قضايا نقدية متفرقة عند الجاحظ- بقلم د. معاذ السّقّا – السّوادن

لصحيفة آفاق حرة

ــــــــــــــــــــــــــــ

 

قضايا نقدية متفرقة عند الجاحظ

بقلم -د. معاذ السّقّا

السودان

فضلاً على المسائل النقدية الكبرى التي أثار الجاحظ، مسائل نقدية كبرى توقف عند موضوعات نقدية عامة فأشار إلى بعضها إشارات عابرة، وفصل القول في بعضها الآخر، وفي الحالتين كن ما كتبه حولها هو المشاعل الأولى التي اهتدى بها من كتبوا بعده في هذه المسائل من هذه القضايا التي توقف عندها.
1- قضية الطبع والصنعة:
لاحظ الجاحظ أن أساليب الشعراء والكُتّاب تنقسم إلى مذاهب مختلفة، فهناك طائفة من الشعراء تهذب شعرها، وتنمقه، وتعود عليه بمراجعة النظر، وتدقيق البصر، حتى يستوي في أحسن صورة، فهي لا تقذف بالخواطر الأولى التي تجود بها قرائحها، بل تعود عليها المرة بعد المرة، ومن هؤلاء زهير والنابغة والحطيئة وطفيل والنمر بن تواب، وهؤلاء يقول الجاحظ عنهم:(ومن شعراء العرب من كان يدع القصيدة تمكث عند حولاً كريتاً، وزمناً طويلاً، يردد فيها نظره ويجعل فيها عقله، وقلب فيها رأيه اتهاماً لعقله وتتبعاً على نفسه، فيجعل عقله زماماً على رأيه، ورأيه عياراً على شعره، إشفاقاً على أدبه، وإحرازاً لما خوله الله تعالى ليصير قائلها فحلاً خنديداً وشاعراً معُلقاً)( ).
وقد اطلق بعض النقاد على هؤلاء الشعراء الذين كانوا ينقحون شعرهم ويعنون به اسم (عبيد الشعر) وكأنهم بذلك يسمون تنقيح الشعر وتهذيبه وتصفيته من أكداره تكلفاً وضعه، من هؤلاء مثلاً الأصمعي الذي تحدث عنه الجاحظ، فيقول: قال الأصمعي:(زهير بن أبي سلمى والحطيئة وأشباههما عبيد الشعر) ويشرح الجاحظ ذلك قائلاً:(وكذلك كل من جود في جميع شعره ووقف عند كل بيت قاله، وأعاد فيه النظر حتى يخرج أبيات القصيدة كلها مستوية في الحوجة، وكان يقال: لولا أن الشعر استعبدهم، واستفرغ مجهودهم حتى أدخله في باب التكلف وأصحاب الصنعة، ومن يتلمس قهر الكلام، واغتصاب الألفاظ، لذهبوا مذهب المطبوعين الذين تأتيهم المعاني سهواً ورهواً، وتنثال عليهم الألفاظ انتثالاً( ).
ويبدو أن الجاحظ فرّق بين التكلف في القول وبين تنصيحه وتهذيبه، لأنّ التنقيح إنما يعني تخير اللفظ الجيد، والعبارة الأنيقة، وهو شيء ضروري لا غنى عنه لأي أديب مجيد، وأما التكلف فيعني اغتصاب الألفاظ وقهرها حتى يظهر فيها الاستكراه والتعقيد، يقول:(قد علمنا أن من يقرض الشعر، ويتكلف الأسجاع، ويؤلف المزجزج، ويتقدم في تحبير المنثور، وقد تعمق في المعاني، وتكلف إقامة الوزن، والذي تجود به الطبيعة، وتعطيه النفس سهواً رهواً، مع قلة اللفظة وعدد هجائه، أحمدُ أمراً، وأحسن موقعاً من القلوب، وأنفع للمستمعين من كثير خرج بالكد والعلاج، ولأن التقدم فيه، وجمع النفس له، وحصر الفكر عليه، لا يكون إلّا ممن يجب السمعة، ويهوى النفح والاستطالة)( ).
