قراءة أسلوبية في رواية” شيء من بعيد ناداني” للكاتب الروائي: أحمد طايل

كتبت  منال الشربيني(مصر)
….
للوهلة الأولى، التي وقعت فيها عيناي على مقدمة السردية، للأديب الناقد العراقي علي لفتة سعيد، الذي قرأ مشكورا من زاوية ما تعكس، الحنين للأصول، في السردية، بما انعكس من حنين الراوي، الروائي، إلى أرض جدوده، وحلمه، الذي تجسد فتاةً، أخبرتها العرافة، نبوءةً، بأن تعود، فهي ابنة الحلم، وهي الحلم، رأيت إنها المنذورة لهذا الحلم، و المنوطة بالإمساك به، والعمل.، جاهدة، على تحقيقه، فنرى العرافة مع بداية خيوط السردية تقول:
“هناك ما لم أحدثك عنه أمام والديك وجميل أن أتيت خلفي، حلمك ليس هنا، ليس هنا، هو ببلاد بعيدة سوف تناديك وسوف تسمعين النداء دوما وكثيرا..”
في الواقع، لم يكن كلام العرافة موجهًا فقط للفتاة، فقد شعرت بأنني هي الفتاة، وصرت أفكر:؛ ترى ماذا يكون هذا الحلم؟، متى يأتي، هل سأراه متجسدا؟، أقريب هو أم بعيد؟” وقعت في حيرة الفتاة، التي ظلت حتى آخر السردية تنسج الحلم ثيابا فرعونية، تتناسب وجميع الأعمار، وكأنما هي دعوة للجميع بأن لا يتخلوا عن ” جلباب أبيهم العتيق المجيد”
ثم يأخذنا الراوي. في حالة من تبرير الغربة التي يعيشها ضمنا، ويعاني منها واقعا، ليخبرنا أنه إنما اضطرته ظروف الحياة للعيش بعيدا، فأخذته المدينة، والمدنية، والحداثة، من العزبة، وجو الريف، ورائحة الخبيز، وبيوت القرية، ورائحة الكنوز الفرعونية، وأجواء حي الحسين، ودراويش السيدة..
فنراه يقول:
” بعد هذا الحدث بما يقرب من ستة أشهر جاءت لوالدها الدكتور(تشارلز آدامز)دعوة من إحدى الجامعات الأمريكية لإلقاء بعض المحاضرات في تخصصه (النفس البشرية وتأثيرات الزمان والمكان)، سافرت الأسرة معه على غير المعتاد،..”
وهنا نلحظ أنه يكشف عن مكنون روايته، ويسمح لنا بقراءة روحه، التي استبانت جلية في روح العنوان الذي حمله اسم تخصصه الأكاديمي: (النفس البشرية وتأثيرات الزمان والمكان)، وهنا، شغلني كقاريء متفاعل، كثيرا، عنوان تخصصه، فالمكان والزمان هما عالم الراوي، البطل، الذي شهد تصارعا، وصراعات، اختار لها صدر الفتاة” لويزا”، كي ينقل لنا كيف أن” نداهة الغربة، والحداثة، لم تخلع عنه لقب ” فلاح، يسكن الصعيد، ويشغله كيف أن العقل الجمعي، لمَّا يزل، ينحاز إلى الرجال، فالذكر في بلادي، له سطوة الملك، وإن طغت النسوة.
وهنا، يتجلى حنينه للجذور، الأرض، بكل ما تحمل من حلم، الأرض، تلك التي من أجلها نشيد جميعا براحات الحلم، فنراه يستدعي العرافة، يقول:
” وتراءت لها العرافة العجوز وهى تنادى عليها وتمد يدها لتأخذ مردودا.
– هنا مستقرك وحياتك ، هنا عشقك اللانهائي لا تتركي مطلقا يد حلمك، الحلم يأتي لصاحبه ولا ينتظر طويلا، فلا تبطئي وتجعليه ينتظر، الأحلام لا تنتظر. “
كان يبحث، بروح طفل، أسماه” لويزا” في سرديته، وبلغة تقريرية بحتة، عن عالم يعشقه هو، وتهفو روحه إليه، الجذور، الجدود، جده المصري القديم، فنراه يقول:
“علم الحفريات، علم المصريات، الأزياء التصوير الفرعوني، طقوس الحياة، الدين، الفن والكثير الذى يغطى كل زوايا هذا العالم، في نهاية الصندوق وجدت قلادة بها نقش رائع أزرق. وبجواره بطاقة مكتوب عليها، إهداء لجميلتي ربما تكون تميمة حظ.”
