فضاءات المجتمع القصصي في مجموعة “أغدا ألقاك” للقاصة عنان محروس/ يقلا الشاعر والناقد عبد الرحيم جداية

 

 

 

فضاءات المجتمع القصصي في مجموعة “أغدا ألقاك”

للقاصة عنان محروس

(قدمت هذه القراءة في حفل توقيع مجموعة أغدا ألقاك في الجمعية العربية للفكر والثقافة بتاريخ 26/10/2017م)

بقلم: الشاعر والناقد عبدالرحيم جداية

 

تطل علينا عنان محروس في مجموعتها بموروثنا الغنائي، والشعري في مجموعتها القصصية “أغدا ألقاك”، مثيرة في المتلقي حالة شعورية عاشها ذات يوم، فهل تعمل عنان محروس على استرجاع اللحظة الجمالية التي عاشها المتلقي؟

هذا الاسترجاع يبرز جليا في العنوان الذي غنته أم كلثوم من كلمات الهادي آدم الشاعر السوداني الكبير، الذي قدم للأغنية والشعرالعربي الكثير، كما تثير فينا ثورة الشك التي غنتها أم كلثوم من كلمات الأمير عبدالله بن الفيصل، وترجعنا إلى لقاء العملاقين أم كلثوم وعبدالوهاب في قصيدة أنت عمري حين كانت الأغنية العربية تبث عبر الإذاعات، ويجتمع المحبون، والعشاق، وأصحاب الذوق الرفيع لاسترطاب أذهانهم بصوت أم كلثوم كوكب الشرق الملائكي، الذي شكل قيمة في القصيدة والغناء العربي.

أغدا ألقاك، لماذا يا عنان محروس؟ أليس غدا لناظره قريب؟، لكنها تثير فينا جذوة الغد الذي قد توقده من رماد، وتعيده إلى رماد، وربما نحن من نعود، ونثور كما الفينيق كلما تناهت إلى أسماعنا أغدا ألقاك، حيث النافذة حاضرة في مجموعتها القصصية، مشكلة مدخلا إلى الفضاء المجتمعي في قصة “أغدا ألقاك” التي تستهلها بقولها: فتحت النافذة.. الهواء ربيعي منعش، يكلله المساء بعبق السكون.. السماء صافية تختال فيها النجوم كأحجية في محراب ناسك”.

تؤشر في هذه الإفتتاحية إلى فضاء روائي، أو حكائي، أو قصصي عشناه ونحن ننتظر الغد، في فضاء يتحرك فيه الوقت، والأجرام السماوية، والهواء، وتطل على هذا الفضاء الواسع من كوّة في جدار، لكنّ التي فتحت النافذة مجردة الملامح، تختفي خلف زجاج وستارة، وربما عاشقة تنتظر الغد، وربما فاقدة تحاول أن تنسى الأمس، فالصمت والصوت محركان للفضاء، يشغلان به الزمن في مكان مفتوح كأنه صندوق العجائب.

فالفضاء عند عنان محروس، ليس كما يصفه النقاد، ذلك بأنّه البعد الإقليدي، أو حركة الشخوص في الزمان، والمكان بعيدا عن دلالتها الاجتماعية، إذ تقدم عنان محروس في قصتها أغدا ألقاك دلالة اجتماعية ناتجة عن لحظة توتر نفسي، وهذا ما تؤكده بقولها: “فتخيل كم لحنا سمعت خلال عامين.. وكم من مرة زُففتُ إليك”، لتبدأ بتجسيد الحالة النفسية العاطفية الوجدانية بين شخصين لم تتبلور لهما صورة محددة فتقول: “هو أيضا يشتاقها وأكثر”، لتعيد المتلقي إلى أم كلثوم من جديد حيث غنّت “ومن الشوق  رسول بيننا، ونديم قدم الكأس لنا.. هل رأى الحب سكارى مثلنا”، لنقف مع عنان محروس على أطلال إبراهيم ناجي، كما حلقت بنا، وأخذتنا مع أغنية أغدا ألقاك، لتجمعنا بشاعرين وصوت واحد، وحالة نفسية متهدلة، منكسرة، حكما ردّ عليها: “سآتي غدا.. انتظريني.. لم أعد أطيق الصبر أكثر.. لن تعيقني الحدود المغلقة، ولا البراميل المفخخة.. لن أنتظر أكثر، سينتصر حبنا”

على أمل أن يأتي الغد ليكون معها ولها في ذلك الغد: أوليس الغد بقريب” هكذا تساءلت تلك التي ما زالت في فضاء مجتمعي ضيق خلف نافذة، وستارة إلى رجل في فضاء لا تعرف له حدود، والحلم يراودها خلف النافذة كلما أطمأنت على فستانها الأبيض المعلق، لكنّ اليأس يعشعش على كتف الأمل، ننتظر معها الغد، وربما تحمل وردة نقطف من بتلاتها، ونقول: سيأتي، لن يأتي، سيأتي ، لن يأتي، فهل يأتي؟.

