قَانُونُ البَلاغَةِ والشّاعِرُ اليَمَنِيٌّ (محمودٌ أبوبكر)

 

بقلم : مجيب الرحمن الوصابي ( تونس )

جاءَ فِي قانونِ البَلاغةِ : ” وأمّا براعةُ الاستهلالِ فهي من ضروب الصنعة التي يُقدّمها أمراءُ الكلام ونقادُ الشعرِ وجهابذة الألفاظ، فينبغي للشاعر إذا ابتدأ قصيدةً مدحا أو ذما أو فخرا، أو وصفاً أو غير ذلك من أفانين الشعر ابتدأها بما يدلّ على غرضه فيها، كذلك الخطيبُ إذا ارتجل خطبة، والبليغُ إذا افتتح رسالة؛ فمن سبله أن يكونَ ابتداء كلامه دالا على انتهائه وأوّله ملخصا بآخره”.

تَذكرتُ هذا المبدأ التراثي الشعري أو القانون البلاغي، حال سماعي لمطلعِ قصيدةِ الشاعرِ اليمني الفذ ( محمود أبوبكر*) التي ألقاها مؤخرا في المدرسة السليمانية وسطَ العاصمة التونسية؛ وتلقفها جمهورُ الحاضرين مستحسنين، حيثُ مطلع القصيدة التي اُبْتدأت بهِ يشتملُ على هذا القانونِ القار في مدماك الشعر العربي، وأدركتُ أنني أستمعُ لأميرٍ من أمراء الإبداع، لشاعرٍ قيلٍ ذي ثقافة تأسست على الأصالة والبيان فقال في شطر بيت وأوجز وجمعَ فيهِ معانٍ كثيرةٍ تدور حوله بحوث أكبر حين قال:

شِعْرِيْ لَمِنْ نَفَسِ الرحِيْمِ تَنَفْسَا

هذا المطلعُ فيهِ من البلاغةِ والبيانِ ما فيه، ما لو اكتفى الشاعرُ بهِ دون القصيدة لأوفى وجمع، فالاستعارة النابضة في قوله ( شعري… تنفسا) محملة بالدلالات والإحالات التناصية من القرآن ( والصبح إذا تنفس ) والسنة النبوية (نفسُ الرحمنِ ) والتراثُ الشعبيّ .. “جلّ مَنْ نفّسَ الصباح”…؛ الموحية بثقافة الشاعر ومشارب تكوينه العلمي، والقراءات المتعددة؛ فتنفس شعرُ الشاعرِ ربما تأولنا فيه سياق الشاعر من ظروف انتاج الخطاب وحالته بعد خروجه من اليمن بدلالة الجملة المعترضة (لمن نفس الرحيم ) بين طرفي الإسناد المسند إليه المبتدأ ” شعري” والمسند الخبر ” تنفّسا” … على أنّ لفظةَ “الرحيم” المقترنة ذهنيا في سياق البسملة بــــ”( الرحمن الرحيم ) وفي خطاب الشاعر “نفس الرحيم” تأخذنا إلى حديث الرسول صلى الله عليه وسلم فيما رواه الطبراني من حديث أبي هريرة ” الإيمان يمان، والحكمة يمانية، واجد نفس الرحمن من قبل اليمن”.

قد يرى بعض المتأولين/ المفسرين أنَّ المُراد بـــــ” نفس الرحمن” مثل “فرج الرحمن”: يُراد به تفريج الرحمن، اسم وضع موضع المصدر، والمراد “أني أجد تفريج الرحمن من قبل اليمن”!

يذكرُ أبو حامدٍ الغزالي ما نسبته سماعا عن بعض الحنابلة إلى الإمام أحمد بن حنبل أنّه منع التأويلَ إلا في ثلاثة أحاديث، منها حديث النبي صلى الله عليه وسلم :” إني لأجد نفس الرحمن من جانب اليمن” على أني أظن هذا الرأي ليس لابن حنبل، ولا إلى مدرسته التي ترفض (المجاز) جملةً وتفصيلا خصوصا في القرآن والحديث خشية التعطيل، وفي الاستعارة شيء من الميتافيزيقيا التي لا يمكن إدراكها، ويكون التأويل تعسفا وانتقاما للفلسفة من الفكر.

نقل الجاحظ عن ابن المقفع قوله: ” ليكن صدر كلامك دليل على حاجتك، كما أنّ خير أبيات الشعر البيت الذي إذا سمعت صدره عرفت قافيته وغرضه” وعند سماعنا لــــ” شِعْرِيْ لَمِنْ نَفَسِ الرحِيْمِ تَنَفْسَا” ندرك أن الشاعر الدكتور محمود سيتحدث عن بلده المكلوم بوجعٍ، فكان في شطر البيت (ايجاز).