وما يلبث أن يذكرنا بالعقل الجمعي الذكوري مرة أخرى، فيؤكد على أهمية وجوده، ” فريد”، رغم فتاتين، وأمه، يسكن الدار، لكن الدار لم تعرف الفرح، والمرح، قبل مجيئه، وما إن جاء تبدل الحال، حتى إنه يصف لنا طفلا، من الناحية، البيولوجية، ليس كبقية الأطفال، نراه يقول:
” المهم ولد هو وسط فرحة محاطة بالخوف، ومصاحبة بالدعوات من الأهل والجيران وكل من يعرفونهم بأن يتخطى هذا التوقيت وأن يعبر إلى الحياة ويستمر ملازما لها، أسموه فريد ، التفسير أنه كان فريد لحظة مولده، لم يبك مثل كل الأطفال، يحكون ويحكين أنه خرج للحياة ضحوكا، كان الابن الذى طال انتظاره، أضاف للبيت بهجة رغم وجود أختين له،”
ومع استمرار القراءة نرصد معه حياة الآخر، ليس ليخبرنا عن مدى انضباطهم حين العمل، وخروجهم عن المألوف، في أوقات الراحة، بل ليخبرنا أنه على علم بمدى تدليسهم، ومراوغتهم، وانعدام أمانتهم حين التعامل مع ممتلكاتنا، وهويتنا الزمكانية، التي حفها جدودنا على البردى ووجوه الصخور. هو شاهد على مدى بشاعتهم، فقد وصفهم بالقراصنة، ينهبون، لينهبون. يقول:
” يعشقون العمل منضبطين، مؤكد ليس الجميع، هناك البعض من يتسلل إلى مكان الحفريات، يختفى بعض الوقت الطويل، عندما يتم سؤاله يجيب أنه كان يقضى حاجته، والحقيقة أنه كان يمرر إحدى قطع الآثار إلى البعض الذى يجيء متسربلا بالظلام، لا نلمحهم، ربما نلمح ظلالهم أشبه بالخيالات، ما يتم اكتشافه قطرة في محيط، عمليات القرصنة والسطو لا تنتهى، “
ورغم أن عبارة:
“- من أجل (لويزا) نجيء،” ربما تبدو عادية، يقولها محب لمحبوبته، وجدت، أنا فيها أمرا آخرا، فلويزا هنا، هي طاقة الروح التي ستمسك بخيوط الحلم، وتنفخ فيه من روحها، ليصير حقيقة، تحقيقا لنبوءة العرافة، ولابد أن لويزا، صائدة الحلم، لا محالة هي محل مطمع من الكل.. لويزا، ليست فتاة، لويزا هي “مصر”
وهي، قربان، منذورة للحلم، يحبها من يراها، ليس لشخصها، وإنما لأنها مفتاح طاقة البدء إلى الخلود.. ربما هي طاقة الخلد لأنها قربان يستحق أن تراق عند أقدامه الدماء، فنراه يقول:
” هل تعلمون أن هناك أفرادا ودولا تؤمن بتقديم القرابين للوصول إلى أماكن الآثار، قرابين تصل إلى حد تقديم الأطفال الصغار لأجل هذا الأمر، جهل ما بعده جهل،”
هو يرى أن تقديم القرابين من أجل الحصول على الكنوز جهلا، بينما يرى الآخر، في هذا، قمة التضحية، لتحقيق المستحيل. فالمستحيل هو لويزا، ولن يتحقق إلا بالفوز بها، منذورة، ونذرا، وطاقة على الخلود، والأبدية، مفتوحة.
