قراءة في رواية: مزار محي الدين.. بقلم. أحمد العربي

لصحيفة آفاق حرة

 

قراءة في رواية: مزار محي الدين.

الكاتب: محمود حسن الجاسم.

الناشر: دار التنوير للطباعة والنشر.

ط ١، ورقية، ٢٠١٧م.

 

محمود حسن الجاسم: روائي سوري، هذا العمل الأول الذي نقرؤه له.

مزار محي الدين: رواية تعتمد أسلوب الكتابة بلغة المتكلم، وهي متصاعدة في أحداثها وفق التسلسل الزمني لحصولها. الزمن اولى سنوات القرن الواحد والعشرين. المكان سورية، حلب وريفها. ابطالها رجال امريكان من المختصين بالتنقيب عن الاثار: موريس الراوي وآدم ومايكل. كذلك بعض النساء والرجال السوريين المكلفين بالعمل مع البعثة، سورين ورجلان أحدهما يعمل مع أجهزة الأمن لمراقبة ومتابعة التنقيب، إضافة لمختار المنطقة الواقعة في ريف حلب المسماة تل الخنادق. المختار هو المنسق بين البعثة والمكلفين من الدولة السورية، وهو المسؤول العملي عن شبكة تهريب كبيرة للآثار تتعامل مع كل الأطراف وتجني المرابح الكثيرة بعلم وخبر من الأجهزة الأمنية المنتفعة من ذلك.

تبدأ الرواية عندما كلف آدم الأمريكي المختص بالآثار بالذهاب الى سورية لمتابعة التنقيب في منطقة تل الخنادق القريبة من حلب. جاء تكليفه من مسؤوله مايكل المختص أيضا بالآثار، مع إيضاحات وخرائط عن المواقع المطلوبة، وأن هناك كنز موجود في منطقة محددة، على آدم أن ينقب فيها ويستخرج الكنز من هناك. آدم من احدى المدن الامريكية، يعيش منذ طفولته في كنف جدته التي كانت مواظبة على اصطحابه معها دوما الى الكنيسة، نشأ آدم محملا بعمق ديني مسيحي، متدين ومؤمن بالله، في ايمانه نزعة صوفية، يرى ان الحضور الالهي يحتضنه كل حين. كان آدم قد أصيب بمرض السرطان قبل مجيئه إلى سورية، وحلم أنه وجدّته في مكان ما وان جدّته تدفعه ليشرب من ماء في ذلك المكان، وانه سيشفى من مرضه بعد أن يشرب من ذلك الماء المقدس. رحلة آدم ذات وجهين الأول للتنقيب عن الآثار والثاني لتنفيذ رؤياه عن مطلب جدته ومن ثم شفائه من السرطان. وصل آدم الى سورية قادما بالطائرة من امريكا، توجه الى مدينة حلب وهناك التقى بسورين وياسر المسؤول الأمني وآخرين، و اصطحبوه إلى منطقة تل الخنادق حيث موضع الحفر والبحث عن الآثار. سنعرف ان المنطقة ممتلئة بالآثار وأن البحث والتنقيب فيها منذ زمن بعيد، بدؤوا العمل في منطقة محددة سلفا. كان المفاجئ لآدم أن مكان الحفر هو ذاته الذي رآه في حلمه، اعتقد يقينا أن الله معه في عمله ويقوده نحو الماء المقدس الذي سيشربه ويشفيه. احضر آدم عمالا للتنقيب بمساعدة المختار، الذي كان ودودا واليفا وكريما، لقد تصرف معهم على أنهم منجم الذهب الذي من خلاله سيحصل على الآثار ومن ثم يهربها مع آخرين ويكون له مع الكل حصص من المال تجعله والاخرين راضين عن مكتسباتهم. كان آدم مسكونا برؤياه الصوفية ويقينه من أنه تحت رعاية العناية الالهية، وخاصة ان مكان الحفر قريبا من مزار قبر رجل دين، ويتواجد بجوار المقام درويش اسمه محي الدين، لا يقترب من أحد ولا يتحدث مع أحد. كان يأخذ من الناس بعض ما يجودون به من طعام وشراب، لقد اكتسب الدرويش محي الدين والمزار مع الزمن بعض الرهبة والقداسة عند عموم الناس. كان لوجود محي الدين والمزار في موقع التنقيب مزيد من تأكيد مشاعر آدم ودعم لرؤياه. أما سورين فقد كانت فتاة جميلة وطموحة تعمل مع فرق التنقيب تحلم ان توطد علاقتها بآدم او غيره من الامريكان، لتستطيع الحصول على فيزا السفر الى امريكا والإقامة والحياة هناك، كانت تتودد لآدم وبضاعتها جمالها وإظهار مفاتنها، لكن آدم كان يعيش في عالم مختلف، رؤياه ومرضه الذي يستشري في جسمه. اما ياسر مسؤول الأمن فقد كان يخبر النظام بكل صغيرة وكبيرة. لا يخفى في ثنايا الرواية حضور خوف الناس عموما من السلطة، وادواتها الامنية الباطشة، تدخلها في كل امر، رعايتها لعمليات التهريب للآثار وغيرها من دخان وغيره. واستثمارها واستغلالها لكل شيء لمصالحها كأجهزة أمنية ولمصلحة مسؤوليها. عموم الناس هناك فقراء ويعملون بالزراعة.

