قراءة في مجموع طفل المائدتين للهكواتي ( سالم اللّبان ) طفولة الشّاعر/ حكمة الشّعر الباقية

 

عندما نكون في حضرة الشّعر، يبطُل كلّ حديث عن المفاهيم وعن الاتّجاهات والمدارس والتّجاريب وطرائق توليد الصّور الشّعريّة المثيرة للدّهشة والانزياحات والإيديولوجيّات وشاعر كبير وآخر صغير وآخر بين بين وشاعر بلاط وشاعر رصيف وشاعر شغب وشاعر المرأة وشاعر القضيّة وأمير الشّعراء وشاعر الأمراء  وشاعر الحانات وشاعر الصّالونات وشاعر المذهب والطّريقة والعقيدة وشاعر أمسيات شعريّة وأصبوحات أيضا ومن نسل هذا الصّنف نشأت قبيلة شعراء الدّرهم والدّينار والعملات الصّعبة الرّخيصة والجوائز والحوافز والبرامج الإذاعيّة والتلفزيونيّة الأرضيّة والفضائيّة وما بينهما… وغير ذلك كثير من أمراض الشّعر التّي هيمنت وشاعت وروّجت للشّاعريّة المكذوبة التي لا يبقى منها شيء بعد عبور صاحبها إلى عالم النّسيان والغيبة.

عندما نكون في حضرة طفولة الشّعر، نكتفي بالرّحيل إلى ينابيعه الأولى ونحلّق على إيقاع خفقات أجنحته النّورانيّة… ونغفو.4. فتنبثق العوالم المنسيّة وتزهر الحدائق وتضيء الرّوح وتُبهِر فيتبعها الغواة ويسلمون لها القياد راضين مرضيين.

” ما الشّعر… ما وجع الكتابة.. ما الرّؤى؟ ”

هكذا تساءل الشّعراء منذ كان الشّعر، منذ كان الإنسان، ولم يكونوا يبالون كثيرا بالأجوبة. كانوا فقط يرومون التّنبيه إلى جلالة ما يقولون وعظمة ما يملي عليهم الرّوح المستمرّ ( والعبارة لشاعرة أحكمت قراءة المعنى ) في حَلّه وتَرحاله الأبديّ بين ضفّتين متباعدتين فضاءً وصورة ومعنى.. تلك مأساة الشّاعر حين يكتنفه داء الكتابة ويحتويه… وتلك ملهاته أيضا في رحلة الوجع العنيد، يغالب بها ريح الخسارات ويعلو فوق أوجاعه ويسخر..

الشّاعر الوفيّ لمعدن الشّعر وما به يكون الشّعر شعرا، لا يصغي إلاّ إلى نداء أعماقه وهي تملي عليه نشوة الطّريق البكر فيمشيها ولا يطلب منها غير ما يتخفّف به من ثقل الهواجس والرّؤى حيت تكتظّ بأعماقه ويصطخب نبعها في خطواته وتهرّ جداوله صبابة لرحم الأرض وبكارة الطّريق..

تلك طريق الشّاعر  الحقّ وتلك طريقته..  تلك غربته ونشوته… مائدتان متنافذتان إن صمتت إحداهما وتهاوت أو انطفأ ضوؤها في عين الرّوح فنتْ الأخرى وأظلم صوتها وخبا لحنها وذوى الشّعر والشّاعر في مهاوي بعيدة الغوْر بلا قرار.  معبران توأمان.. صوت وصداه يتناجيان ويسخران بالوقت والمادّة وما يذروان من غبار وينثران من ركام الحياة ورمادها وميّت أحجارها. والشّاعر فوق كلّ ذلك، يمشي خفيفا متخفّفا من هامد ظِلاله وفحيح ضَلاله ويشيّد بين المائدتين جسره ينشره متى أراد حجّا إلى ينبوع الذّكرى ويطويه إذا أشفق عليه من خطوة رخاميّة سادرة بلا قلب بصير.

