قراءة في نص / بقلم الناقد المغربي : احمد وليد الروح

أَبَتِ
ذات حلمٍ رأيتُ
أن الارْض تحتي
تميدُ … تشتعلُ
و اني وحيدٌ
في صحاري
العتمة ملقَى
تصفعُني الرّيحُ
يسْكُننِي الصّقيعُ
تُحِيطُني القُضْبانُ
أصرُخ .. بصِيصَ
نوُرٍ أريدُ
يرْتدُّ إلَيًّ صَوتِي
و الوَجعُ يُمطِرُ
بأرْضِ الرُّوحِ
فتَشْتعلُ و أشتعِلُ
و الانتِظارُ يقْذِفُ القلْبَ
بسِهَامٍ الظُّنونِ …
أترَنّحُ
فتصُدُّني العَتَمَةُ
و إخوَتي هُناكَ
يُحَاولوُن كسْرَ القَيْدِ
و الذِّئْبُ يعْوي يعْوي
ينْهَشُ كَبِيرَهُم
يُطارِدُ صَغِيرَهُم
و يعُودُونَ …
كسرُوا القيِدَ أطلَقُونِي
فسَقطْتُ فِي غَياهِبِ الجُبِّ
وحيداً
إلاَّ منّي و بَقايَا صَوتٍ
سَكَنتْهُ البَّحَةُ فاخْتَنقَ
أخرَجُونِي مِنْ عتَمَةِ الجُبِّ
و لَمَّا
رأيْتُ النُّورَ
أُصِبْتُ باِلعَمَى .

**********************************************************************

يُمكن القول بأن الشاعر توَفََََّق في تكثيف الإيحات من خلال عملية التناص التي نبَعَتْ من النص القرآني ( قصة يوسف) إلى جوار النص الذي بين أيدينا بدلالاته المُحمََّلة برؤية الشاعر لنفسه و الاَّحَوْلَ و لا قوة التي يتخبّط داخلها و رؤيا العالم من حوله .
أول ما نلاحظه كلمة “أبتِ” و ما تحمله من مشاعر وجدانية و حنان و حُب ، فكان باستطاعة الشاعر القول : ” أبي ” أو إضافة ياء النداء ، فيقول :”يا أبتِ” ، لكن الشاعر فضل محاكات النص القرآني ((إِذْ قَالَ يُوسُفُ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ﴾) [يوسف:4] فنجده يقول :

أبتِ
ذات حلم رأيتُ
إن الارض تحتي
تميد … تشتعل
و إني وحيدٌ
في صحاري
العتمة ملقى
تصفعني الريح
يسكنني الصقيع
تحيطني القضبان
اصرخ بصيص
نور اريد

نجد في النص القرآني ” يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ ” يُقابله قول الشاعر : ” أبتِ ، ذات حلم رأيت ” فالشاعر ابتدأ النص بهذه الجملة و ما تحملُهُ من دلالات تاريخية و أبنية مكثفة ،عاد بنا الشاعر من خلالها إلى حقبة تاريخية قديمة ، إلى الزمن القديم زمن الأنبياء ،بكل ما فيه من معاناة كابدها الأنبياء ( و نخص بالقول ، نبي الله يوسف عليه السلام )
و الشاعر لم يختر قصة نبي الله يوسف و ما كابد في حياته من بلاء ، محن و شدائد بسبب أقرب الناس إليه ( إخوته )أو أبعدهم ، إلا ليعبِّر من خلالها عن معاناته و ما يكابده هو الآخر من محن و شدائد ، و هذا هو الغرض من كتابة هذه القصيدة ، أي توجيه دلالة النص و تحديدها في إيطار مكابدة و مواجهة القهر و الألم و غيرها من المعاني التي جاءت في قصة نبي الله يوسف .
فقد أراد الشاعر محاكاة النص القرآني لكن بطريقة معكوسة ، ففي الحلم نبي الله يوسف تنبأ إلى مصيره المشرق و أنه سيصبح ذا شأنٍ كبير ، اي أن الدنيا ستفتحُ ذراعيها له ، لكن ذلك لم يتحقق إلا بعد مشقة و معاناة ، أما شاعرنا فرأى في حلمه الأرض تحته تميد و تشتعل ، مما يعني أن قدماه ليست راسية و أنه بأي لحظة قد يسقط و إن لم يسقط سوف يحترق بإشتعال الارض تحته و أنه وحيد ملقى في الصحاري و العتمة ، تصفعه الريح ( الريح هنا هي الرزايا و المحن و تقلبات الدهر ) ، إنه تصوير دقيق و رائع للخوف الذي يسكنه ( يسكنني الصقيع ) ، سجين تحيط به القضبان من كلّ جانب ، يصرخ ، يبحث عن بصيص نور ( الأمل ) …
فهِمْنا وجه المقارنة في حلم كل من الشاعر مع نبي الله يوسف عليه السلام ، لكن ما لم نفهمه لماذا نبي الله يوسف و ليس نبياً آخر من الأنبياء ؟ و قبل هذه القصيدة قرأنا لشاعرنا قصيدة تحاكي قصة نبي الله موسى عليه السلام .
لماذا الخوض في قصص لأنبياء ؟ و لماذا يوسف بالذات ؟ هل لأنه يحمل معاني النبوة و الطهر و النقاء ؟ أم لأن مصر بعهده ازدهرت و عرفت العدل و القوة ؟ ( ما نفتقده الآن ) ؟ أم لصبره على المحن بقلب راضي و خاشع ؟ كل هذه المعاني تثيرها بداية النص التي جاءت غنية بالموروث الديني .
و قد استطاع الشاعر أن يجسد تجربته الخاصة و ما يلاقيه في حياته اليومية من متاعب و عذاب و ما يشاهده أو يتعرض له من إهانات سواء من القريب ( من يعتبرهم إخوته ) أو الغريب و بذلك مزج هذه التجربة بتجربة النبي يوسف عليه السلام مزجا ً يُظهر مقدرة الشاعر في توظيف النص الديني بلغة شعرية غنية بالمشاعر و الانفعالات تنِمّ عن شفافية النص و عذوبة أسلوبه .
في النص القرآني إخوة يوسف هم من كادوا له و ألقوه في غياهب الجب و الذئب بريء من دمه ، أما بالقصيدة إخوة الشاعر يحاولون إنقاده و إخراجه من السجن لكن الذئب نهش كبيرهم و يطارد صغيرهم هكذا قال الشاعر أو هذا ما استوحاه من واقعه … فذئب النص القرآني ذئب حقيقي أما ذئب القصيدة فهو الظلم أو الظالم متجسد في صورة الذئب ، و حسب ما تعانيه المجتمعات العربية فإن إخوة يوسف هم الشعوب و الذئب هو الحاكم أو الحكام …