وبذلك لم ير الجاحظ بن تنقيح الشعر والعاية به، وبين الطبع تناقضاً، لأنّ الأديب المطبوع المجيد لا يستغني أبداً عن تهذيب أدبه وتشذيبه، فيعود على عمله الفني بعد الأنتهاء منه فيستبدله بلفظه، وبعبارة عبارة قد تكون أشد إظهاراً للمعنى، وتعبيراً عن المراد، ولعل هذا ما جعل الجاحظ يسلك بشاراً – على الرغم من أنه من شعراء البديع، والذين استكثروا منه في شعرهم، واحتفلوا به احتفالاً شديداً – في شعراء الطبع، بل يجعله أطبع المولدين، فيقول عنه:(والمطبوعون على الشعر من المولد بن بشار القيلي والسيد الحميري، وأبو العتاهية… وبشار أطبعهم كلهم)( ).
ويكاد نقاد العرب جميعاً يقرون على هذا المبدأ، ويرون أن الأديب المجيد هو الذي يعود على أدبه فيقومه ويهذبه، ويلقى ما غث منه، يقول السكري:(فإذا عملت القصيدة فهذبها ونقحها بإلقاء ما غث من أبياتها ورث ورذل، والاقتصاد على ما حسن وفخم)( )، ويقول ابن رشيق:(لا يكون الشاعر حاذقاً مجوداً حتى يتفقد شعره، وبعي فيه نظره، فيسقط رده، ويثبت جيده، ويكون سمحاً بالركيك)( ).
ويقول أسامة بن منقذ مخاطباً الشعراء:(وأشعرها أولاً، وهذبها أولاً، وهذبها آخراً، فقد قيل عن الحطيئة: إنه كان يعمل القصيدة في شهرين، ويهذبها في شهرين)( ).
ولكن الجاحظ قد تنبه مع ذلك إلى أنّ هنالك مواقف بأعيانها تستدعي من الأديب أكثر من غيرها أن يعني بأدبه، ويطيل النظر والتدقيق فيه، ولا يدعه للخواطر الأولى التي تأتيه، فشعر التكسب يحتاج إلى مجهود وعناية ليرضى الممدوح، وكذلك الكلام الذي يلقى في معاظم التدبير، ومهمات الرأي، وفيما عدا ذلك يأخذ الشاعر عفو الكلام، ويترك المجهود، ويقول:(من تكسب بشعره، والتمس به حلات الأشراف والقادة وجوائز الملوك والسادة في قصائد السماطين، وبالطوال التي تنشد يوم الحفل، لم يجد ابداً من صنيع زهير وأشباههما، فإذا قالوا في غير ذلك أخذوا عقد الكلام وتركوا المجهود… وكانوا مع ذلك إذا احتاجوا إلى الرأي في معاظم التدبير ومهمات الأمور، مشوه في صدورهم، وقيه على أنفسهم، فإذا قومه الثقاف وأدخل الكبر، وقام على الخلاص، وأبرزوه محككاً منقحاً، ومخفي من الأدناس مهذباً)( ).
وإذا كان للتهذيب والتنقيح فضيلة في إخراج كلام جيد، وإنتاج أدب مهذب مختار، فإنّ للبديهة، وسرعة الأخذ في القول، والقدرة على الارتجال، مزايا لا يستطيع أحد أن ينكرها أو يحط من شأنها. وما أكثر المواقف التي تستدعي من المرء كلاماً لم يكن قد أعده أو خطر بباله، ولا ينقذه في هذه الحالة، ويظهره على خصومه، ويهيء له احترام الجمهور إلّا سرعة البديهة والقدرة على الارتجال.