ورغم إنه غادر الأرض إلى حيث كل شيء ينطق بالحداثة، يهرب من الراوي روحه الفلاح، وغيرته، ورجولته التي تتجلى في وصفه “بيت الهميلي”، حيث يصف لنا، تقاليد القرية العريقة، وكيف أن الرجل رجل له مكانه، وأن عالم النساء فيه يقول أن “لا مساس”، فالاختلاط مرفوض!.. رغم كل ما شاهده، في بلاد الفرنجة، من عهر وعري، يتحدث إلينا الرجل الرجل بكل حب منحته إياه الذكريات عن قرية ” الغربي قمولا مركز القرنة بالأقصر”! يقول:
..بقرية الغربي قمولا مركز القرنة بالأقصر، وببيت مثل كل بيوتها، البيت المكون من طابق واحد تحيط به بعض الأشجار الباسقة توفر بعض الظل، بيت (جلال الهميلي)، بمدخله مصطبتان من الاسمنت المدهون بدهانات ملونة، واحدة على اليمين خصصها لجلسته مع الرجال، وأخرى يسارا مخصصة للنساء
ثم يمضي بنا ليعترف أنه لم يزر بلدته، أرضه، أرض أجداداه، ولم يعرف شخص جده يوما، بل سمع عنه من حكايا أبوه، وإنه لم يشهد موته، ولكنه رأى جليا ما فعله رحيله بكل العزبة، يقول:
” المرة الأولى التي عرفت عزبتنا حينما أخذني أبى وهو يكاد يهرول إلى العزبة حين علم بمرض جدى، كنت بحدود العاشرة من العمر، وصلنا قرابة مغيب الشمس، ولكن لحظتها أيقنت بوصولنا بعد وفاة الجد من لحظات، إنهار أبى وأخذ بالبكاء والعويل واللطم على وجهه، لم أر جدى على أرض الواقع مطلقا، كل ما أعرفه صورته التي ظلت معلقة بغرفة أبى إلى وقت قريب من وفاته،
لكن مونولوجا داخليا سرى في داخله، جعله يقر بأنه مهما فعل، لن يفلت من جلباب جدوده، هو ابن تلك الهوية، ونفس الزمكان، وابن امرأة تشبه كل تلك النسوة هنا، وأن الزمن، بالفعل، دوَّار، فنراه يقول:
” الغريب أن مقولة أن الزمن دوار وأن التاريخ يعيد نفسه صحيحة تماما، لأنى مررت بنفس ما حدث لأبي وأمي بشأن الإنجاب، كنت شبيها لهم، بخيتة أيضا على مدار خمس سنوات لم يكتمل لها حمل، حتى أتى فريد، ثم أختاه، روح وحياة، جلال أخذ منى غالبية الطباع،
تتجلى قمة الحوار الإنساني داخل الروح، منها وإليها، في عبارة:
“روح جدك أتتني ،..”
هنا مربط الفرس، هنا تتجلى روح السردية، لتخبرنا إنها صدى لروح الجد، يسردها الابن، فتجسدت فتاة” لويزا” أخبرتها العرافة إنها منذورة للحلم، وطرزتها الأم تميمة فرعونية، وضعتها على صر لويزا، فقلدها الكل، صغارا وكبارا، فاتشحت العزبة بالزي المصري القديم، وحملتها النسوة المصريات إلى بيوتهن، تمتئما، وقلائد، شواهدا على عراقة المصري القديم، وجماليات الحضارة المصرية، الحلم.
” على مدار أكثر من شهر عكفت الأم على رسم بترونات أزياء، تجمع بين الزي الفرعوني وبين ما يناسب الزمن، ومن فرط الحنين، يعود بنا الراوي إلى العزبة، تاركا الحياة الحديثة بكل رفاهيتها، وتقدمها، وسط ترحيب الأهل، وتأكيدهم على روح الأصالة، والأخلاق، والتدين، الذي ظهر جليا، في عبارة:
-يا (جلال) حق أبيك موجود، الأرض،..”
