إبراهيم من مهد البحث عن معرفة الإله الحق الواحد الآحد.
ويبدو من سيميائية القصيدة التي عنونها الشاعر بـ ”  المساحة تشعلها الآرباب الصم وحقيقة أن عبقرية العنوان تنبئ بمحتوى النص في العلاقة بين الحق والباطل من جه وبين الإيمان والكفر من جهة آخرى .
وأما عن إختياره لكلمة الصُم فجاءت بموضعها ،كون أن الصُم لا يتكلمون وإن كان في الأصل لا يسمعون وأن هؤلاء الولاة صُمت آذانيهم عن آنين المستعبدون وعن  صراخهم من الجوع والفقر والمرض .كأنهم أصنام  تقولبت في قالب أرباب تعبد بالسوط والسجن وبالأمر .

 في زمن مهد الرسالات السماوية .

يرشدُ حاملهُ إلى لذاتٍ
لا تحملها الأرضُ
وثمارٍ للخلدِ
الكونُ يدورُ
والساعون خلفَ الوهمِ
يزيحونَ الوقتَ بأرجلهمْ
وكؤوسُ الخمرِ تستعجلهم ْ
فالرقصُ العالقُ في الأذهانِ
مرتبط بالوقتِ النازفِ
بين أفولِ الشمسِ
والنارُ المشتعلةُ تنتظرُ
الفأسَ المغروسةَ بعنق الربِ .

وأن الدافع من هذا التناص القرآني المعنوي ، يجعل ذهن القارئ يتفتق لتلك الغاية من قصة الأرباب الذين هم موظفون بمقصد الشاعر كناية عن ولاة الحكم والسلاطين العرب ،وأما عن البيت الذي رمز إليه الشاعر هو البيت الحرام وليس الغرض من هذا سوى الدلالة المكانية لدين الإسلام حتي محمد صلوات الله وسلامه عليه ،

فكأن الشاعر يعيد لنا زمن الأصنام المنعوتين بالأرباب والآلهة من فجرالرسالات .

 فنجد الشاعر يقارن بين الزمن الحاضر وبين زمن إبراهيم الخليل صلي الله وعليه وسلم ، مع الآتيان بالحجة التى أحتج بها إبراهيم على قومه حين قال الله تعالى { إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ 85} (1)*

.يعمد الشاعر على التسلسل الزمنى وكذلك الدلالة المكانية للإشارة إلى العقيدة الحق وأن الأصنام فى السابق كانت حجارة ، أما
في هذا العصر هم آلهة تضارع النمرود وفرعون موسى . يسقط الشاعر دلالة البحث عن الحق والحث على التنوير إستنادا لما عزز به الشاعر مقاصده ، وأنه يجب أن يفقه الناس

 أكذوبة هؤلاء الولاة وإدعائهم بأنهم صناع أرغفة الوهم الذين يطعمهوها للشعوب العربية البآسه .

ونري الشاعر ينكل بتلك الآرباب الزائفة

لا جرحٌ ينزفُ
لا صرخاتٌ
والقمرُ كذلك يأفلُ
الساحةُ تُشعلها الأرباب الصُم
(
باللاتي وبالعزى)
وقانون الصفوةِ
فلتطلقٌ هذى الفأس المغروزةُ
توشيكمْ بالقاتل والمقتول ِ
لم يكذب ( إبراهيم )
ولكن ..
بُرهان النارِ الباردة ِ
وسلامةَ مخرجهِ
كانتا يكذبان

يعمد الشاعر إلى التصريح والتنوية عن الطبقية والإشارة  إلى البطانة التى تسمى بالصفوة والآتباع الداعون إلى عبادة الإله الأصم ، الذي لا يسمع ولا يتكلم إلا بأمر الإله الأكبر وهو البيت الأبيض وبيت بني صهيون هذانالإلهان اللذين كناهما الشاعر باللاتي وبالعزى كناية عن سيادة أمريكا واسرائيل .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1-
الآية رقم 85 – من سورة الصافات 

 وأن كل هؤلاء الولاة  الآلهة يفعلون ما يؤمرون وفقا لما يخدم بني صهيون ، وأن البيت العربي ماعاد به سوى أصنام لا تسمن ولا تعني من جوع ، كأنهم خُشب مسندة تقطن قصورمشيدة

 البيتُ الآن بلا رقصٍ
والوقتُ
لإله واحدٍ
ينطقُ بالحكمةِ في السوقِ
والأرباب سلاطينٌ

تحكمُ قبضتها
والفأسُ
لا تجدُ الحالمَ بالشمسِ
كي يحملها
ويغرزها في أعناقِ السفهاءِ
النارُ ما زالتْ مشتعلةً
لا كانت بردًا