طفل هو الشّاعر إذن، مهما عربدت في حدائقه عواصف الوقت، لاعب عنيد، يأبى أن ينتهي مهما حاولوا أن يدفعوه إلى التزام سواء السّبيل ومستقيم الجادّة، كما يرونها: أمنًا وسلامة وقناعة وإسلامًا ولا طمأنينة أو حياة.

طفل هو الشّاعر، عصيّ على الطّريق التّي سطّروا نافر من كلّ ما عبّد الأوّلون من دروب. شقيّ، كأجداده المستشهدين على أركاح الحياة من عناد وإباء ومن رفض السّجود لغير ما تقيم لهم الرّؤيا من  آلهة لا تتلهّى بمأساة الخلق ولا تلهو.

طفل هو الهكواتي، منذ نجَم في أعماقه وجع الرّحيل وأغراه به الإيقاع وشدّه من أنامل روحه ومشى به/ معه وحدّثه بما يحدّثنا به عند كلّ وقفة ومع كلّ إطلالة بعد هجرة من هجراته، ( وما أكثرها ). رحلة الحالم وحده في عزلة الصّخر الشّاهد على المكان وعلى الإنسان يراقص بنات البحر  ( رؤاه / وأجراسه) وهي تنأى وتقرب فلا وصال ولا هجر، لا شكوى ولا رضى، لا صدّ ولا قبول… حال واقفة بين حالين، ومن وقفتها تلك تلمع الصّور وتقدح في الذّهن شراراتُ المعنى فيكون الشّعر وتكون الحياة التّي لا يعرفها غير الشّاعر.

” طفل المائدتين ” من وراء ضياء الكلمات يخاطبنا ويلوّح بيدين من ياسمين بعيد لا تسمّي الرّوح منه غير ريحه ولا تقرأ إلاّ الثّبات على موعد ظلّ ينأى.. هو صوت الهكواتي الّذي تخلّق على امتداد السّنين من عزمه على أن يكون شاعرا..

ولكن ما الشّاعر؟ ما الشّعر؟… كان يسأل ويحصي الممكنات منه حتّى انتهى كما يرسم نفسه الآن، دون أن يرضى عن المرسوم أو يكتفي به، لأنّ آفة الشّاعر الرّضى وعلّته الاكتفاء كآفة الطّريق تماما: الوقوف.

” فنّان اتّصالي…  ينقّب عن الشّعر في معناه الأوسع ”

فما هذا المفهوم الأوسع؟ وما شأن التّنقيب؟ ومتى يكفّ؟

دع البحث في الأجوبة الممكنة، وانتبه إلى الثّمرة واتّبع النّهر من النّبع إلى المسار حتّى يقف بك عند هذا المصبّ/ البحيرة واسبح في رحيق ما تدفّق من الرّوح واكتفِ منه بما تصيب في القراءة غبّ القراءة وفي الوقفة بعد الوقفة. ذلك هو الشّعر كما يراه الهكواتي: هو الشّاعر يعطي من ذاته لما يُنشئ… صادق صريح واع بطبيعة اللّعبة الاتّصاليّة… وهو القراءة أيضا، وتفاعل حيّ مع مشاعر الشّاعر لحظة الإنشاء… لا معنى للشّعر إذا لم يشحذ ذائقة القارئ ويفجّر فيه طاقة إعادة خلقه.