فالحدود كلّ ما يفصل بين معشوقة وعاشقها، وكما قال محمود درويش في قصيدة تونس: “وهل يقول معشوق لعاشقة شكرا.. شكرا تونس”، وهل تقول تلك العاشقة التي لم تستلم غير رسالة: شكرا لك أيها القناص، شكرا لك أيتها الحرب، لقد هزمتما الحبّ، وشكلتما أزمة اجتماعية في لحظة جمالية، حولها القنّاص والحرب إلى أزمة نفسية، يموت فيها العاشق، وتبقى العاشقة منتظرة خلف نافذة وزجاج، وستائر مسدلة في حيز يضيق عليها كلما سمعت ورددت كلمات: “أغدا ألقاك”.

هل النوافذ تفتحنا على فضاءات أوسع؟، أم هي قيد يكبلنا، يقتل مشاعرنا، يفصلنا عمن نحب؟، النافذة مغلقة والباب مغلق، لماذا أطلقتْ عنان محروس على نصها الأول (النافذة الأولى)، ربما هي تعرف نوافذ كثيرة، نوافذ توصلنا إلى المجتمع، وفضاءاته، ونوافذ تنزع منا المجتمع، تاركة لنا حيزا ضيقا، مظلما، نتحرك فيه حركة بسيطة، منتظرين، متأملين من يلقي السلام، كلما تقدم بنا العمر، وأنتظرنا أبناءنا أكثر، وكلما كبر الأبناء أكثر وأصبحوا أباءً يبقون أطفالا في عيون آبائهم، يشتغل الفكر أكثر، والسمع يترصد به العجوز داخل غرفته المغلقة، خلف نافذة وباب، ليسمع خطوات ابنه، عله يشدّ يد الباب، ويلقي السلام، لكنّ الفضاء ضبابي لا ينفتح على مجتمع خارجي إلا من خلال حاسة السمع، تلك الحاسة الضعيفة عند العجوز، لكنّها كافية لترصد خطوات ابنه، ويطمئن أنّه قد حضر أخيرا.

صدّرت لنا عنان محروس نافذتها الأولى بقول ريتشيلو: “لا يغفو قلب الأب إلا بعد أن تغفو جميع القلوب”.

لماذا صدّرت عنان محروس بهذا القول لنافذتها الأولى؟ أو ربما هي نافذة العجوز التي تحجب رؤيته، ولا يعرف ماهية الفضاء الذي يعيش به، لكنّه ما زال يتحرك، ويسمع، لتشي لنا عنان محروس في مفتتح نافذتها الأولى بقولها: “كهل تجاوز السبعين، على كرسي متحرك.. مصابٌ بالشلل والرعاش.. وبداء الذكريات”.

لا ينفتح فضاؤه المجتمعي إلا على ذكريات العجوز، وستائر تحجب عنه بعض الرؤية، وسرير يفتقد صاحبته، فالعجوز وحيدٌ، ليس له من ذكرياتٍ إلا زوجةً غائبة وسريرها، خزانتها، ملابسها، لكنّ عنان محروس القاصة الواعية لقيمة العلاقة بين الفضاء والمجتمع الذي يعيشه العجوز، تقول لنا عن هذه الغرفة الموصدة ومتعلقات السيدة: “هم.. أصدقاؤه المخلصون، يعرفهم جيدا ويعرفونه.. شهدوا معه أياما جميلة ورفيقة دربه قبل أن يختارها الموت.. رفيقة كانت.. احبها منذ النظرة الأولى.. وهي عشقته كما يجب أن يكون العشق”.