 ويجدربنا الإشارة إلى استخدام الشاعر لكلمة الإلهوكلمة الآرباب وكيفية توظيفهما ومدي توافقهما مع السياقات المتعددة داخل النص ، فأما عن مدلول الإله واحدقد وظفها الشاعر إشارة إلى قوى الغرب المسيطرة على هؤلاء السلاطين العرب  الآرباب ، وقد عكس الشاعر الدلالة المكانية التى يراد بها البيت الحرام وجعل هذه الدلالة المكانية مجازا عن بيت العرب المسلمين . تلك البيت الذي أحاله هؤلاء الولاة والسلاطين الى إضحوكة العالم ، متخذا قولا مأثور قد أقتبس دلالته المعنوية ( إذا كان ربُ البيت بالدف ضربا فشيمت آهل البيت الرقصُ ) يعكس الشاعر به حقيقة إنصياع ملوك الحرمين الشريفين لليهود والأمريكان ، وأن تبعيتهم لليهود والغرب قد حصنت

 عروشهم ، وهم ما إلا أتباع كما الأصنام لإعداء الإسلام والعروبة  ومن جهة آخرى هم أصنام تعبد من الشعوب العربية . وإنهم لا يملكون نفعا لشعوبهم بل يملكون الضرر حد القهر والجوع والاستعباد .ويسألوهم الصبر على مصابهم . فجاءت مخرجات الدلالة من معنوية التناص الذى أقام الشاعر بنيان قصيدته عليه ، إن هؤلاء الآرباب سفهاء ويجب أن يدق عنقهم بالفآس .

وبما أن الشاعر قد تناص معنويا من قصة إبراهيم الخليل تسلسلا ، فما كان له أن يجنب قضية الفداء الذي جعله الله آية لنبي الله إسماعيل وأيضا برؤية خلت منها معجزة الرب . كتب عبد المحسن قائلا :

ولا هي سلامٌ
فأيناكَ يا (إسماعيل )؟!
فسكينُ الذبحِ
تُمرِرها الأربابُ على رقابنا
ولا أحد يفدينا
فنحلم ُ بالفردوس المعلومِ
ولكنَ ..
كُلنا على أنفسنا كاذبونِ

 يقول الله تعالى في محكم التنزيل عن قصة اسماعيل عليه السلام{ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَىٰ ۚ قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ ۖ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ -102 }  (1)*
يتخذ الشاعر فداء نبي الله إسماعيل تناصا مآساويا ، وكذلك صنع مضارعة ومحاكاة الأبن الذبيح والمفدى من رب العلمين وبين ذبح الشعوب المستعبدة من آرباب السلطان والولاة ، وأنه قد وجد من ينجيه برحمته

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1-
الآية رقم – 102 من سورة الصافات 

 وبين الذين يذبحون كل لحظة في أوطانهم بأمر السلطان وولاة الآمر المسلطون على رقاب الناس ، فهناك فرق بين الذبيح إبتلاء لخليل الله إبراهيم وبين الإبتلاء بفعل آرباب الشيطان .مما يثبت مدى عجز الناس عن رد الظلم عن أنفسهم وعجزهم عن عتق رقابهم من سيف السلطان ،

وأبلغ ما سعى إليه الشاعر هو الوهم الذي يحلموا به بحياة أفضل وكذلك الأمل في الخلاص من ألهة الحكم أو أنهم يرجون جنة الفردوس في الآخرة وفي كلتا الحالاتين هم على أنفسهم يكذبون . ظنهم بأن ما يفعلوه بهم السلطان قضاء وقدر .

وهذا ما كذبه الشاعر بما سعى لإثباته .فلا عبودية إلا لله ولا أرباب هناك ولا طاعة لهؤلاء وان صبرهم غير محمود ، وأن عليهم الخلاص وأن يغيروا ما بأنفسهم حتى يغير الله ما قدره عليهم الفرعون.

قصة بني الله موسى عليه السلام

 ونلاحظ أن التناص الديني ومظاهره سواء كانت دلالية أو كانت مجازية المعنى من أحدث ومعجزات نبي الله موسى التي سحبها الشاعر على واقع حال الأمة العربية، وما يحدث للإنسان العربي من مهانة وإذلال , وأن العلاقة اللصيقة بين فرعون وموسي ليست مناط القصد الأوحد في الغرض من إقتباس وتضمين الشاعر ولا التعويل على الخير والشر ،أو الإيمان والكفر هنا .بل يتبين لنا من المقاصد والمضامين التي أحتملتها النصوص التي سنعرضها لاحقا أن عصام عبد المحسن حاول تقديم معالجة مغايرة محفوفة بفلسفة جانبها الإحكام في بعض النصوص وأخرى تكرارية الدلالة ولم يآت بشئ جديد لم يسبقه أحدا إليه . كما أن قصة موسي مع الفرعون هي القالب الذي أقام عليه الشاعر رؤيته بين فرعون ونبي الله موسي وكذلك ضلال بني إسرائيل رغم المعجزات التسع التى أُرسل بها موسي عليه السلام إلى فرعون . وأن الغرض الثاني هو استظهار إستضعاف الشعوب العربية ليس بفعل الفرعون فحسب بل كان جهلهم وخنوعهم قاسم مشترك قد إستخفهم الحاكم من خلاله ونصب نفسه الحاكم بأمره ومالكه وله الحق في التكيل بهم

 وقتما شاء وكيفما شاء ,

كتب عبد المحسن قصيدة ”  طُقوسُ الرَّغبةِ مُعلَّقةٌ عَلى الجُدران(1)*
من ديوان (روحي حائط مبكاكم أنا البشير ) يستعرض الشاعر تناصه الديني مع رؤيته الدلالية التي أسبغها على حقيقة الواقع العربي وكذلك تعرية ثقافة القطيع في الطاعة العمياء للولاة والسلاطين العرب .