ويرى الجاحظ – كما سبق- أنّ هذه الفضيلة مقصورة على العرب وحدهم، وهي ميزة من مزاياهم، ينفردون بها عن غيرهم، وذلك أنّ العربي يكفي أن يريد القول حتى تأتيه المعاني إرسالاً، وتنثال عليه الألفاظ انتثالاً، على حين أنّ غيرهم من الأمم لا يقدرون على الارتجال، ولا يتمتعون بسرعة البديهة، كل معنى لهم فغنما هو طول فكرة عن اجتهاد ورأي وطول خلوة، وعن مشاورة ومعاونة وعن طول تفكر ودراسة الكتب( ).
وإذا كانت الحماسة للعرب هي التي تحمل الجاحظ على هذه المقارنة، فإنّ الحماسة الشديدة هي التي تدفعه أيضاً إلى تلك المبالغة الفضفاضة التي رأيناها فيما سبق حتى زعم (أنّ كل شيء للعرب فإنما هو بديهة وارتجال وكأنه إلهام، وليست هناك معاناة، ولا مكابدة ولا إحالة فكرة، ولا استعانة) وكأنه نسى أنه كان يحدثنا منذ قليل فقط عن الذين يبذلون في أدبهم مجهوداً كبيراً من شعراء العرب، وأنّ بعضهم كان ينفق في قصيدته سنة حتى يتمها ويذيعها في الناس، ورأيناه يمدح ذلك ما دام لا يخرج بصاحبه إلى التكلف والتعسف واستكراه الكلام وتعقيده.
2- السرقات الشعرية:
وهي قضية شغلت بال الناس طويلاً، وكثر الحديث عنها، وتتبعها النقاد يكتبون حولها الصفحات الكثيرة فتحدثوا عن سرقة أبي تمام، وعن سرقات البحتري، وتتبعوا تلك الأبيات المعروفة يرجعونها إلى مصادرها وأصولها الأولى. ونجد الجاحظ اسبق من آثار هذه القضية، ويبدو أنه لم يتحمس للحديث عنها حماسة غيره من النقاد، يقول:(ولا يعلم في الأرض شاعر تقدم في تشبيه معيب تام، وفي معنى غريب عجيب، أو في معنى شريف كريم أو في بديع مخترع، إلّا وكل من جاء من الشعراء بعده أو معه إن لم يعد على لفظه فيسرق بعضه أو يأسره، فإنه لا يدع أن يستعين بالمعنى، ويجعل نفسه شريكاً فيه، كالمعنى الذي تتنازعه الشعراء فتختلف ألفاظهم وأعاريض أشعارهم، ولا يكون أحد منهم أحق بذلك المعنى من صاحبه، أو لعله أن يجحد أن سمع بذلك المعنى قط، وقال: أنه خطر على بالي بذلك المعنى من صاحبه، أو لعله أن يجحد أن سمع بذلك المعنى قط، وقال: أنه خطر على بالي من غير سماع، كما خطر على بال الأول)( ). فالجاحظ – كما يالحظ – يرى السرقة أمراً لا بد منه، ولا سيما في المعاني العامة المشتركة بين الشعراء؛ فهم يستعينون بخواطر بوضعهم، ويتنازعون المعاني فيما بينهم، ويدعي كل منهم أنها من بنات أفكاره، وإذا سبق أحدهم إلى معنى غريب عجيب فإن الأنظار تتجه إليه محاولة سرقته أو اقتباسه. ولكن قد تتشابه خواطر الشعراء دون أن يكون قد أطلع على ما قاله غيره، ويرى الناس هذه الخواطر، فيحسبونها سرقة ولم يستطيع الجاحظ أن يحسم النزاع حول السرقات، ولم يدل برأيه فيما يعده سرقة وما يعده من توارد الخواطر أو من المعاني الشائعة التي لا اختصاص بها بعصر دون آخر أو شاعر دون سواه، كما لم يفصل القول فيمن أخذ معنى فأضاف إليه جديداً هل يعد سارقاً أو مبتدعاً؟ وغير ذلك من الجزئيات التي تتصل بموضوع السرقات الشعرية، والتي كثر الحديث عنها في كتب النقد العربي، ومهما يكن من شأن، فالجاحظ لم يتوقف طويلاً عند قضية السرقات، لأنه لم يرها أمراً ذا خطر، بل لم يجد مندوح عنها، وستشيع فكرة الجاحظ هذه، وسنرى بعد كثيراً من النقاد يرون في السرقة أمراً لا مفر منه، سيقول الآمدي مثلاً:(السرقة باب ما يعري منه أحد من الشعراء إلّا القليل…)( ).