بُدأ العمل بالموقع المقصود وبدأت تظهر بعض اللقيا الأثرية التي كانت تسلّم لياسر مسؤول الأمن، و كلما تعمقوا بالبحث تبلورت تأكدت رؤيا آدم أكثر، وأخذ يظهر عليه بعض حالات الهذيان والاغماء وغياب الوعي، كان يسارع بالتنقيب للوصول الى الماء المقدس، وكانت سورين على تواصل مع مسؤوله مايكل في أمريكا وتخبره عن جميع أحواله. استغرب مايكل ما يحصل مع آدم من هلوسات لا أساس لها من العقل والعلم كما يرى، وان مايكل وآدم عملا سابقا في العراق وغيرها من الدول. وان ما أصاب آدم هو اقرب للعنة الشرق وأوهامه الدينية، كما يعتقد مايكل، وعندما تم التقدم بالعمل أكثر وزادت حالة آدم الانفصامية عن واقعه، قرر مايكل الحضور بنفسه الى موقع التنقيب والبحث عن الآثار والانتقال الى موقع الكنز والبحث عنه لاحقا. حضر مايكل، كان داهية و متمكنا من عمله، يفهم طبائع من يتعامل معهم، وكان على علاقة قوية مع الكل، ومع مسؤوليهم ايضا. أزاح آدم عن العمل، وبدأ معه رحلة حوار وسجال عن ما يعتقد، وأخبره انها مجرد اوهام، وانه بدل انتظار الماء المقدس للعلاج عليه بالعلاج الكيماوي، فقد استفحل السرطان في جسمه، كان آدم قد اوغل في اعتقاده، صحيح انهم وصلوا الى مياه في التنقيب، لكن تبين بعد تحليلها أنها مياه جوفية، وهناك مشكلة في هذه المياه، إنها ملوثة بالعلق الذي يمتص دم الإنسان في أي مكان يصل الى جسده. وهذا يتطلب معالجة المياه وتنقيتها من العلق المصاحب لها. كان لوصول التنقيب إلى المياه احساس باليقين لتحقق رؤيا آدم، وأنه سيشرب و يشفى من السرطان. لكن المرض كان قد استشرى به ولا أمل بشفائه، شرب وتوهم انه يشفى وساعده مايكل للسفر لأمريكا قبل وفاته، وبالفعل توفي في طائرة سفره وهو يحلم بشفاء ترعاه قوى ايمانية كبيرة.

حول مايكل اكتشافه للماء تحت المزار الى فرصة لمكاسب مادية دائمة له وللمختار و لمسؤولين في السلطة السورية التي ترعاه وتحميه. لقد اقترح عليهم أن يشيعوا معلومة حول الماء المكتشف، أنه مقدس ويساعد على شفاء كل الأمراض، وأن يبنى عليه مركز تنقية و يرعاه المختار ورجال من السلطة، و يكون الماء والمكان موردا ماليا، حيث يدفع كل قادم الى المزار والماء المقدس ثمن ماء الاستشفاء والخدمة. و لتحقيق ذلك تم ابعاد آدم الى امريكا لكي لا يموت بمرضه ويرى الناس حقيقة خديعة الماء المقدس، كما تم قتل الدرويش محي الدين عبر تسميم طعامه، لانهم لم يستطيعوا الهيمنة عليه واستخدامه في خدعتهم. لكن المفاجئ للكل ان جثة محي الدين تختفي في البدء، ثم هناك من يراه وقد عاد للتجوال في المكان.