إذ يقول :

 مَاسحُ الأَحذيةِ

لَمْ يَكنْ سَاحرًا

حِينمَا أَعادَ لي

حِذائِيَ المُتسخَ

بِسُعالِ الشِّتاءِ

يَلمعُ كَنَجمةٍ

ظَلَّتْ مُحتَبسةً

خَلفَ الغَيماتِ

والليلُ عَالقٌ

 …………………………………………………………………………………………

1- قصيدة طقوس الرغبة معلقة على الجدران من ديوان روحي حائط مبكاكم أنا البشير 

 يستعرض الشاعر لوحة تمثلية آخرى لحال طفل يعمل ماسح للأحذية ، يتخذه إنموذجا لمآساة لأطفال العرب كما يزيد عبد المحسن من آلم هؤلاء الأطفال الأبرياء لأجل قوت عيشهم أو كفالة ذويهم ,ذاك الطفل الذي نال منه برد الشتاء ما ناله ،

فقد جدل الشاعر بحرفية حالة الطفل الذي يسعل من البرد وأنه ماهر وبارع في
عمله من كثرة ممارسته الطويلة لها فيطرح سؤال كم مر من عمر هذا الطفل وهو يعاني كل هذا العناء لأجل بعض جنيهات يقتات بها ويسد بها رمقه . وأن مدلول النجمة التي نوه عنها الشاعر ما كانت إلا بريق الحذاء الذي سطعت منه النجمة التي اسقطها الشاعر على مآساة هذا الطفل العليل .”

وأن الإسقاط الثاني هو مدى أسف الشاعر على حال هذا الطفل ومن مثله ، فقد استخدم الشاعر لفظة الغيمات دلالة لإنعدام المستقبل لمثل هؤلاء فلا آمل يراه الشاعر ولا مستقبل يرجوه هذا الطفل , وقد زاد الدلالة بلاغة بإستمرارية الليل الحالك العالق فوق مستقبله القادم . وكذلك يشير من بعيد تنويها للتناص عن سحرة فرعون كناية عن الحكومات والموالين لها ، وأن ما يصدرونه الحكام العرب لشعوبيهم بأنه في أفضل حال وأن الإنجازات مستمرة والبلاد تحيا حياة الآمن والرخاء والكل تظلهم كفالة الحاكم وكرمه الذي ليس له مثيل

 لَمْ يُلْقِ

بِفُرشاتِهِ

كَعصَا (مُوسىَ)

لِيَلتهمَ بِهَا

نَظراتِ حَيَّاتِ الاهتراءِ

وحَولي

 تَتلوَّىَ

يبدو تناص الشاعرهنا  قائم على الآمل المفقود في إحداث التغير الذي بات الناس بحاجة ماسة  لمعجزة  مثل عصا نبي الله موسى أمام هؤلاء الفراعنة الحاكمين .

وأن الإشارة التي يجدر الإلتفات إليها مدى سخط هذا الطفل البرئ على مجتمعه ، فيوكل الشاعر المعجزة إلى فرشاة الطفل ماسح الأحذية فتكون كالحية التي إلتهمت الباطل الذي خيله سحرة فرعون فسحروا أعين الناس . وأن التناص الذي تضمنه الشاعر معنويا قد ورد في سورة الآعراف و طه إذ يقول الله تعالى { قَالَ أَلْقُوا ۖ فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ 116 } (1) *

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ1- الآية رقم 116 من سورة الأعراف 

 ويقول الله تعالى في سحرة فرعون { قَالَ بَلْ أَلْقُوا ۖ فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَىٰ– 66 }  (1) * فكم هذا المسكين يحتاح للمعجزة كي يفقئ أعين هؤلاء الحاكم ومن في حكمهم , ومن زاوية آخرى ينقل لنا الشاعر رؤيته بمزيد من السخط على كل من يزدري هذا الطفل إستعلائا وكبر هو أبعد ما يجول بخاطره ، وأن كل ما يرجوه أن يحظى ببضع جنيهات لا تغني من جوع ولا يملك دونها سبيل . يكمل الشاعر المآساة من فوق الرصيف تارة بعين ماسح الأحذية وتارة آخرى برؤيته وقد أقحم نفسه في قلب الحدث وقد وظف نفسه مراسلا يوثق واقع الطفولة المحطمة في مصر
وكثيرا من الدول العربية والإسلامية .
يلقي الشاعر برؤيته من بعد ما نقل لنا صور توثقية ليست بالفريدة ،بل آتي بها على غير الصور الإعتيادية التكرارية ، إلا أنه قد مزج سخطه ببراءة لا ذنب له إلا أنه وليد الآمة العربية تطبق الدين شكلا لا موضوعا
وإن كان جل ما سعى إلى توثيقه الشاعر ليس فريد المعالجة ، إلا أنه آراد أن يقدم لنا طفولة تقتات على براءاتها ، لم تنجيهم هذه الأخيرة من سخط مجتمع فاسد العقيدة زائف الإنسانية .وقد نوه عصام عبد المحسن عن تلكما الطبقة التي استحوذت على ثروات ومقدرات هذه الأوطان قاتلة القيم الدينية السمحة والإنسانية الفطرية يعكس الشاعر ماهيتهم من خلال أحذيتهم الجديدة البراقة ، قد مثلها على أنها أيقونة السحر آي