سأكتفي هنا بأن أدعوكم لقراءة هذا المشهد التصويري السينمائي:
يقول “طايل” في روايته واصفا حي الحسين/ القاهرة:
أخذهم إلى حي الحسين، جلسوا على مقهى (الفيشاوي) بطقوسه، وعلى تنوع زائريه، ارتشفوا أكواب الشاي الأخضر، والشاي بالنعناع، وأكواب القهوة العربية، وروائح البخور تملأ المكان، لاحظوا تواجد جنسيات عربية وأجنبية كثيرة، أخذهم للتجول بمضمار المسجد الحسيني، والأزهر الشريف، مروا على محلات باعة الكتب، التراثية والمعاصرة، مر بهم على خان الخليلي، شاهدوا النقش على النحاس، وعلى الزجاج والقلائد، والكتابة على ورق البردى، ذهب بهم إلى صديق، طلب منه لوحة بردية كبيرة تحمل صورهم جميعا، أحضر الرجل عدسة مصورة، أخذ لهم صورة، وعده أنه بأيام قليلة سيجد اللوحة جاهزة، اقتنى لهم أقراط وعقود تحمل أشكال فرعونية، وأحضر للأب قارورة نحاسية منقوشة نقوشات فرعونية بشكل رائع، تصلح للعطور،..”
لقد أخذنا بالفعل في جولة إلى حي الحسين، فأحسست برائحة القهوة تفوح في جو النص، وشاهدت معه السواح بينما يتفحصون القلائد والنقوشات المصرية القديمة، وأوراق البردى، حتى إنني دخلت معهم كادر الصورة التي التقطها المصور، ورأيتني أحمل قارورة عطر عثر عليها واحد من علماء المصريات، يوما.
وفي نقل حي لأحداث يناير، وما تبعها من تداعيات على جميع الأصعدة في مصر، نرى الكاتب يلقي، بطرف خفي، نظرة حزينة على قارورة العطر، “لويزا” وحي الحسين بعراقته، وصموده وحكاياه، كشاهد على كل العصور، ويرمق الإخوان بنظرة ازدراء، يحتقر فيهم رائحة دماء الأبرياء، ويشجب فيهم وجه الخيانة، والخروج على عادات العزبة، التي هي معادل موضوعي هنا للأرض/ العزبة، بيت ” الهميلي”، وتأتي كلمات مفتاحية مثل:
الإخوان
حركة تمرد
لتنهي لنا حلقة صراع نفسي، كتمه الراوي، رغم البوح، بينما يلقي نظرة من وراء كتفه على الأهرامات… هكذا قرأت سردية ” طايل”
أسرني عنده لغته التقريرية، التي كتبها بسلاسة، وسرده البسيط للحكايا، فأخذنا معه إلى عالم الحلم، فكنت لويزا، التي لم تكبر، رغم السنين، فلما تزل أمي/ مصر، تطرز لي قبعات الحلم، وتصوغ منها ورودا، وتمائم تضعها على “باترونات” البردى، وأراهم جميعا يرتدونها، كبارا وصغارا، في كل العزبة.
لقد رأيت في هذه السردية جمالا، يليق بحجم مصر، وشهدت زمكان بهي، طرز قبعات الجدود التي قدمت نفسها بأنها قبعة العصر، كل عصر،رغم أنف كل حاقد،أو حاسد، أو لص.
كان للفعل الماضي في سردية “طايل”حضورا طاغيا للحاضر الممتد، والماضي الضارب في الجذور، والمستقبل اللامتناهي، وكان للأرض دور البطولة، وهي معادل موضوعي ل “لويزا”، الفتاة التي لم تكبر طوال السردية، وكان للحنين للأرض عصا العرافة السحرية، ورائحة بخور حي الحسين، ورائحة الخبيز المنبعث من فرن بيت” جلال الهميلي”، وهيمنة الهيل على روح المكان في قهوة ” الفيشاوي”، وكان للعزبة، وجه قريتي، وبياض العجين على سواعد النسوة، ووجه” لويزا”.
تلك كانت قراءتي ” لرواية” شيء من بعيد ناداني”، حتى إنني أسمع شادية تغني: ” شيء من بعيد ناداني”، وشعرت أنني أردد معها، وأدندن. وها أنا أمسك بخيوط الحلم، تطرز لي أمي قبعة للشتاء، وزورقا إلى كهف ” رع”.

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

تعليق واحد

  1. دائما كما عهدناك دقيقة بالتفاصيل سريعة باستيعاب الأحداث محللة أدبية بالاسلوب سهل ممتنع تحليل متميز وقراءة ممتعة شكرا أستاذتنا المبدعة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!