ويقول الجرجاني:(والسرقة أيدك الله داء قديم، وعيب عتيق، وما زال الشاعر يستعين بخاطر الآخر، ويستمد على قريحته، ويعتمد على معناه ولفظه…)( ).
ونحسب أنّ فكرة التخفيف من أمر السرقة، وعدم وجدانها أمراً خطيراً يلام عليه الشاعر كبير لوم، إنما كان من وحي ما شاع بين الناس من فكرة استنفاد القدما للمعاني، وأنهم قد سبقوا إلى كل مخترع من القول، وإلى كل جديد عجيب، وأنّ المتأخرين عيال عليهم في ذلك، وقد أشار الجاحظ إلى هذه الفكرة حينما قال:(وقالوا لم يدع الأول للآخر، معنى شريفاً ولا لفظاً بهياً إلّا أخذه)( ).
وقال من بعده ابن طباطبا:(المحنة على شعراء زماننا في أشعارهم أشد منها على من كان قبلهم، لأنهم قد سبقوا على كل معنى بديع، ولفظ فصيح، وحيلة لطيفة وخلابة ساحرة)( ).
ففي مثل هذه الحالة التي يستنفد فيها القدماء جميع المعاني يكون من البديهي أن يكون ما سيقوله المحدثون أو عظمة صورة مكررة، أم مشابهة لما قاله المتقدمون، وبذلك تكون السرقة أمراً لا مفر منه كما يقول الجاحظ. على أنّ الجاحظ لم ينس مع ذلك أنّ هنالك معانٍ تبقى علماً على أصحابها، وعلامة يعرفونها، فلا يستطيع أحد أنْ يقلدها أو يسرقها، أو ينازع صاحبها فيها، فمن هذه المعاني مثلاً قول عنترة في وصف الذباب:(بحر الكامل):
جادت عليه كلُّ عين ثـــــــــــرةٍ * فتركن كل قرارة كالدرهــــــــــــــــــــم
فترى الذباب بها يغني وحده * هزجاً كفعل الشارب المترنــــــــــمِ
غرِداً يحكُ ذراعــــــــــه بذراعه * فعل المكبَّ على الذنادِ الأجْــدمِ
فقد وصفه عنترة فأجاد وصفه، فتحامى معناه جميع الشعراء، فلم يعرض له أحد منهم، ولقد عرض له بعض المحدثين ممن كان يحسن القول، فبلغ من استكراهه لذلك المعنى ومن اضطرابه فيه أنه صار دليلاً على سوء طبعه في الشعر( ).