 أنه ثوب من أثواب الباطل الذي ألقى بظلاله على كل شئ ذا قيمة آوجل القيم السامية يتبين للقارئ هذا الباطل سحرا من منتصف القصيدة وخاتمتها ،

إذ يقول :

 الأَحذيةُ الجَديدةُ

ظَلَّ يُتمتمُ

أَمامي

السِّحرُ حَولنَا

والحَقائِقُ

كُلُّها مُبهَمةٌ

فَلْتَبحثْ دَاخلَكَ

عَنْ تَبادُلِ الأَوراقِ

 وأن الحقائق التي يشير إليها الشاعر ما هي إلا العقيدة الحق ،العدل ، الأخلاق تلك القيم التي تكاد تكون في حكم العدم آو بالأحرى حل محلها الباطل والفساد والعهر بأسمى معانيه ، وكأن الحقائق قد طمست في زمننا وتبدلت أوراق الحقيقة بيد هؤلاء الذين يمارسون السحر أو سحرة الحاكم قد آرادها إشارة معنوية ومجازية على سياق التناص المعنوي من حقيقة سحرة فرعون . يستقر قصد الشاعر بعد ما أحكم قدر

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1-
الآية رقم 66 من سورة طه 

 استطاعته المضامين المضمرة بين ثنايا الكلمات ، كذلك يختم الشاعر قصيدته على أن كل الآمل الباقي أو الرجاء المآمول هو الجنة أو العوض من المولى عز وجل ، إلا أن الخاتمة لم تحمل من الإشباع ما يشفي غليل القارئ ، بل نرى أن الشاعر ما جاء إلا بما يآجج الصدر على مأساة أطفال الطبقة المعدمة وأن لا آمل لهم في غدا أفضل ولا نجاة من ظلمة أيامهم القادمه .

فتبدو القصيدة بجملها قائمة على الطبقية الإجتماعية ، وبرغم أنها ولدت من رؤية الشاعر مسببة ، إلا أن مستقبل الطفولة لمثل هؤلاء بات محكوما عليه بالموت حيا .وأن هذا التناص المعنوي ليس بكافٍ كي يكون حجة بليغة يحتج بها الشاعر على من جاروا على براءة طفل قد نال منه ظلم الساسة العرب في ظل أمة عربية إسلامية .

 ثالثا : التراث الديني

 كان للتراث الديني نصيب كبير في شعر عصام عبد المحسن وكما آسلفنا آنفا فيما يتعلق بالنصوص القرآنية المستوحاه من القرآن الكريم كثيرة الإيحاءات وأيضا الحجاج المتعددة إضافة إلى بلاغة اللفظ في تحقيق المعنى المنشود من خلال مظاهرالتناص الديني بشقيه اللفظي والمعنوي ،ويرجع ذلك إلى آمرين ،

فأما الأمر الأول ، فيتمثل في توجه ذات الشاعر إلى القضية العقيدة الإسلامية وقناعة الشاعر اليقينية بأن الخلاص ونجاة الآمة العربية الإسلامية لن يتحقق إلا بالرجوع إلي تطبيق المنهج الإسلامي شرعة ومنهاجا بما يتفق وصحيح الدين ، لا شرعة ومنهج شيوخ السلطان ولا شرعة ومنهج المتآسلمون على كافة طوائفهم .
وأما عن الآمر الثاني ، هو إيمان عبد المحسن الفكري بأن التضمين والإقتباس من القرآن والسنة وكذلك التراث الديني والتاريخي هم بمثابة نهل جليل العظم ومادة بالغة الثراء ينهل منها الشاعر وفقا لرؤيته ومقاصدة الشعرية ، كي يتسنى له أن يكون له مؤطى قدم بين صفوف الشعراء الذين كان لهم أثر كبير في قضية التنوير كمنهج تثقيفي من جهة

 وقضية قومية يحملها الشاعر كرسالة فكر وتشكيل وجدان المواطن العربي ، أراد الشاعر تأصيلها وتأسييس أركانها على المنهج الديني بشتى صوره قرآنية كانت آو تراثية .
وأنه لا يخفى على آحد أن هذا التوجه العام لكثير من الشعراء للتناص القرآني والتراثي وحتى التاريخي كان القاسم المشترك الآعظم فيه هو أن القرأن أبلغ من أحكم التصور الفني والدلالى في عموم نصوصه وآياته العظيمة ، وحيث أن غرض الشاعر إتخاذ وتوظيف التناص الديني وقولبت المقاصد والمضامين ما إلا أُطر يأطر بها الشاعر أفكاره ومشاعره بإطار له في النفس جليل التعظيم والقداسة .فيجعل النقاد ينظرون بنظرة مغايرة ويعايرون بمعايير تتناسب مع ما تضمنه القصد وما أحتمله المضمون الفكري لرؤية آفق الشاعر .
وحيث أن الإتكاء على التراث الدينى في شعر عصام عبد المحسن قد أفاد وكان له آثر كبير في تعظيم الدلالات البيانية من حيث ثوثيق الصورة الشعرية سواء كانت تقريرة ، تمثلية ، خبرية وغيرها ، قد أكدها التراث والتاريخ الديني من جهة ،

أو كانت مجازية يراد بها أبعاد هي في الأصل له موطن في نفس القارئ وكونها معلومة لدى العامة من الناس مسلمين كانوا أو كتابين .