يرتد اليًّ صوتي

و الوجع يمطر
بارض الروح
فتشتعل و اشتعل
و الانتظار يقذف القلب
بسهام الظنون …
اترنح
فتصدني العتمة
و اخوتي هناك
يحاولون كسر القيد
و الذئب يعوي يعوي
ينهش كبيرهم
يطارد صغيرهم
و يعودون …

جاء النص متشابكا ، و متلاحما دلاليا ، فهو يعبِّر عن الأنا و عن الآخر و عن أنواع العذاب التي يتقاسمانها ،فعلى مستوى البنية الإفرادية نرى أن القصيدة تحكمها ثلاثة محاور هي: “الأنا” و “هو” و “الآخر” .
الأنا (الشاعر )
هو ( الذئب )
الأخر ( إخوته )
لكن ضمير الأنا يبدو مهيمنا ً تماما ً في الصياغة لأن كثير من الأفعال صُرّفت إلى المفرد المتكلم ( رأيت ، تصفعني ، يسكنني ، تحيطني ، أصرخ ، أريد ، أشتعل ، أترنح ، سقطت ، أصِبتُ ) و كلها مضارعة تدل على الحركة و الإستمرارية .

كسروا القيد اطلقوني
فسقطت في غياهب الجب
وحيدا
الا مني وبقايا صوت
سكنته البحة فاختنق
اخرجوني من عتمة الجب
و لما
رأيت النور
اصبت بالعمى . 

تصوير رائع و منطقي لما يحدث ببعض الدول العربية بعد ثورات الربيع العربي ، فإخوته استطاعوا أن يجتمعوا و ينقدوه ( تكاثف الجهود و إقامة الثورات لإنقاد الوطن من الظلم الذي يرزح تحته ) فالوطن هنا هو الأب و الإبن بذات الوقت يكون الأب عندما يشكو له الشاعر ما يعنيه كإبن من أبناء الوطن ،و يصبح الشاعر وطنا عندما يحاول إخوته تخليصه من السجن ، و فعلا قامت الثورات و تحررت البلدان من الظلم ليسقط الوطن ثانية في غياهب الجب و يجد نفسه وحيدا فكُلٌّ لاَهٍ مرة أخرى في البحث عن لقمة العيش و سماسرة الأوطان يقيمون المضاربات من سيخلف الظالم ، من سيحكم بعده ، فيخنقون صوت الشعب من جديد ( صوت سكنته البحة فاختنق ) فبعدما أشرقت شمس الحرية و ظهر نورها أصيب الوطن مرة ثانية بالعمى ( اخرجوني من عتمة الجب و لما رأيت النور اصبت بالعمى ) في النص القرآني الأب (نبي الله يعقوب عليه السلام أصيب بالعمى لفراق يوسف ) لكن بالقصيدة الوطن ( و هو الأب أو الإبن ) اصيب بالعمى لأنه عاد كما كان أو أسوأ فالثورات لم تحقق شيئا .
نغمة الشكوى المريرة غلَّفت صياغة النص ، و من خلالها حاول الشاعر إخراج كل ما بصدره من مشاعر و آلام ،و مما زاد ها عمقاً كلمة ” أبتِ ” التي تفيض مودة و دفئاً و عطاءً … بعدها تأتي نهاية النص درامية مجسدة في مفردة ” العمى ” الذي أصاب الشاعر بعد رؤيته للنور .
النص خيالي لكنه يكاد ينطق حقائق ملموسة لولا أن الشاعر أصبغ عليها طابع الرمزية و الغموض

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!