3- الانتحال في الشعر:
ألمَّ الجاحظ بمسألة الانتحال في الشعر، وهي قضية كان قد عالجها ابن سلام في مقدمته لطبقات فحول الشعراء معالجة وافية، وفي أثناء تعرض الجاحظ للحديث عن بعض أنواع الحيوان، وما يتناقله الناس من الأشعار حولها، أبدى شكه في بعض هذه الأشعار، طبق عليها بعض المقاييس التي كان ابن سلام قد أشار إليها قبله، فهو يرد قول الأفوه الأودي:
كشهاب القذف يرميكم به * فارسُ في كفـــــــــــــــــــــــــه نارُ
بقوله: أما ما رويتم من شعر الأفوه فلعمري إنه لجاملي، وما وجدنا أحداً من الرواة يشك في أن القصيدة مصنوعة، وبعد فمن أين علم الأفوه أن الشهب التي يراها إنما هي قذف ورجم وهو جاهلي؟ ولم يدع هذا أحد قط إلا المسلمون، فهذا دليل آخر على أن القصيدة مصنوعة( )، فهو يطبق على قصيدة الأفواه مقياساً معنوياً، فما في البيت من معنى القذف والرجم بالشهب معانٍ إسلامية مستحدثة، تحدث عن القرآن الكريم، ولم تكن معروفة في البيئة الجاهلية، وفي هذا دليل على أنّ القصيدة صنعت في الإسلام، وحُمِلت على الأفواه.
ويرد الجاحظ أيضاً قول بشر بن أبي خاذم:
والعير يرهقهـــــــا الحمارُ وجحشهــا * ينقضُّ خلفهما انقضاض الكوكب
فيقول: طعنت الرواة في قول بشر، فزعموا أنه ليس من عادتهم أن يصفوا عدو الحمار بانقضاض الكوكب، ولا بدن الحمار ببدن الكوكب( )، فالصورة في البيت ليست صورة جاهلية، ولا مما تعرفه أساليب القوم في التعبير والتشبيه وفي هذا الدليل على صنعتها.
ويرجح الجاحظ أحياناً أسباب الانتحال إلى الرواة أنفسهم، يقول عن بشر:(في شعر بشر مصنوع كثي مما احتملته كثير من الرواة على أنه صحيح شعره، فمن ذلك قصيدته التي يقول فيها:

فرجي الخير وانتظري إيابي * إذا ما القارض العنزي آبـــــــــــا( )
وكذلك يشك في شاهد النحويين:
عادتينا لا زلت في ثبـــــــــــاب * عداوة الحمـــــــــــــــــار للغراب
ويقول عنه: ولا أدري من أين وقع إليهم هذا( ).
4- قضية القديم والحديث:
من القضايا النقدية الخطيرة التي خاض الناس فيها كثيراً، فوازنوا بين القديم والجديد، واختلفوا حولها، وكانت طائفة اللغويين والنحويين أكثر الناس توجها للقديم، تفضله لمجرد قدمه، لا لما فيه من فن وجودة، ويعتمد الزمن وحده مقياساً في الحكم. فابن الأعرابي مثلا لا يعتد بشعر المحدثين، ويرى أن أشعار (أبي نواس وغيره مثل الريحان يشم يوماً فيذوي فيرمي به، وأشعار القدماء، مثل المسك والعنبر كلما حركته ازداد طيباً)( ).
ويسمع أرجوزة لأبي تمام على أنها من بعض أشعار هذيل، فيعجب بها، ويطلب أن تسجل له، ويقول: ما سمعت بأحسن منها، حتى إذا أخبر أنها لأبي تمام – المتأخر الزمن – سقطت القصيدة في نظره، وأصبح حكمه عليها (خرق، خرق)( ).
وذهب مذهب الأعرابي بعض اللغويين والنحويين في الحكم على الشعر، إذ كان الزمن هو مقياسهم الأول في إصدار أحكامهم النقدية، ولا شك أنه مقياس خاطئ، ترفضه طبيعة الأمور، وإذا كان الجاحظ المعتزلي يحكم العقل في كل شيء، ويرجع إليه في قياس جميع الأمور، فإنّ هذا العقل يروض مثل هذا التعصب المقيت، ولا يحفل بمقياس القدم والحداثة في الحكم على الفن. ردالجاحظ على تعصب اللغويين والنحويين للقديم، وانتصر للشعر الجيد سواء كان قديماً أم حديثاً، وهاجم من يسقطون أشعار المولدين، واتهمهم بعدم البصر بالأمور، ولكنه رأى أنّ العرب المحدثين افضل من المولدين في قوله الشعر.