وأما الجهة الآخرى يسهل فهم وإستعاب القارئأو المتلقي للنص ونجد سرعان من يصل المضمون والقصد إلى ذهنه حال احتمل النص شئ مما تناص منه الشاعر.وإن كانت الدلالة المكانية وعلاقتها بالقصص القرآني والتراثي سمة يرتد إليها خيال الشاعر حين يربط الخيال والمكان بالواقع المعاصر ، مثلا لذلك قصة فرعون موسى فهي حدثت في مصر، وقصة نبي الله يوسف أيضا دلالة تاكيدية عن مراد الشاعر من الدلالة المكانية وربطها بالدلالة الزمنية الحاضرة.

والتراث الديني والقصصي يبدو جليا في قصيدته بَقايَا المَائدةِ القَديمةِ (1) *ديوان (من بقايا خريفي نجماتكم) حيث آتى الشاعر بالإنقسام العربي وتشظى الأمة العربية ومدى التفكك الذي زلزل أركانها وأضحت في أخر الصف ، يرجي الشاعر هذا التشظي والإنقسام للفتنة من بني صهيون لصناعة الفرقة والشقاق ، ومن هنا يأخذنا الشاعر الي قصة نبي الله عيسى مع المائدة والعشاء الآخير مشبها خيانته والفتنة التى نالت من الآمة العربية ، متخذا من قصة العشاء الآخير مضارعة لحال جامعة الدول العربية ، وأن يهوذا مازال حيا

 يعلمهم الخيانة ويدرسهم كيف يمزق بعضهم بعضا . وأن هذه الفتنة قد استيقنها الشاعر وقد عالجها محاكاة للواقع المخجل الذى بات الامة العربية عليه بفعل فساد عقيدة ولاة صنعتهم براثن الصهاينة.

يقول الشاعر في قصيدته بقايا المائدة القديمة

 طَرقتُ أَبوابَ جِيرانِي

لأقترضَ رَغيفًا

وشَربةَ مَاءٍ

وبَعضَ المِلحِ

وسَألتُ الرَّبَّ

عَنْ بَقايَا المَائدةِ القَديمةِ

لأُبرهنَ لَهمْ

أَننَّا الآَنَ..

بُرهانٌ حَقٌّ

لِجذورِ الأَولينْ

  قسم الشاعر الأمة العربية تقسما واقعيا لا مجازيا ، آي ما بين فقير فقر مدقع وبين ثري ثراء باذخ مشيرا إلى أثرياء الدول العربية كما دول الخليج النفطية ،كذلك لم يآتي الشاعر بقصة بني إسرائيل وسؤالهم نبي الله عيسى أن يطلب من ربه أن ينزل عليهم مائدة من السماء حتي يؤمنوا له فحسب بل كي يدمغ عليهم أنهم رؤوس الفتنة .

 وقد قال الله تعالى في قرآنه الكريم في سورة المائدة إذ قال الله تعالى { إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِّنَ السَّمَاءِ ۖ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ -112} (2) *

يتناص الشاعر قصة المائدة من القرآن معولا على طبيعة اليهود وكم هم آهل شقاق وفتنة حتى لرسل الله وآنبيائه فكأنه يدق نقوس في ذاكرة القارئ يذكر به من هم بني صهيون إذا كان اليهود منهم قتلوا كذبواكل رسول ونبي جائهم من عند الله وهم أهل كتاب ، فكيف هم اللذين يعبثون بالأمة العربية والأسلامية قاطبة ،عامدا إلى برهانين

فأما البرهان الأول قد جاء به معنويا أو بالأحرى مجازي ،

وأما البرهان الثاني تراثي لا يجهله أحد وهو العشاء الأخير الذي قيل فيه أن يهوذا هو من وشى بالمسيح عليه السلام . وأن هذه الوشاية مازالت قائمة وقد تحول كل حكام العرب إلى يهوذا يوشى كل من هما بالأخر. وكل ما تبدل في أبطال المائدة القديمة المسميات إلا أن الزمن في منظور الشاعر لم يتغير وكأن الزمن لم يمر ،

لهذا سحب الشاعر فتنة المائدة القديمة على جامعة  الدول العربية . يتماها الشاعر في المجتزء الآتي  من القصيدة التى هي لوحة جديدة ومعاصرة للعشاء الأخير التي رسمها  الفنان الشهير ليوناردو دافنشي (1)* تمثيلا  للحدث الديني والتراثي حتى يرسخ مقاصده بكافة الدلائل والبراهين ورؤيته التي يصدرها للقارئ على قالب ديني لفظي وظفه على السياق المعنوي والتراثي الوثائقي عن قضية الفتنة والصلب المزعومة والتي قال فيها الله عزوجل وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَٰكِن شُبِّهَ لَهُمْ ۚ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ ۚ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ ۚ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا – 157} (2)* .