الفواتح متعانقة في انسجام وأناقة وارفة الحسن. وهي أوّل ما يحتضنك من الطّفل المتقافز  بين المائدتين.. قفزة من هنا منطلقها وعند منوّر صمادح بدؤها، وكأنّها بقيّة صرخة علقت بقلب الشّاعر / الطّفل  وهو يلقي بنفسه من شاهق المعنى إلى قرارة الصّورة: “… وعليك الكلمات” نصف سطر من نصّ جامع جامح.. أوّله عند الغائب هناك في عوالمه البعيدة الباقية.. وآخرة عند الشّاهد الحاضر يستعير الصّوت إيمانا بوصيّة السّلالة ووفاء للرّوح المستمرّ الذي لا يموت. ومنتهى القفزة هناك في رحاب ناحية أخرى مضيئة من الكون عند حديقة جاك بريفار وهو يعلّم الطّفل / الشّاعر كيف يختزل العالم في لوحة ويصهرها في صورة أو يطلقها في صرخة موقّعة كأحسن ما يكون التّوقيع: ” انتظر دخول العصفور إلى القفص. ومتى صار داخله، أغلق برفق باب القفص بفرشاتك. ثمّ امحُ قضبان القفص.”  الحريّة.. اسم آخر من أسماء الطّفل الّذي يستقبلك عند المحراب متهجّدا ممجّدا ومردّدا أغانيه الأولى في حضن الأمومة الوارف الدّفء والنّور. طفل يسبّح بآلائه في محراب الأمومة ويغنّي… ولكنّه يحافظ على طقوس الغناء القديمة.. يحفظ الغناء ويُتقنه ولكنّه يصرّ على الحكاية، حكاية الطّريق إلى النّبع وتفاصيل المغامرة. بين الطّفل والنّبع مسافة قريبة لولا الحرّاس والسّدنة والجندُ والعبّاد التّوابع ولولا الزّوابع والعواصف أيضا… ما أقرب النّبع إلى أنامل روح الطّفل وما أكثر الحواجز والقيود…

يولد الشّاعر / الطّفل من رحم الإيقاع، وبالإيقاع يغلب حين يعتصم به وحده لا شريك يهديه إلى قواعد التلاوة ويعلّمه قانون كتابة الشّعر. ذلك هو الشّاعر. وتلك حكمة الشّعر التي لا تقع إلاّ على من تفجّرت ينابيعه في أعماقه وغذّته أمواهه في صمت بعيدا عن صخب المعلّمين وعصيّهم المجبولة من وصايا الآباء يحرّضون على أبنائهم ويرون في ذلك خيرا لهم…

حين تعبر العتبات الأولى تكون قد تهيّأت لترديد الأوراد. تتباعد المسافات ( مكانا وزمانا ) ولا يرتبك المعنى أو ينفرط عقد الإشارة إلى ما رسم الطّفل وخبّأ منذ عقود زادا لرحلة كلّ ما فيها يثبّت المعنى ويقوّيه. الشّعر نبوءة. وهو رسالة بالضّرورة، ولا بدّ من إبلاغ وإن ثبت اليقين من غفلة النّاس عن الرّسالة والرّسول وضلالة الإخوة وسَدرهم.

أوّل من يحدّثك وأنت ترحل في ثنايا الحكاية طفل يواجه بعناده القيصر.. ريشة ترسم وترسانة تمحو.. طفل يلهو بالألوان عند الفجر ” يرسم  فوق تراب أخضر حلما يكبر وغدا يُثمر حلما أكبر ” وبوم يرحل بالوشاية إلى القيصر المغتاظ من ” سحر الصّورة ” قانون سرمديّ يتلوه الشّاعر مغناة للثّورة الأبديّة التي لا تمجّد غير طفولة الإنسان ولا تؤمن بغير بطولة الفنّان.

