قراءة في رواية:لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة

لصحيفة آفاق حرة

 

قراءة في رواية:لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة

الكاتب: خالد خليفة.

اصدار دار العين الاسكندرية.

.2013. ورقيه..

 

الكاتب خالد خليفة روائي سوري متميز. قرأنا له رواية مديح الكراهية. التي سلطت الضوء على أحداث الصراع بين النظام الاستبدادي السوري والإخوان المسلمين في الثمانينات.

تبدأ الرواية على لسان بطلها بلغة المتكلم . يحضر كمتابع لكل ماحوله وحياة كل إنسان من أبطاله، يغوص في أعماقها وحاضرا بها

.الرواية تتكلم عن اسرة من مدينة حلب السورية، تتكون من أب وأم وأربعة أولاد. للأسرة امتدادها العائلي أيضا . الاب من ريف حلب عمل في محطة القطار في الخمسينات . تعرف على الأم من خلال أبوها الذي كان من مسؤولي المحطة. وحصل الزواج وتنتقل الام مع زوجها للمناطق الريفية وتعيش فترة من الزمن وتعود مع أولادها الى بيت العائلة في حلب بعد هجر زوجها لها. ومن ثم تبني بيتها الخاص . الام  بنت مدينة حلب معلم الأب، تحس بتميزها عن مثيلاتها وخاصة اهل الريف، تفكر دوما بالغرب ونموذجه. هي من اختار زوجها ولاحقته ليترك ابنة عمه ويتزوجها. لتذهب معه لاحياء الريفيين بجوار المدينة. لتكتشف بعد ذلك أن ما بحثت عنه عند الزوج لم تجده. والاب سرعان ما غرق في حياته العملية. وتعرف على سائحة اجنبية تعايش معها، وسرعان ماترك عائلته لقدرها. غادر معها ليخرج من حياتهم عمليا الا بالذاكرة. وما ترك بها من جروح نفسية في مجموع العائلة. الأم عاشت احساسا بالمهانة والانكسار وعملت لها حائطا نفسيا تجاه كل محيطها. تعيش مع أمانيها وحرمانها وانكسارها. تستمع لبعض الموسيقى تتواصل مع أولادها وإخوتها كأمر لازم . تكتب رسائل لاترسل، وتنتظر قادم لا يأتي. الراوي من مواليد انقلاب البعث واستيلائه على  الحكم. هو وأخوته الثلاثة عالم كامل ومنذ الطفولة. تتمحور الرواية حولهم وعبر امتدادهم القسري في الواقع الاجتماعي والسياسي أيضا. سعاد الاخت الكبرى ولكن المعاقة، التي تحولت للعبة اخوتها وصديقة أفراحهم الصغيرة. أصبحت عار الأم، حيث حجبتها عن العالم. وحرمتها من حنانها. وانتظرتها حتى تموت لتتحرر من حضورها وهكذا صار. الاخوة الصغار الراوي ورشيد وسوسن افتقدوا اختهم كثيرا. وبقيت معهم وجدانيا حتى وصولهم لعمر متأخر. تحضر دائما عبر زجاجة التراب التي أحضرت من قبرها رمزا لحضورها بينهم دوما.سوسن الاخت الأكثر حضورا وفاعلية في العائلة قبلة الاخوة الراوي ورشيد. متناقضة مع امها، هناك حرب إنكار متبادل. الام مترفعة متعالية والبنت تمارس الحياة كفرصة أخيرة .تعتد بجمالها و تعيش على هواها. الكل في الرواية يعيش على هواه .لا محرمات ولا ضوابط والكل منفتح على ذاته. يتركها منفلته كما تشاء في عالم فردي مفرط في ذاتية كل واحد. وكأن كل فرد كون كامل منفصل عن الاخر يتقاطع معه ولا يندمج به مطلقا. سوسن ابنة السلطة التي تعتز بالسلطة والبعث والقائد الأوحد. الحاضر كالهواء، المتربص كالرعب، المعاش كما الدم في الجسد. سوسن تكبر و تراهق تجد نفسها بين المظليات وتختار أحد قياداته منذر تجذبه إليها وتصبح محظيته. وتعيش معه انفتاحا كاملا. علاقة جنسية وعيش مشترك وترى به ومعه حياتها الاجمل. تنخرط بدور قذر بحق زميلاتها تخبر عنهم وتودي بهم إلى المعتقلات والسجون. علاقتها بمنذر مقلقلة. ومنذر نفسه يخرج من الحظوة عندما يُطاح برئيسه (رفعت) ويخرج خارج البلاد . منذر يغادر لدبي يعمل عند أحدهم ممن يمتلك الثروة والسلطة. مجرد حارس. وتذهب معه سوسن لتعيش حبها او وهمها. وتكتشف بعد حين أن منذر يستخدمها ويذلها ويستعبدها ايضا. ويتركها اخيرا ليتزوج ابنة قريته. ويعيش حياته متدين في طائفته وليخرج سوسن من حياته مطلقا. التي تغادر الى فرنسا وتعيش حياة أقرب للدعاره . وبعد سنوات تعود الى حلب عند أهلها لتكتشف أنها أضاعت عمرها هباء. ستحاول المصالحة مع نفسها وأن تتديّن. تكتشف ان الكل يراها داعرة سابقة ويريدون نيلها. وتستمر بالتدين مؤقتا ولا تنجح. وتعود لذاتها وتترك تدينها وأوهامها انها تحمي نفسها بعلاقة مع الدين والله، لم ينفعها ذلك. تعود لمدرّسها وعشيق مراهقتها جان المسيحي الارمني الذي عاد من فرنسا ليعيل أمه المقعدة. وتستمر معه لفترة تنهيها معه أخيرا بعلاقة جسدية تؤدي لحملها لطفل يرفض جان أن ينسبه له. وتبحث عن أب له  عبر خالها نزار (المثلي) وعبر رفيقه ميشيل. ويخرجها معه على أنها زوجته إلى فرنسا. وتذهب وتغيب وتنطفئ حكاية