يقول:(والقضية التي لا احتشم منها، ولا أهاب الخصومة فيها، أنّ عامة العرب والأعراب والبدو والحضر من سائر العرب أشعر من عامة شعراء الأمصار والقرى من المولدة النابتة، وليس ذلك بواجب لهم في كل ما قالوه، وقد رأيت أناساً منهم يعرجون أشعار المولدين، ويسقطون من رواحاً، ولم أرَ قط إلّا في رواية للشعر غير بعيد بجوهر ما يروى، ولو كان له بصر لعرف موضع الجيد ممن كان، وفي أي زمان كان)( ).
ويتحدث عن شعر أبي نواس، وهو رمز الثورة على القديم في العصر العباسي، وأشهر من وقف فيوجه المحافظين من الرواة واللغويين، فيسوق من أشعاره عشر طرديات متتباعة يصف فيها خروجه للصيد بالكلاب المعلمة، فيفضله في وصفه للكلاب على القدماء، ويقول: إنّ هذا هو حكم الناقد ما لم يكن من المتعصبين للقديم، وأهلاً لبدو لا يرى الشعر إلّا لهم، يقول:(وصفات الكلاب في أراجيزه، هذا مع جودة الطبع، وجودة السبك، والحذق بالصنعة، وإن تأملت شعره فضلته إلّا أن تعترض عليك فيه العصبية، أو ترى أنّ أهل البدو أبداً أشعر، وأنّ المولدين لا يقاربونهم في شيء، فإن اعترض هذا الباب فإنك لا تبصر الحق من الباطل ما دمت مغلوباً)( ).
ويفضل أبيات أبي نواس المولد:
على خبر إسماعيل واقية الدُخل * وقد حل في دار الأمـــانِ من الأكل
وما خبره إلّا كأوى يُرى ابنهــــــــا * ولم تُر أوى في الحرون ولا السهل
على أبيات المهلهل الجاهلي القديم:
أودى الخيار من المعاشر كلهم * وأستب بعدك يا كليب المجلس
وتنازعوا في كل أمر عظيمــــــــة * لو قد تكون شهدتهم لم ينبــــــو
ويقول: وأبيات أبي نواس – على أنه مولد شاطر – أشعر من شعر مهلهل في إطراق الناس في مجلس كليب( ).
وليس الشأن في ذلك مع أبي نواس وحده، فالجاحظ كثيراً ما يستحسن أشعاراً للمحدثين، ويشيد بها، ولو لم يكن أصحابها من المشهورين، فهو يذكر أشعاراً للقدماء في الحديث عن قول عمر النسر، وضرب المثل به، ثم يعقب على ذلك بقوله:(وإن أحسنت الأوائل في ذلك فقد أحسن بعض المحدثين، وهو الخزرجي، في ذكر النسر وضرب المثل به)( ). وكثيراً ما يذكر الجاحظ مختارات من أشعار المحدثين مستحسناً، كقوله:(وأبيات للمحدثين حسان)، وبعدها يورد أبياتاً للعتابي وأبي نواس( ). وهكذا وضع الجاحظ المقياس الصحيح لقضية القديم والحديث رداً على جهود بعض اللغويين والنحويين ونقضهم للقديم.

عن محمد فتحي المقداد

كاتب وروائي. فاز بجائزة (محمد إقبال حرب) للرواية العربية لعام 2021م. الروايات المطبوعة هي تشكيل لرباعية الثورة السورية. -(دوامة الأوغاد/الطريق إلى الزعتري/فوق الأرض/خلف الباب). ورواية (خيمة في قصر بعبدا)، المخطوطات: رواية (بين بوابتين) ورواية (تراجانا) ورواية (دع الأزهار تتفتح). رواية (بنسيون الشارع الخلفي)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!