 جِئتُ بِالحَقِّ عَلى جَارِي

لَمَّا أَوشَى بِي عِنْدهمْ

 وقَايضَهمْ عَليَّ

فأَوقفَ الحَربَ عِنْدَهُ

وحَرَّقَ

كُلَّ دَارِي

بِقدَّاحةِ سَجائرِ مُستوردةْ

 استجلب الشاعر فتنة المائدة القديمة كما اسلفنا آنفا ، كي يستظهر ويجسد ذاك الشيطان الصهيوني الذي اتخذ الشاعر يهوذا كناية عن الصهاينة ورمز لرأس الفتنة ، وأن الفرقة التي دبت بين الأمة العربية ما كانت إلا من فرط إنصياع وخنوع ولاة وسلاطين الحكام العرب . ويلاحظ قناعات الشاعر السياسية وأفكاره التنورية التي يطرحها من خلال نصوصه ، وكون أن الفتنة قديمة قدم التاريخ والغواية المتجذرة في النفوس المهزوزة من سادة الحكم .

وما كانت دلالة التناص الذي استند إليه الشاعر في قصة العشاء الأخير إلا استعراض وتكرار للتراث إعتمده الشاعر كونه جمع الديانتين المسيحية والإسلامية بأن اليهود لا عهد لهم وأنهم اتخذوا أهواء الحكام سبيلا كي ينخروا ويزلزلوا أركان الأمة العربية عامة والإسلامية خاصة .
وإن كل هذه الفتن والحروب أشعلتها بقداحة سجائر مستوردة “. كانت إشارة ومفتاح القصيدة بعينه ، وإن الفتنة قد نالت من أمة العرب ومزقتها . ويرى من مراد القصد أن يستفيق كل عربي وينتبه للقادم ليس

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1- لوحة العشاء الأخير للرسام الشهير ليوناردوا دافنشي
2-
الآية 157 من سورة النساء 

 للماضي المعلوم للعامة قبل الخاصة ، إنما انتبهوا للقادم فالقضية لم تنتهي بعد وأن هؤلاء القائمين على رقاب العباد والشعوب هم أذناب شر إتخذهم يهوذا دومى يلهو بهم وهم يسحقون الأمة العربية بنيران صهيونية .وأن كان ما نوه عنه عصام عبد المحسن قد جاد الشعراء بما هو أبلغ وأكثر إحكاما إلا أن عصام عبد المحسن فضَّل اللوحة الأسطورية العشاء الأخير وقصة المائدة وقد مزج بينهما مزج فني النسج ديني القالب فآتى بكلتا القضيتن كي يبرز قدرته الشعرية أو بالأحرى أن يضع ذاته الشعرية مع زمرة من أتخذوا المنهج الديني سبيلا في بلوغ القصد بما له من عظيم القدر في نفس القارئ العربي وكذلك سهولة التأويل للمضامين.

 كُلُّ الحُروفِ التي

شَكَّلتْ عَالمِي هَذَا

نَصيبِي

******

وكُلُّ مَا فَعلتَهُ

مَجازٌ مُرسلٌ

والمَجازُ الصَّريحُ

أَنني فَقدتُ إخوتِي.

 الدلالة التقريرية والتصريحية التي استخدمها الشاعر بأن الأمة العربية قد مزهقها الصهاينة والإمريكان بات واقع لا يجحده جاحد ، وقد تنبه عبد المحسن إلى أن المجاز لن يجدي نفع في قضية قد فصل فيها الزمن وقال فيها الواقع قولة حق ،

 فكان التصريح أبلغ وأكثر واقعية مما أفاد القصد ، وكذلك يحمد للشاعر تمكنه في ختم القصد مسحوبا على واقع الحال المخزي للأمة العربية .
لقد عالج الشاعر الفتنة الذي أحدثها الصهاينة ومزقوا بها الدول العربية وأشعلوا فيها الحروب في القصيدة السابقة صانعا تمازجا يراد به إضفاء رونقا يميز به مراده تناصا تراثيا وقرآنيا ، وكذلك لم تكن الفتنة المعاصرة نالت من ولاة الحكم العربي بل كانت هناك فتنة آخرى  أصابت الولاة والخلفاء من زمن الخلافة الإسلامية ،