تنتهي الرواية بعودة مايكل الى امريكا، تصحبه سورين التي استطاعت ان تغريه وتكسبه عبر علاقة جنسية، لتصل الى امريكا وتبدأ حياة جديدة.  ترك مايكل وراءه مشروع مركز مزيف للاستشفاء يدر عليه مالا يعتمد على ايمانيات واهية عند الناس وكذب وغش وخداع.

في تحليل الرواية نقول:

اننا امام رواية اشكالية من عدة وجوه:

الأول: لقد وضع العلم مع الرؤى الصوفية في موقع التضاد المطلق بحيث اعتبر الرؤى الروحانية التي يدعمها تدين الانسان اقرب الى الأوهام، وقد تنتهي به الى مضار تصل الى ازهاق روحه فرديا او مع آخرين، وذلك كما حصل مع آدم، والموضوع لم يكن يتعلق بنوع الاعتقاد الديني مسيحي او اسلامي او غيره، الكل في الرواية سواء يدعم الوهم ويغذيه ويقود صاحبه الى الضياع. وبالمقابل تنتصر الرواية للعلم بالمطلق، فكل ما لم يعرف الآن بحقيقته عن طريق البحث العلمي من الظواهر الخفية او الروحانيات سيعرف لاحقا. ولا مكان للغيب في عصر العلم. هنا نقطة ضعف الرواية، أو لنقل اختلافنا مع الرواية: أنها القطعية في في رفض الغيب وأنه مسكون بالوهم ولا يعترف الّا بالعلم وما يدرك الا من خلاله. وهذا منافي لحقيقة ان حضورنا كبشر مع الكون وفي الوجود وفي قراءة البدء للحياة والمآل و الأديان والاعتقادات كلها محض أوهام، هي قطع طريق على الأديان والفلسفة والعلم نفسه. ولا جواب نهائي في هذا الموضوع. صحيح أن مساحة العلم تضخمت في هذا العصر بحيث غطت كل شيء تقريبا. لكنها لم تغلق الباب أمام العقائد والأديان والرؤى الصوفية والوجدانية. صحيح ان الرواية تركت الباب مواربا بعودة طيف محي الدين بعد موته مقتولا، لكن ذلك يغذي الوهم عند الناس أكثر من قوة اليقين والإيمان.

الثاني: اننا امام ذات المشكلة دائما ومنذ قرون، صراعنا مع الغرب المتقدم علميا والذي يجب أن نجعله قدوتنا ونتعلم منه لننهض، بنفس الوقت ذات الغرب الذي يرانا موقعا استثماريا استعماريا حيث يستغلنا وينفذ فينا أحدث مبتكراته العلمية ليزيد مصالحه وثرواته، على حساب وجودنا و  ثرواتنا ورعاية حروب داخلية وبينية بيننا كدول وشعوب و مكونات مجتمعية، ودعم الأنظمة الاستبدادية مثل النظام السوري المجرم الذي يقتل الشعب و يشرده ويدمر البلد ويستدعي جميع المستعمرين الى بلدنا سورية كما هو الحال الآن. وكذلك دعم الكيان الصهيوني في فلسطين المحتلة. وهدف الغرب أن نبقى متخلفين ونضيع كشعوب اكثر واكثر.

اخيرا استطاعت الرواية أن تحرك مياهنا الفكرية والعقلية الراكدة، وأن تدفعنا للتفكير للبحث عن حل للتوافق بين العقل والعلم  مع الأديان و العقائد، والغاء التناقض والخصام بينها…الخ. وتلك مهمة فكرية جليلة مطلوب منا متابعتها، استمرارا على ما فعله أسلافنا العلماء العرب والمسلمين منذ قرون.

 

.احمد العربي.

.٥/٢/٢٠٢٠.

عن محمد فتحي المقداد

كاتب وروائي. فاز بجائزة (محمد إقبال حرب) للرواية العربية لعام 2021م. الروايات المطبوعة هي تشكيل لرباعية الثورة السورية. -(دوامة الأوغاد/الطريق إلى الزعتري/فوق الأرض/خلف الباب). ورواية (خيمة في قصر بعبدا)، المخطوطات: رواية (بين بوابتين) ورواية (تراجانا) ورواية (دع الأزهار تتفتح). رواية (بنسيون الشارع الخلفي)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!