فكما قدمت لنا عنان محروس صورة فضاءٍ واسعٍ، وقناص، ومعركة قُتل عاشقان، واحد خلف النافذة، والآخر بعيد عنها خلف الحدود، تقدم لنا عاشقين خلف نافذة، كان يجمعهما سرير وخزانة، لكنّ الموت عامل مشترك، في قتل قصة حب امتدّ بطلها في ظلمائه خلف نافذته على كرسي متحرك، عندما آثرت العاشقة النوم تحت التراب.

لم يفقد العجوز كلّ شيء، فقد زوجته، لكنه ما زال يملك إبنا يترقبه خلف النافذة، ويسمع صوته خلف الباب، ورغم الحبّ، والعشق، إلا أنّ عنان تقول لنا وكأنها تحدثنا بصوتها لا بقلمها: تمر ليال عجاف.. ووجعه فيه يكبر.. يخرج ابنه صباحا.. يطارد أوهامه.. ويعود متأخرا غير مكترث بوالد انحنى جسده”.

فالعجوز على كرسي متحرك، يحدث الجدران في فضائه الممل، الضبابي، المظلم، لكنّ الغد حاضر في نافذتها الأولى، كما في قصتها أغدا ألقاك، فالغد للعجوز غير ذاك الغد للعاشقة، التي اشتركت مع العجوز في نافذة مغلقة، وستائر، إذ تقول زوجة إبنه للخادمة بعصبية: “غدا سنزيل الستائر القديمة البشعة.. وننظف الغرفة من القذارة.. العجوز سيذهب لدار المسنين”.

فضاء مؤلم اجتماعيا، ونفسيا، تعالج فيه القاصة حالة اجتماعية متأزمة بالفقد، والنبذ، متأزمة بالقرب والبعد، وتزداد تأزما بالرحيل، ولا يعود يسمع وقع أقدام إبنه كلما عاد ليلا، لكنّ القاصة عنان محروس التي شكلت نافذته، وفضاء غرفته، كانت قد صورت لنا جفاف ريق العجوز، ومحاولته المرتعشة لحمل كأس الماء، كما صورت لنا برودة اجتاحت جسمه المتعب، وكيف ألقى جفونه المثقلة على عينيه، فأغمضها مجبرا، لتقدم لنا فضاءً متفجرا بأزمة اجتماعية، تختمها بفنية القاصة المتألقة، مؤججة الذكريات المتبقية للعجوز بقولها: “وفي لحظة مسروقة من حياة ثانية.. رآها.. عروسه.. كما كانت.. شابة جميلة ترتدي فستانها الأخضر الذي يحبه، مدت له يدها مبتسمة.. وقف على قدميه، اختفى الرعاش وأمسكها بقبضته القوية، وكأنه في عنفوان شبابه”.

لم تقل لنا ما الذي حصل مع ذلك العجوز، هل كان حلما ووهما، خيالا أم حقيقة، لكنّ الآية القرآنية كانت أسلوبا مميزا في ختام قصتها، لتشعل الفضاء المكاني، المنزلق في أزمة اجتماعية، وتخنم بقوله تعالى: ” وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا”

هذه الفنية القصصية نادرا ما يلتفت لها الكتاب، والأكثر ندرة أن تكتب هذه القصة بنوافذها،  وبابها المغلق بِإحساس القاصة لا بفكرها فقط، إحساس تولدت معه المشاعر، مشاعر الحب، عاطفة الأب التي لم يقتلها جفوة الإبن الحائر في حياته، الذي لم نعرف عنه شيئا، لم نره، ولم تجسده لنا عنان محروس في نافذتها الأولى، ولم تجسد من زوجة الإبن إلا جفوتها، لكنّ العجوز الذي تشكل اجتماعيا مع فضاء غرفة مغلقة، وباب موصد، كان الرحيل قراره ليلحق بمعشوقته ذات الفستان الأخضر، تاركا الخزانة، والسرير، ليجاورها تحت التراب.

النوافذ تخفي الكثير، لا يظهر من خلال النافذة إلا ما يحب شخصية الرواية أن يظهره للآخر، يتلاعب من خلف النافذة بقلب صبية تقف خلف نافذة أخرى، ويده تحت النافذة تكتب رسالة نصية لفتاة ثانية، وعقله يفكر بثالثة عارية تنام على السرير، “فالرجل ما هو إلا نتاج أفكاره.. بما يفكر يصبح عليه”، هذا ما قاله غاندي، وهذا ما أحسنت تصويره فنيا ضمن فضاءات المجتمع القصصي بأسلوب رائع.

