قراءة في نص غربة لــ : محمد صوالحة بقلم أحمد وليد الروح

 

غربة
*****
اردد انا الغريب
انا الوحيد
اليتيم
الا مني
وبقايا وجع
نقش على اول الليل
أول الحلم …
وأول القصيدة .
يتيم انا الا
من بقايا قلم
اكلته المبراة
فئن بحرف يتيم
ولم يكمل جملته
وسقط

وتردد ان هي الغريبة …
ان هي الثكلي
ان هي الوجع والدمع
منقوش على اول النهار
واول الدرب .
واختلفنا من منا الغريب …
اهو المكان …
ام اني وحدي الغريب
موصدة هي ابواب الوطن
ولا خريطة
عليه تدلني .
وضاع خطوي في
في طريق انكرتني

وبعيدة انت بعيدة …
والعمر يلفظ انفاسه
تطلين …
والوطن يطل …
وجميعنا نصرخ
عرباء غرباء اينما كنا
لاجئون مشتتون
لا احلام توقظنا
ولا درب يجمعنا
لا بحر يقبلنا
ما عادت السماء تظلنا
والشمس القت بسوادها فغبنا

ولا شيء الا العتمة
ولا شيء الا الاحتراق
ولا طريق الا الاغتراب
لنصرخ جميعا
وتصرخ الامكنة
غرباء نحن دوما
غرباء
وابدا ما كان للغريب
في الغريب رجاء