وإن كان التعويل على التاريخ الإسلامي والتراث مادة ثرية تناص منها الشاعر إقتباسا وتضمينا . وإن كانت قناعة الشاعر السياسية أن الولاية والحكم مسألة فتنة قد أصاب شرها أهل البيت ، إضافة إلى نظرية استباب الحكم بالتجويع المقنن ، ويعمد عبد المحسن لبعد أكثر عمقا في نظم الولاية والحكم في تاريخ الدولة الإسلامية وتوريثها بحق وبدون حق فكلتا الحالتين ينتهيا إلى تعظيم الولى حد التآليه فجاء لنا بقصيدة سأَهمسُ في أُذنِ الرَّبِّ من ديوان (روحي حائط مبكاكم أنا البشير ) إنعكاس وإعادة للتاريخ وتوثيق للفتنة التي أعشبت وتجذرت في نفوس نظم السيادة في الوطن العربي والخلافة الإسلامية منذ فجر التاريخ الإسلامي

كتب عصام عبد المحسن

قصيدة سأهمس في آذن الرب –  من ديوان روحي حائط مبكاكم أنا البشير

 سَأهمسُ (1)*

في أُذنِ الرَّبِّ

أَنَّ الفِتيةَ

مَا عَادتْ تُؤمنُ بِهِ

كمَا كَانَ (عَليُّ)

 فـ  (يَزيدُ )

كُلَّ سَاعةٍ يَظهرُ

عَلى صَفحاتِ الإنترنتِ

يَدعونَا للردِّةِ

يَقبضُ

عَلى عُقولِنا بِقُوةٍ

يُجرجرُنا خَلفَهُ

لِنَرىَ

إِنْ كُنتَ حَقًّا

تَجلسُ هُناكَ

وأَنَّ  نِهايةَ هَذا الكَونِ

تَحتَ أَقدامِ عَرشِكَ

 يلاحظ إستحضار الشاعر لسلسة شخصيات دينية وتراثية كما آوردنا في توظيفه في قصة نبي الله موسى وفرعون وأيضا قصة نبي الله عيسى مع بني إسرائيل وخيانتهم للأنبياء والرسل على عموم تاريخهم كما خبرنا القرآن ورسوله الكريم ، وحيث أن الغرض الرئيس من تنوع التضمين والإقتباس الديني والتاريخي  تناصا كي يثبت كيفية الإستبداد بالحكم كما قصة فرعون والفتنة والغدر كما في قصة الوشاية التى اسقطها الشاعر على حال الأمة العربية والإسلامية معا . وعلى ذلك كان استجلاب عبد المحسن للرموز والشخصيات التراثية والتاريخية كما استعرضنا مجتزء من قصيدة سأهمس في آذن الرب وقد تناول

 فيها الشاعر قصة الإمام على والحسن والحسين رضوان الله عليهم وتجبر يزيد بن معاوية في الوصول إلى الولاة عنوة بعد أن شقت الفتنة صفوف الخلافة الإسلامية ، وقد أُختير هذا الحدث وهذه الماسآة الملحمية لغرض سحبها على الواقع المعاصر لطرق الوصول إلى الحكم والسلطة حتي على حساب دماء المسلمين
وأما الشق الأكثر تناصا في معنويته فيكمن في فتنة الحكم ومجابهة صنوف الإستبداد لدى الشاعر وفق مفاهيمه وقناعته الشخصية ورؤيته الشعرية

 وأَنَّ المَلائكةَ مُصطفونَ عِندَكَ

نِصفٌ يَسجدُ لَكَ

ونِصفٌ يُسبحُ بِاسمِكَ

سأَهمسُ في أُذنِ الرَّبِّ

أَنَّ مَعاركَ اليومِ

لاتَحتاجُ

أَنْ تُسفكَ فِيهَا الدِّماءُ

فقَتلُ (الحُسينِ) و(الحَسنِ) مِنَّا

يَستلزمُ

أَنْ يَعتليَ مُخادعٌ

شَاشاتِ التِّلفازِ

فيُكفرِّنا جَميعًا

لأنَّنا

 لا نَذكرُ اسمَ الوَالي

قَبلَ الشُربِ

وقَبلَ الأَكلِ

ونذكرُهُ

عِندَ دُخولِ الخَلاءِ.

 يتخذ عصام عبد المحسن من شخصية يزيد بن معاوية رمزا لكل ولاة الحكم المستبدون في تاريخ الأمة الاسلامية والعربية ماضيها وحاضرها المؤسف ، وهنا يبدو أن التناص المعمود إليه قائم على الرواة والمؤرخون للتاريخ الإسلامي . وكذلك حرفية الشاعر في صناعة المقابلة والتضاد للشخصيات التراثية تارة على حقيقتها بغية حفظ المادة التراثية والتوثيق التاريخي ، وتارة آخرى تنبيه غير مباشر للشخصيات المعاكسة للقصة آي الإيجاب والسلب للرمز التي استعان به الشاعر ومثالا لهذا التضاد حين يأتي ذكر أبو الأنبياء إبراهيم يستحضر القارئ قصة النمرود، وأيضا حين يذكر نبي الله موسى يستحضر الذهن فرعون
كما فعل الشاعر في إستحضار معارك كانت الفتنة القاسم المشترك الأعظم فيها مثل معركة صفين (1)*
والحادثة المؤلمة كربلاء التي أدمت القلوب وقطع فيها رآس الحسين رضوان الله عليه ، بذلك يحقق الشاعر رؤيته ما بين الحق والباطل متمثلا في تلك الرموز المقدسة والدينية والرمز التى تمثل رأس الباطل وفساد الحياة الإجتماعية .