لماذا فتحت عنان محروس نافذتها الرابعة على المجتمع؟ فالمجتمع مفضوح يا عنان، فلا تفضحيه أكثر، خلف تلك النافذة ست عيون تطل من العتمة، وامرأة تلقيها مركبة على قارعة الشارع، غير بعيدة عن مسكنها الذي يؤويها وأطفالها، لكنّ أقدامها متعبة، والفضاء المفتوح الذي قذفتها فيه المركبة زادتها خوفا على خوف، فتملكها الرعب، تحثّ الخطى، فالطرقات شريرة، هكذا تصف عنان محروس فضاء نافذتها الرابعة، طرقات وعرة وشريرة، ربما تصف فيها الفضاء، لكنه ليس الحيز، ولا الفضاء الإقليدي، ولا الفضاء الروائي الإقليدي، بل تصف الفضاء المجتمعي القصصي، فهذه السيدة التي تنتظرها ثلاثة أزواج من عيون خلف النافذة ليس لها غد، لنْ تغنّي أغدا ألقاك، ورغم أبنائها الثلاثة الذين ينتظرونها خلف النافذة، فتقول عنان محروس: “أيتام ثلاثة.. لأب شهيد قتلته بعض من شظايا أحدى البراميل المفخخة.. وهو في طريق عودته إلى البيت”، فقبل أن تفقد الأم غدها فقد الزوج حاضره، ومستقبله، ونفسه، فلم يعد غدا لأحد، لا لزوجته، ولا لأبنائه، لكنّ الحرب والرصاص حاضران خلف نافذتها الرابعة.

لكنّ الطفولة لم تعرف الأمس، فكيف لها أن تتوقع غد أجمل، او غد جميل، أو غد يكون للمجتمع القصصي دور فيه، ولو بقليل من الجمال؟، فالأطفال الثلاثة يضحكون حين يشاهدون أمهم، ولا يعرفون قلبها الدامي، فتقول عنان محروس عن الأطفال الثلاثة عندما شاهدوا أمهم: “لاحت على وجوههم منتهى السعادة، رؤية والدتهم تعود.. وتحوّل في لحظة الحذر من الخوف إلى أمان وراحة.. والترقب إلى أمل”.

كم أنت عظيمة يا عنان رغم النوافذ الموصدة، والزجاج المتسخ الذي لا تستطيع أن ترى من خلاله، وستائر غليظة تحجب الضوء، إلا أنّك ما زلت تزرعين الأمل في قلب أم أفقدها الرصاص، والحرب زوجها ولم تجد لها عملا سوى مومس، كي تحقق حلم طفولة، لربما يأتيهم غد غير الذي تعيش، أعطت كلا منهم الكيس الذي يحوي، كما طلب، لكنّها عادت إلى النافذة لتعيش حصارها، لأنها نافذة الإنتظار، حيث تمد نظرها فلا تجد إلا شارعا معتما، وكما تقول عنان محروس: “وكأن الطرقات المفتوحة، هي السجن والعزلة.. وجدران بيتها هي الإنعتاق والحرية”.

كيف تمكنت القاصة من تشكيل معنى المكان الفضاء، ليصبح المكان الأليف معاديا، والمكان المعادي أليفا، وحنونا، فكيف للفضاءات المفتوحة أن تصبح سجونا؟، وكيف للجدران والقضبان أن تكون هي الإنعتاق؟، غدها قادم لا ريب، فحين أخرجت من كيسها الأسود فستان الرقص الخليع، علقته في مكان خفي من خزانتها استعدادا لإرتدائه ليلة غد.

هكذا عبّرت القاصة عنان محروس عن المجتمعات الموبوءة، وفضاءاتها المغلقة، وسجونها التي نظنّها الحرية، عبّرت عن الموت والحياة، قدّمت لنا لوحات عشق انتهت بفواجع، ومآسٍ، وأطفال أيتام لا تجد أمهم إلا الرقص، والخلاعة طريقا لإسكات جوعهم، ويأتي من يقول: “تموت الحرة ولا تربو بثدييها”، لكنّها عندما لا تجد فجرا جديدا يطل على غد جميل ستربو الحرة بثدييها، ولن يغنّي لها المجتمع، لن يفتح لها فضاؤه، ولن تفتح النافذة، وستبقى أبوابها موصدة، ولن تسمع أم كلثوم تغنّي أغدا ألقاك.

 

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!