قراءة في قصيدة الشاعرة خديجة عثمان : همسة حب/ بقلم :الشاعر الناقد جواد مرزوق

 النص 
****

لمن يخرج
احساسا 
من بحر
غويص 
و يذوب جبالا
من ثلوج 
فتفيض 
لمن كان يوسف
القديس 
وله مزق
القميص 
لمن وهبت 
الروح
فصرنا كليلى
وقيس
هواك لا زال
يمخر عبابي
فلم انت تعيس …؟؟
ولو صار كثير
الزوابع 
ويحطم مراكبي 
إلا انه في قلبي
يعيش
خديجة عثمان 2016

 

لعل ما يثير الإنتباه في ” همسة ” خديجة عثمان هو العلاقة بين العنوان ومعمار النص ، حيث نلاحظ أن جل السطور تكتفي بكلمة واحدة أو اثنتين ، وهذا التقطيع لم تتعمده الشاعرة في رأيي بل هو نتاج لحالة وجدانية شعورية جعلت حرفها يمج على هيأة دفقات قصيرة المدى تكون العمود الفقري لهذا المونولوج الداخلي .
فعلى مستوى الصوتيات نجد حروف الهمس تهيمن على النص وتكَوِّن مع حروف الحلق تناغما يدل على صدق العاطفة ، وعلى مخاض حقيقي يؤثته التأوه والصراخ المكتوم والتساؤل والأنين .. كما نحس بنبرة التردد في الإفصاح عن لواعج الذات ، دليل ذلك استعمال الشاعرة للكلمة / الصورة أو لِنَقُل للصورة المركزة المعبر عنها بلفظ وحيد وجعل هذا اللفظ في مقدمة السطر بهدف إثارة الإنتباه إليه من جهة ولبيان أنها أمهلت الفكر قبل إطلاق اللفظ من جهة اخرى ، مثل : يعيش ..فتفيض ..قيس ..
ويزخر النص ـ على صغرحجمه ـ بالصور الشعرية المتمثلة في جملة من الرموز المستلهمة من الثرات ، انطلاقا من الأسطورة الى الموروت الديني مرورا بالتراث الأدبي الإنساني ..ويشدك التناص مع قصة يوسف وامرأة العزيز والتي ترسم الشاعرة من خلالها افتتانها بالمحبوب ( يوسف ) الجميل فتعلي شانه وتستدعي قناع امرأة العزيز لتبين التضحية وتنازل المرأة عن كبريائها متى كانت عاشقة..
وهكذا تتحول الشاعرة الى بحر شوق تحتله مراكب الهوى وتمخر عبابه..ولا يختلف اثنان على أن الأنثى لا تقتصد في البذل إن هي أحبت بصدق ، لذلك تتساءل الشاعرة ” لمن وهبت الروح ” ..هو ذاك السؤال المدمر القاتل عندما تكتشف الذات الشاعرة أن من أسلمت له مقاليد مملكة الروح وفتحت له مرافئ بحرها ، لا يستحق لأنه مشاكس يضني الفؤاد ويقابل قطوف الحب بالجحود ويتنكر لربيع الوئام ويثير زوابع الخصام..ولفظ الزوابع يؤدي وظيفة لغوية بلاغية لأن الزوابع في الأصل لا تستمر بل هي موسمية لكنها في كل مرور تخلف الدمار والذهول..
وهكذا وسط مشهد الضياع والإنكسار والأسى ( يحطم مراكبي ) تلملم الشاعرة شتات الأحاسيس وتستقيم شامخة على صهوة الكرم والكبرياء لتعلن لذاك الجاحد أنه رغم الإنفلات والأنواء والأهواء ، رغم كل التراكمات وفوق هذا الدمار ، تعلن أنها جعلت من قلبها وطنا ومنحته وحده تأشيرة العيش على الدوام
هذا وقد استعملت الشاعرة صورا بلاغية توسلت لها بالإستعارة في قولها : يخرج إحساسا من بحر غويص ” للدلالة على عمق الإحساس ورقيه ونذرة وجود لأنه يصدر عن بحر يحتوي الصدفات
كما نجد الكناية في قولها : ” يذوب جبالا من الثلوج ” للدلالة على حرارة الإحساس وطاقته الهائلة ..فقد شبهت الإحساس بالنار وحذفت المشبه به وأوردت القرينة ( يذوب )على سبيل الإستعارة المكنية
أما التشبيه فيظهر في عبارة صرنا كليلى وقيس .وهو تشبيه صورة مركبة بصورة مركبة ، مع اختلاف في وجه الشبه وهو صفة العلاقة التي جمعت بين المجنون وليلى وحالة هاته العلاقة في تجربة الشاعرة
والخلاصة أن همسة الأستاذة خديجة عثمان تنقلنا عبر جسور الكلمة السلسة العذبة دونما غغرلق في الصنعة أو تكلف في البناء ،تنقلنا إلى هسهسة الموج الهادئ في الهزيع الأول من الليل ، وتجعلنا نصغي إلى حروف الهمس تتدفق بين شفتي شاعرة ،كلما نبست ببنت ، اهتز الإحساس وربا وجعل المتلقي يعب الحرف تتذوقه الروح قبل العين.
لكل هذا الجمال لا يسعني إلا أن أشد على يد المبدعة خديجة عثمان وأشكرها على هذا الإمتاع الأدبي الذي ألهمني أن أكتب ما جاد به قلمي المتواضع في قراءة أتمنى أن تضيء بعضا من مساحات هاته الهمسة الرقيقة ..همسة حب

 

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!