من أغاني الياسمين… رحلة أخرى ومعبر آخر إلى وجه جديد من وجوه الطّفل بيدين يكتب معا وبكلّ ما في أعماقه من ولهٍ وعشق للإيقاع.. حرف على وتر يتناجيان ويذوبان كما يذوب الضّوء في صفاء الماء فيكون النّشيد وتكون نشوة تسري في الأرجاء كأوّل الفجر في كثافة اللّيل.. يكتب الطّفل ثمّ يعلّق حروفه على أوتاره وينشرها في وجوه العابرين صخبَ الحياة لعلّها تمنحهم هدْأة ترتاح في ظلالها الأعصاب وتستفيق القلوب من غيبة طالت. من “هدهدة” تغنّى على مهد الرّضيع وتحلم له تبدأ الحكاية. وحين يكبر الطّفل يشقّ الطّريق مدفوعا ببهرة يلمحها من بعيد فيناجي “باب المدينة” ويحدّثه بما كتب لحياته من فرح تغتاله الأسوار العالية والأبواب الموصدة: ” باب المدينة مسكّر / ع اللّي صغيّر ودافي يا داده / م البعد ما أحلاه سُكّر / وكي تذوق مُرّار صافي يا داده “. تلك حصيلة الرّحلة وذاك مأمول الشّاعر الطّفل منها. هو يعرف ذلك طبعا، حدّثه النّبع ووصّاه وغذّى جناحه بما يكفي ليكون صلبا في قلب العاصفة متى كانت وليعبر إلى الضفّة الأخرى رغم الخسارات.

كذلك تقول الشّذرات أيضا. شذرات من الحنين إلى ما كان ولم يخفت بريقه في الأعماق ولم يكفّ عن الخفقان. منها قصيدة “رحيل” التي تختزل مهنة الشّاعر الجميلة والجليلة… طفل فضوليّ يطلب معرفة كلّ شيء ويرحل في طلبه، ولكنّه يعود دائما إلى النّبع الأوّل يلقي على ضفافه حصيلة الرّحلة ويواسي ” ذنوب النّرجس ” بما تهيّأ من ” كبرياء ” وبما جمع من ” قطائف ” على الطّريق. نرجسيّة خلاّقة. الوجه الأشدّ وضوحا من وجوه الشّاعر الطّفل. لهو بريء ولكنّه في غاية الجدّ وفي منتهى العزم على ” نحت الكيان ” وإدراك الواجب على الإنسان منذ سمّي إنسانا. عشق طفوليّ عنيد، هو ما يبقى ” منذ البدء، وقبل النّهاية، وبعدها  ” رغم ” عطش الكورنيش ” وهوّة ما بين المائدتين. إنّه ” المسرب ” الذي يزدري ” الثنيّة المستويّة المكيّسة المقديّة اللّي توصّل ” ويسخر بالماشين على عجل والواصلين ” بالتّعكيز” أو ” بالمزيّة”. ولكنّ الطّفل/ الشّاعر مغامر ( أو مقامر  ) يختار الأصعب والأقسى والأقصى، يختار الطّريق البكر وينحت لخطواته فيها معبرا إلى ما يريد وهو يعي تمام الوعي بأنّها ” ثنيّة طويلة، أرضها صخور مذبّبة، منشّبة من تحت الرّمل، وترابها كي تتمنّاه يلين، في رمشة عين يصبح سبخة..” وبأنّ الحصيلة أحد أمرين: “يا تجيب الصّيد من وذنو / يا تخسر الكلّ في الكلّ “.

تلك هي الحكاية. وذلك هو المغزى منها. حكاية الإنسان رحلة. بدؤها حلم ومنتهاها يقظة. وما بين الحلم واليقظة مسافة تعجّ بالعلامات التي تؤرّخ للعبور العابر السّريع. ومض هي الحياة لولا عين الطّفل وهي تلتقط جوهر الحكاية وترسم عبرتها على الصّخر شاهدا ودليلا.

طفل يتقافز بين مائدتين. وما بينهما يغوص في قاع اللجّة بحثا عن الدرّ الرّاسب في الأعماق. وحده الطّفل يعرف مكامن الدرّ، وحده يختار ما بين القفزة والقفزة أن يتملّى الدرّ في أعماق اللجّة ويحفظ بريقها في أعماقه. ذلك هو كنزه وتلك قطائفه التي تجمّله في عين كلّ ذي نظر وحكمة.

هذا جماع حكاية طفل المائدتين. وذلك هو الباقي من المعنى.

                الأستاذ لطفي الشّابي

شاعر وروائيّ من تونس

lotfi

عن وهيبة قوية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!