قراءة في رواية العطر للكاتب الألمانى (باتريك زوسكيند

آفاق حرة للثقافة
بقلم بسمة مرواني

إلمام عجيب بالقضايا الإنسانية المحلية والكونية قدرة فائقة على الربط بين الواقعيةوالتحليل النفسي للاشخاص والرمزية في السرد. العجن بين المسارين لهو دليل على الخلق والإبداع على طريقة الكبار من الأدباء وكتاب العطر للكاتب الألمانى (باتريك زوسكيند) هو نموذج لمثل هذا النحت والخلق السردي بدهشة.

الانسان في بحث دائم عن جوهره المفقود و انسانيته التى لا تتحقق أبدا سوى بشعور ه الداخلى العميق أنه يعبر عن ذاته الحقة كما يراها في مرآته وهو تلك الذات التى ان فقدها لن تغنى عنها الحياة وان حاول جاهدا امتلاك العالم بين يديه من نفوذ وجاه ومال وسلطة….
جون باتيست غرنوى له سيرة حياة الشخصية الغرائبية القادمة من عوالم باريس السفلية و هو المتملك لحاسة من حواس الانسان باعجاز …البطل تخلت عنه امه وتخلصت منه برميه في وسط كومة أزبال
ليكون مصيره ايضا بالنفور ان تتنازل عنه مرضعة بعد انقاذه من القمامة ونفرت منه الراهبة ليكون منذ الليلة الاولى   سنوات من طفولته الأولى منبوذا من طرف أقرانه الذين لم يترددوا في محاولة قتله
البطل المولود دونما رائحة امتلك العالم بامتلاك أسراره رائحته فهو يمتلك منه اختباره العجيب أنفه، واعتمادًا على إيمان مطلق بقدراته الخاصة، لكنه هو نفسه “غرنوي” بلا رائحة، بلا أخلاق، بلا ارتباط بما هو أرقى و أسمى هو رجل بلا قيم ترفعه عن مرتبة الحيوانية والشرور الهوبزية ، له قسوة العالم في قلبه ، غير عابئ بأي إيمان أو أخلاق أو اقرار بعاطفة او ضمير له فهو مالك رهاب من كل جماليات في الحياة…ولدت في نفسه ايضا النرجسية المقيتة رغم عقده الكثيرة ، كلمات لا معنًى لها عنده، فهو يريد من البشر عندما يشمون رائحته أن يركعوا “كما يركعون أمام بخور الرب المقدس البارد، بمجرد شمهم رائحته، رائحة “غرنوي” الذي يبغى أن يكون رب الروائح كلها”. وهذا ضرب من ضروب النرجسية السرية أو الخفية،
فبقناع ساحر أخاذ ، حيث يكون الاكثر تكتما، لديه الجاذبية ، بشكل أعمق، ويكون حذرا ومحصنا، بطيئا وخبيثا، ودقيقا محبا للتحكم في الاخرين متحكما في شعوره دون اظهاره
عاش وسط العفن والقمامة فتعمقت القسوة والتجاهل والاحتقار والكره لللآخرفي ذاته .ثم عاش سنوات فى كهف منعزل وسط خيالاته وأحلامه وسيطر على ملكوته الداخلى لم يستطع أن يتناسى أنه بلا هوية ووجود وأثر فصمم أن يخضع العالم لحبه ودين جماله، الحاكم على الجميع فابتكر لنفسه عطرا
وتلك فلسفته أتقنها غرينوي حيث يحمله انفه ليكون القاتل الغريب الذي يقع الناس في شركه ليصبح الرب القاتل والعطر يستخلصه من أجمل العذارى من الجمال الذى يلهم الحب ،الجمال الذى لم يمسسه بشر ، الجمال الذي منه تغتصب الدهشة من الذوات ينفي القلق والحزن والضجر، الجمال الذي تتفتح ازهاره ولم يشم عبيرها أحد وكان له ما كان حيث أخضع العطر قلوب الجميع و أرواحهم ففي جبال سنترال بمنطقة “أوفيرج” عثر على رائحته الخاصة/ذاته المفقودة، وعمل في اهم ورشات لصناعة العطور وتعلم كيف يحصل على العطر الخاص بالإنسان فكانت طريقته ان يلف الضحية بقماش مدهون قادر على ان يمتص رائحتها، ثم يقطره لاستخلاص هذه الرائحة…
وصار غرنوى يمتلك ما لم يمتلكه احد ( قوة اخضاع الناس لمحبته ) ولكن ومع ذلك وفى ذروة الانتصار لم يشعر بأى لذة ولا متعة ولا بهجة حياة لانه انتصار زائف وشعر انه هو كانسان لا وجود له دون نبض الحياة في روحه فلا مشاعر فيه وهو المكروه المنبوذ منذ صرخته الاولى في الحياة، واعيا أنه صار متأبلسا تقتات منه الوحدة بل القسوة حتى على نفسه التى كرهها فترك كل شئ وذهب حيث ولد في أكثر اماكن الدنيا قذارة وبؤسا وتكون نهايته البشعة ان التهمه المشردون فى ليلة بائسة رغم ما رشه على جسده من العطور المقطرة وما اراد ان يجمّل به نفسه …
وصل الكاتب في روايته الى تعميق الفكرة ان الإنسان العالمَ خسر ذاته، فوصل إلى ما يعانيه الآن من صراعات وحروب وضياع نفسي وأخلاقي. وروايته “العطر” صرخة تحاول تنبيه هذا الإنسان ليعدل مسار حياته ، يقف على الربوة ويرى اخطاءه وعقده النفسية التى تجعله غير ماهو عليه في الظاهروان كان بموهبة باعجاز .. فالرواية دعوة عميقة الى تعويض النقص و الكراهية والنظر الى القيم والاخلاق والسمو بالانسانية التى اغتيلت فى كل زمان ومكان.

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!