إن حقيق تجربة الشاعر تدور وجودا وعدما بين الخير والشر ورسالة تندرج بشكل أو بآخر تحت رأية القيم وأن على الشعوب أن تنهض من خنوعها وتكفر بكل جبارا أثيم من ولاة بني صيهيون ومن السلاطين اللذين أضاعوا الأمة ومحو تاريخ الحضارة الإسلامية من أجل أن يبقوا على عروشيهم فلا كان لهم الدين سبيل وما كانت لهم الإنسانية رجاء .ونري وقد أفرغ الشاعر متخذا أدوات العصر الحديث مثل التلفاز والانترنت .. وغيرهم مع

 الحفاظ على البناء التأسيسي للنص والتناص الذي عوَّل عليه مستعرضا على درب الخبر ما على الشعوب أن تفعل وتقول كي يرضى عنها يزيد الألفية الثانية حتى يتحقق لهم النجاة والبقاء يقتاتون فتات يزيد ويسبحون بحمده . وبناء على ما تقدم في النصين السابقين وقد تناولنا خلالهما توظيف الشخصيات الرمزية من خلال التراث الديني مع تحليل المجتزء من القصيدتين كي نقف على كيفية استخدام عبد المحسن للتناص القرأني اللفظى منه والمعنوي وكذلك التناص التراثي وسحبه على الواقع الحالي مع تأصيل مادته التاريخية من حيث الشخصيات ومدى إصابة المراد الشمولى للتناول الفني والمعياري للقصص وأحداث ما كان لها أن تحدث إلا من خلال فتنة الملك والسعى بكل السبل للاستبداد لطريقا للبقاء على العروش تارة باستخدام الدين وتارة باستخدام التجهيل وتارة أخرى بالسيف والسوط .
ونخلص في نهاية هذا الجزء من الدراسة النقدية والتحليلية لشعر عصام عبد المحسن الي عدة نقاط تالية:
يصنف عصام عبد المحسن بأنه شاعر يحمل رسالة تنورية تثقفية ذات طابع ديني استطاع أن يعبر عنها من خلال التناص بنوعيه لفظي ومعنوي ومزجهما بأفكاره وثقافته ورؤيته الشعرية ،كي يستطيع النفاد إلى عقل ومدارك المتلقي مستيقنا أن هذا الأخير يسهل عليه تأويل المضامين والدلالات التي تضمنها الشاعر في بناء قصيدته ،

ويرجع ذلك لسببين أصليين وهما :
*
ان القارئ يمتلك نصف تأويل القصيدة كون قالبها وقوامها إما قرأنيإمتص الشاعر بعض آياته وأصَّل به دلالاته وأصبغ به رؤيته ، وبمجرد أن يستعرض الشاعر شطر من القصيدة سرعان ما يثير ذهن المتلقي بكافة صوره يتضح مراده و يبدو المحبب لديه وأن مقصده يكاد يكون معلوم الغرض منه .
*
أما عن السبب الثاني . فهو قدسية ما تناص منه وما له في نفس القارئ من منزلة يستطيع الشاعر أن ينال قدرا من الرقي والأهمية لدي المتلقي ، وقد إكتسى هذا الرقي والأهمية من الوهلة الأولى من قدسية وأهمية النص القرآني أو التناص الديني في كل أشكاله وجل صنوفه .
*
وعليه فإن عصام عبد المحسن آراد أن يعمل عمل من سبق من الشعراء والأدباء ، ولقد وجدنا الكثير من الشعراء قد تضمنوا من القصص القرآني والسيرة النبوية والتراث الديني ما

 جعلهم أكثر تآثيرا على ثقافة القارئ وكذا تغيرالبعض المفاهيم المغلوطة أو المطموسه من زمن بعيد .

ويجدربنا القول بأن الشاعر عصام عبد المحسن استطاع أن يوجد له موطئ قدم بين صفوة الأدباء والشعراء في دعم رسالته الثقافية بالوازع الديني واستخدامه الاستخدام الجيد في بلوغ القصد ويسر التأويل ،

بالإضافة إلى إبراز موهبته في التمازج الفلسفي مع العقيدة و الخروج برؤية شعرية قائمة على طرح سبل النجاة وطرق الخلاص من الطواغيت العربية وكذلك الإحتجاج بما لا يقبل الدحض من خلال آيات الذكر الحكيم مع التضمين الحسي والمعنوي للقصص القرآني مع الفصل بين دين الله الحق وبين دين إبتدعه هؤلاء الطواغيت وما أنزل الله به من سلطان ،

وأن علي الشعوب أن تعلم وأن تتيقن أن لسان الشاعر الذي يستعين بما أنزله الله عز وجل هو لسان صدق لا مراد له إلا رفع الظلم وإحقاق الحق واسترجاع القيم حتي تستطيع شعوب الأمة العربية الخروج من حالة اللا حياة واللا موت ،

كذلك يطرح فكرة التنوير قد تكون أنجع في مداواة جراح الأمة العربية والإسلامية .

 

 

 

 

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!