سأل معاوية بن ابي سفيان صحار بن عياش العبدي: ” ما تعدّون البلاغة فيكم؟” قال: الايجاز وهذا الرأي لابن المقفع أيضا. ويقول الجاحظ أنّ الايجازَ هو ” قلةُ عددِ الّلفظ مع كثرةِ المعاني” ويقولُ ” أحسن الكلام ما كان قليله يغنيك عن كثيره”

وعند البلاغيين القدماء ” خيرُ الشعرِ ما قامَ بنفسه وكمل معناه في بيته، وقامت أجزاء قسمته بنفسها واستغنى ببعضها لو سكت عن بعض” ، وهكذا كان شطر بيت الشاعر( محمود أبوبكر) مستغنٍ عن كلّ القصيدةِ ومختزلِ لها معبرا عن الحال جامعا للمقام والسياق، وأكرر ” كل القصيدة مختزلة في شطر مطلعها الحسن” لأترككم لقراءة القصيدة، فتلمسوا قولي فيها :

شِـعـري لَـمِنْ نَـفَسِ الـرّحيمِ تـنفسا
ومـــنَ الأَصــالـةِ والـبـيـانِ تـأسَّـسَا

أَوَلـستُ مـنْ أصـلِ الـعروبةِ منْبعي
وَوُسِـمْـتُ لـلـيمنِ الـسّـعيدِ مُـجَنّسَا

كَـيْنونَتي مـنْ بـطنِ حِـمْيَرَ مِنْ سَبَا
أَكْـــرِمْ بِـهـا أَصْــلًا وَأَكْــرِمْ مَـغْـرَسَا

مِــنْ مَـوْطِنِ الأَقْـيالِ والأَذْواءِ مَـنْ
كـانـوا هُــمُ الـقومَ الأشـدَّ الأَشْـرَسَا

بَـلـدُ الـتّـبابِعِ والـسّـمادِعِ مـجـدُهم
نـقشٌ عـلى هـامِ الـمدىٰ لنْ يُطْمَسَا

إِنـــي لَـمـنْ أرضِ الـسـعيدةِ هـكـذا
وُصِـفـتْ قَـديـمًا مَـا أَحـبَّ وَأَنْـفَسَا

وَهَــبَ الـجمالَ لـها وَأَعـلى قَـدْرَها
سُــبْـحـانَـه اللهُ الــكـريـمُ تَــقَـدَّسَـا

لَــكِـنْ مَـــع أَسَــفـي تَــبَـدَّلَ حـالُـها
غَـطّى ضُـحاها دامـسٌ قَـدْ حَنْدسَا

أَرْضُ الـسَـعيدةِ لَــمْ تَـعُـدْ بِـسَعيدةٍ
فِـيـها الـشّـقاوةُ مــا أَشَــدَّ وَأَتْـعَـسَا

عَـاثَـتْ بِـهـا أَيْــدي الـبُغاةِ فَـأَبْدَلَتْ
بِـالـوُدِّ والأُنــسِ الـعَـداوةَ والأَســى

فـــي كــلِّ مَـنـطِقَةٍ لِـحَـرْبٍ مَـظْـهرٌ
فـــي كــلِّ زاويــةٍ تُـشـاهدُ مَـتْـرَسَا

فَـحَمَلْتُ مِـنْ هَـمِّ الـسّعيدةِ ما نَأَتْ
عَــنْ حَـمْـلِهِ صُــمُّ الـجـبالِ تَـوَجُّسَا

سَــأَظَـلُّ اَذْكُـــرُ حـالَـهـا مُـسْـتَنْهِضًا
هِـمَماً بـمَنْ هُـمْ يَـصْمتُونَ تَـحَسُّسَا

وَأُظَـــلُّ أَنْــشُـدُ مَـجْـدَهـا وَرُقِـيّـهَـا
فـيـما اسـتَطَعْتُ وَلَـنْ أَمَـلَّ وَأَيْـأَسَا

وَدّعْـتُـهـا وَحَـنـيـنُها فـــي أَضْـلُـعي
وَهـواجِسي فـي كـلِّ صُبْحٍ أوْ مَسَا

وَلِـقِـبْـلَةِ الـعُـلَـماءِ تـونـسَ والـهـوى
يَـمّمْتُ وجـهيَ قـاصِدًا كـي أَدْرُسَـا

مُـتْـأَبّـطًا هَــمّـي وهـــمَّ سَـعـيـدَتي
وَبِـتـونسِ الـخَضْرا أَنَـخْتُ لِـتُؤنِسَا