الأخ رشيد. الابن الرقيق الشفاف الفنان .شبيه خاله نزار .الذي أتقن العزف على اكثر من آله وصار رفيق خاله في الحفلات والنوادي الليلية. يعيش هواجسه الشخصية، صراعه النفسي بين خاله كنموذج له. وان خاله مثلي (لواطي) يحمل العار حيث كان. وبين أم مصابة في صميمها عبر هجران زوجها .واخته سوسن المرغوبة كشعور لا يرتاح له. واخ شبه نكرة وهو الراوي. وذكرى اخته سعاد الطفلة التي يزور قبرها مع أخوته كل فترة. لم يستطع أن يصنع ابداعه الفني. وجاءته لحظة  فطلب التوبة، توجه للدين .والتحق مع غيره للجهاد في العراق. ذهب ووجد نفسه ضحية لعبة استخبارات. وسقطت بغداد ووجد نفسه معتقلا، مارس لعبة الإنكار. وأنه مسيحي و موسيقي. وبعد سنة وأشهر اطلق سراحه وعاد لحلب. لكنه لم يعد لنفسه. تارة يكتشف أن توبته لم تكن صحيحة. وأخرى يندم على عدم استشهاده بالعراق. عاد ليعمل مع خاله في فرقته الموسيقية. لكن روحه لم تشفى . موت امه في غيابه جرحه. وفي آخر ايامه صار يستحضر الموت، ثم شنق نفسه في غرفته منتظرا راحة لا نعلم ان حصل عليها أم لا.؟