محمد صوالحة

**************
يتحدث الشاعر عن غربته مع نفسه ، بل داخلها .. من هنا يبدو الولوج إلى عالم الشاعر محمد صوالحة و عالمه الفريد نوع من الرحلة الخيالية و كأننا نركب سفينة تجوب بحر نفسه الملتاعة ، رحلة تحملنا للغوص داخله و معرفة و لو الشيء اليسير مما يخالج نفسه ، و ليس لنا وسيلة لفعل ذلك سوى مجاديف لغته الخيالية الساحرة …
نص ينفتح على انطولوجيا شعرية تلتحم فيها الذات مع الواقع و الأحلام و الأمنيات ، لغة تتحول لوجع و آهات ( أنا الغريب ، أنا اليتيم ، أنا الوحيد .. ) معاناة تجرد الشاعر من نفسه ، تجعله يتحدث عن آخر داخله ، يتحدث عمن لا يمكن الوصول إليه إلا من خلال قراءة هذه الكلمات :
أنا الوحيد
اليتيم
إلا مني
و بقايا وجع
نقش على أول الليل
أول الحلم …
وأول القصيدة .
يتيم أنا إلا
من بقايا قلم
أكلته المبراة
فئن بحرف يتيم
و لم يكمل جملته
و سقط
ثم يعود ليتحدث عنها هي كونُها هي الغريبة و الثكلى و هي الوجع و الدمع .. فمن تراها تكون أهي ذات الشاعر المتعبة تخرج منه فيحدثها و تحدثه أم هي شخص آخر موجود بعالمي الشاعر ( الواقعي / الخيالي ) من هي هذه الشخصية التي اختلف معها و لم يعد يعرف من الغريب منهما ؟ ليضفي صفة الغربة بعد ذلك على المكان ( الوطن) و يتساءل إن كان وحده الغريب أم هناك من يشاركه هذه الغربة . فهذه الغربة التي يتحدث عنها الشاعر ليست غربة مكان أو أشخاص إنها غربة تقبع فيه تسكنه فتجعل كل شيء غريب عنه و هذا ما يجعله يحس بالغربة ، غربة تأخده إلى أبعد من ذلك تسيطر عليه حدّ التيه فهو تائه عن نفسه لا يجدها بأي مكان و تائه أيضا عن المكان فهو الآن يحس أنه يوجد باللاّمكان ، و إن كان الآن داخل وطنه إلا أنه يحس أن وطنه ليس له موصدةٌ أبوابه و لا خريطة تدل عليه ، هكذا يعيش الشاعر حالة من التشتت الذهني التي تجعله يقبع داخل نفسه ليبحث عنها فتتيه عنه و يتيه هو بدوره عن كل شيء حتى عن وطنه …و هذا الإحساس بالتيه و الغربة لم يتولد من فراغ بل هي قسوة الظروف و الوطن أيضا و عدم توفر أبسط حقوق المواطن تجعل الشاعر يتساءل إن كان فعلا مواطن و لديه وطن .
يردد هو : ” أنا الغريب ” لكنه لا ينسَ إدخالها “هي” في غربته ، فيجعلها تردد نفس الكلمات على لسانه فيقول:” هي الغريبة …” هي وجعه و دمعه المنقوش أول النهار و أول الدرب (درب حياته ) ..
بعد تأكيد الشاعر لغربته ، تأتي حيرته حول من منهما الغريب هو أم المكان ، أم الوطن بأبوابه الموصدة .. فخطواته ضائعة و طريقه أنكرته .. لا دليل و لا خريطة تساعده في هذا التيه و ذاك الإغتراب .. و طن يتنكر له و يُضيِّعه من نفسه ، من وجوده و من كينونته …
وتردد ان هي الغريبة …
ان هي الثكلي
ان هي الوجع والدمع
منقوش على اول النهار
واول الدرب .
واختلفنا من منا الغريب …
اهو المكان …
ام اني وحدي الغريب
موصدة هي ابواب الوطن
ولا خريطة
عليه تدلني .
وضاع خطوي في
في طريق انكرتني
و كأننا به الآن يعود لحلمه أو عالمه الإفتراضي ليناجيها ” هي ” مرة أخرى و يتساءل أين هي فالعمر يمر سريعا ، كأنه يريدها أن تعود إليه قبل أن ينقضي عمره و يلفظ أنفاسه … و يستمر بحلمه لتُطل عليه ” هي و الوطن ” معا فيصرخ الجميع ( أي الشاعر و هي و الوطن ) صراخ يؤكد أن العذاب و التعب و الحزن و المعاناة التي يمر منها الشاعر ليست له وحده بل هناك من يشاركه كل عذاباته و غربته ، هناك ” هي” و الوطن ممثلا بالمواطنين الضائعة حقوقهم .
وبعيدة انت بعيدة …
والعمر يلفظ انفاسه
تطلين …
والوطن يطل …
وجميعنا نصرخ
غربة الشاعر هذه تعني انفصاله عن بيئته و مجتمعه و عدم رضاه عن الواقع فكرياً ، و اجتماعياً ، و سياسياً .
يجمع دائما بينها و بين الوطن ، فهي “الحبيبة ” و الوطن واحد ، جزء لا يتجزأ منه ، اذ تطل من بعيد بعدما لفظ العمر أنفاسه ، إنه شعور يقود لقمة اليأس .. و الكل يصرخ ،من وقع الغربة ـ لا وطن ـ الكل لاجئون ، مشتتون ، لا أحلام … لا درب ، لا بحر ، لا سماء و لا شمس .. يأتي الشاعر ليعتم آخر القصيدة بعدما طغت العتمة على روحه المعذبة ، فتعلو نبرة اليأس عند إحساسه بالإحتراق و الإغتراب …
لنصرخ جميعا
و تصرخ الامكنة
غرباء نحن دوما
غرباء
و ابدا ما كان للغريب
في الغريب رجاء
شاعر تتحول اللغة معه من مجرد أداة للتواصل إلى فعل الهيمنة على الذات و ممارسة فعل الإخفاء و التمويه ـ وسط فوضى من الكلمات ـ (فوضى اللوغوس المُتعَبة و المتألمة) بقايا من كل شيء ، بقايا وجع ، بقايا قلم ، يتيم يئنُّ بحرف يتيم .. و يسقط دون أن يكمل جملته .. لغة تتحول إلى ملجأ للشاعر و سكن و سكينة و مأوى وجوده المفتعل داخل آهاته و آلامه ـ القصيدة ـ فالقصيدة هي عالمه الافتراضي الذي يحقق من خلاله ذاته و يثبت وجودها الإفتراضي ، و كأنه بعالم الحقيقية لا يمارس فعل الوجود ، و كأنه ظلٌّ غير مرئي ، يمارس الحياة اليومية بروتينية متكررة تكاد تكون قاتلة ، و حين يرغب بالإحساس بوجوده الحقيقي يفتح باب القصيدة على مصراعيه و يسمح لنا بالدخول معه قبل أن يدخل .. شاعرية صادقة تكاد تكوِّن حقيقة الشاعر التي يبحث عنها ، و كأنه يفتح نفسه لنا لنقرأه ، لنفهمه ، يقرِّبُنا منه دون أن يقترب هو من نفسه فيعيش غربته الدائمة و المستمرة ..
إحساس فُرِض على الشاعر لم يجنح إليه بمحض إرادته ، إحساس لم يأتِ من فراغ بل هو مفروض عليه بفعل ما يحيط بحياته من أمور تؤثر فيه و عليه، فشعوره هذا ليس غربة وجودية ، او ضياعاً نفسيا بل هي معاناة فرضت عليه جعلته يُنطقُ الحروف لنسمع أنينها .
القصيدة تحمل بين طياتها أكثر من الإحساس بالغربة ، إنه انكسار النفس و وحشة الروح ، تضيق به السبل و تشتد العتمة المخيمة على قلبه و كل جوارحه فهو يعيش غربتين ( غربة نفسية و غربة زمانية ) النفسية كل ما يحمله الشاعر من أوجاع بين جنباته أما الزمانية تفرضها ظروف المجتمع و الواقع عليه ، غربة يعجز أي إنسان على احتمالهما مهما كان صبره ، تجلده و عزمه قوياً ، فما بالكم بشاعرنا المعروف بالمشاعر الرقيقة و الإحساس المرهف، إضافة إلى جسده النحيل … و قصيدته التي بين أيدينا خير دليل على ذلك.

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!