وَأَتَـيْـتُ أَقْـطِـفُ مِـنْ جَـنى أُدَبـائِها
مُــتَــنَـسّـمًـا آثـــارَهـــم مُــتَـلَـمّـسَـا

فَـوَجَـدْتُـهـا نِــعْـمَ الــبِـلادُ نَــضـارَةً
وَأَصـــالـــةً ومــكَــانــةً وَتَــفَــرُّسَــا

أَنّـــى اتّـجَـهَـتَ بــهـا تَـجِـدْها آيــةً
في الحُسنِ أَلْبَسَها المليكُ السُّندسَا

حـتّـى الأَسـامـي يُـسْـتلَذُ سَـمـاعُها
إِذْ أنّ فــيـهـا لـلـحُـشـاشَةِ مَــأَنَـسَـا

مِــنْ مِـثْـلِ نـابلِ والـمروجِ وقـابسٍ
وكـذلـك الـفـردوسُ تَـشْـرحُ أَنْـفُسَا

ووَجَــدْتُ فـيها مِـنْ أَصَـالةِ مُـحْتَدٍ
وَكَـــرامـــةٍ وَبَــشــاشَـةٍ مُـتَـنَـفّـسَـا

أَنــعـمْ بِــهـمْ مِـــنْ قـــادةٍ ورعــيّـةٍ
نـعـمْ الـنـموذجُ مْـن رجـالٍ أوْ نِـسَا

لَـوْ كَـانَ مِنْ قَلْبَيْنِ في جَوْفِ امرءٍ
سَـيـكونُ قَـلـبايَ الـسـعيدَ وتُـونِـسا

فـلـكم وددتُ بِــأَنْ اعــودَ بِـحـظوةٍ
مِــنْ مُـجْـتَنى أدبـائـها عـلّي عـسى

» الشاعر في سطور

محمود محمد يحيى أبوبكر. شاعر وخطيب وشخصية اجتماعية. ولد 1972/5/1م في محلة (الجرعمية) التابعة لقرية (القزعة) مركز مديرية بلاد الطعام .محافظة ريمة، توفي والده وهو في حوله الأول. فعاش يتيم الأب في كنف والدته. درس الابتدائية في مدرسة (الحرية) ثم مدرسة (الفتح) بمركز المديرية؛ ثم التحق بمعهد معلمي الفتح نظام خمس سنوات. فتخرج فيه عام 1990م وعمل في التعليم. الأساسي ثم وكيلا لمدير مدارس بلاد الطعام. ثم التحق بكلية التربية قسم اللغة العربية بجامعة الحديدة وتخرّج فيها عام 1998م، الأول على الدفعة بتقدير عام ممتاز لم يتمكن من الإعادة فعاد إلى بلدته وعمل مدرساً لمادة اللغة العربية في التعليم الأساسي والثانوي. وشغل عضوا للمجلس المحلي بالمديرية ثم عاقلا لقرية القزعة. ثم ابتعث أواخر 2008م لدراسة الماجستير والدكتوراه ضمن منح التبادل الثقافي إلى دولة سوريا وفي كلية الآداب جامعة تشرين – اللاذقية 2012م حصل على درجة الماجستير في الأدب ونظرا لظروف الحرب في سوريا لم يتمكن من مواصلة الدكتوراه. كما لم يسعفه الحظ آنذاك للتحويل إلى دولة أخرى. فعاد إلى بلدته وعمل في مجال التعليم ثم موجها. ومدرسا متطوعا في كلية التربية والعلوم التطبيقية ثم عمل مدرسا بنظام الساعات بكلية التربية- جامعة إقليم سبأ. وفي عام 2021 ابتعث لدراسة الدكتوراة ضمن منح التبادل الثقافي إلى دولة تونس -جامعة تونس- كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية- قسم اللغة العربية- تخصص دراسات أدبية وما زال بصدد ذلك.
– حضر عدداُ من الدورات والمشاركات والمؤتمرات في مجال التدريس والتدريب وإدارة المجلس المحلي.
والعمل الإنساني واللغة العربية والبحث العلمي.
– مثّل اللسان المعبٌر عن هموم بلدته بشعره وخطاباته أمام زائري المديرية والمحافظة من المسئولين، وفي المناسبات الوطنية والاجتماعية.
* من آثاره العلمية والأدبية
رسالة الماجستير بعنوان ” صورة الدولة الرسولية في شعر ابن هتيمل دراسة موضوعية فنية”
مقالة بعنوان” الشاعر القاسم بن هتيمل في آراء النقاد” منشورة في مجلة جامعة تشرين للبحوث والدراسات العلمية _ سلسة الآداب والعلوم الإنسانية المجلد (34 )العدد (1)21
ديوان شعر (أصداء وأفياء) بصدد الإعداد للطبع.

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!