الخال نزار شخصية اساسية في الرواية .منذ طفولته يحس بشعور انثوي وكان شريك اخته في كل طقوسها بدء من ملابسها حتى أدوات زينتها. وعندما كبر اختار أن يلحق هواه وبحث عن علاقة مثلية (لواطية). مع صديقه ميشيل. ثم مع غيره بعد هجرة ميشيل لفرنسا. العائله لم تحتمل عاره ولم تستطع ردعه. عمدت الى سجنه ستة أشهر خرج بعدها ممتهنا أكثر لقد كان مطية الكل هناك. ليس كما يهوى لكن مغتصبا. العائلة تنكرت له ومات والده وبقي على علاقة مع أخته و أولادها. استمر بفرقته الموسيقية و ببحثه عن العشاق وكان آخرهم اسوأهم. واحد من متنفذي النظام والفاسدين فيه .ممن وجب محاسبته . والذي حاول قتله. بعد أن جعله سيده في بيته واعتبر نفسه زوجته. طرده من حياته بعد أن كبر في العمر. أراد ان يبحث عن راحة ما فعاد ليحتضن اولاد اخته. وعمل لبناء بيت في كسب. وعاد صديقه ميشيل من فرنسا. واحتضن رشيد وموهبته لكن رشيد اختار الانتحار كحل لأزمات نفسه الغير مرتاحه. ساعد سوسن على السفر الى فرنسا. وكان شاهدا على انتحار رشيد. حيث تنتهي الرواية. الراوي مجرد شاهد زائد عن الحاجة يراقب ويرصد. تخرّج من الجامعه يعمل مترجما. يخاف الحياة ويعيش على هامشه.الرواية مليئة بالمعاني وتقرأ بمستويات عدة. أبطال الرواية أفراد ذاتيين يعيشون حياتهم منعزلين شعوريا. بينما علاقتهم مع الآخرين مجرد امر ملزم لا يدخل للعمق. حتى بالحب والجنس والعيش المشترك. كل يرى حياته بشكل مختلف. الكل عبء على الكل . وهناك دوما عدم يقين. ولا راحة ولا أمان واغلب المطلوب وهم . والكل ضحية الشروط الإجتماعية وأهمها السلطة الحاضرة كالهواء..د و المؤلمة كالموت. الكل مرضى وممارساتهم مأزومة . نهايات الكل غير سارة. الوصم الاجتماعي لايصل لذاتهم لكنهم مع ذلك لا يرتاحون. الرواية نوع من أدب الوجودية الذي يعتبر أن ذات الفرد منفصلة عن ذوات الآخرين وإحساسه دوما بانعدام حريته. وتحول ذوات الآخرين موضوعا لذاته .وفجيعة الوجود بالحياة وان لا حرية حقيقية .وان الحقيقة الوحيدة هي الموت..

.الرواية انتصار لهوى الأفراد وأمراضهم وشذوذهم . وهذا موضوع مختلف عليه

.الرواية شهادة إدانة على النظام. والناس تعيش حياتين. حقيقية خفية.  وموازية كما يريد لها النظام القمعي

.الرواية لا تقترب بعمق لفعل النظام بحق الناس وحياتهم على كل المستويات إلا بشكل فرعي بسيط. وهذا ليس إدانة لكنها نقطة ضعف

.الرواية التي حصلت على جائزة نجيب محفوظ لسنة 2013.

.بكل الأحوال نحن بحاجة لهكذا نوع من الروايات لنسمع نصا وإن اختلفنا معه. وهي رواية تطل أخيرا على غياب الحرية والعدل والكرامة وإنسانية الإنسان وضرورة الثورة التي حصلت وانتقلنا لعصر آخر

 

..احمد العربي…

5.6.2015…

عن محمد فتحي المقداد

كاتب وروائي. فاز بجائزة (محمد إقبال حرب) للرواية العربية لعام 2021م. الروايات المطبوعة هي تشكيل لرباعية الثورة السورية. -(دوامة الأوغاد/الطريق إلى الزعتري/فوق الأرض/خلف الباب). ورواية (خيمة في قصر بعبدا)، المخطوطات: رواية (بين بوابتين) ورواية (تراجانا) ورواية (دع الأزهار تتفتح). رواية (بنسيون الشارع الخلفي)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!