كتاب “فلسفة الإيقاع في الشِّعر العربيّ”: عرضٌ ونقدٌ د. علوي الهاشمي

 أحمد البزور

بدايةً، نُشير إلى أنّ كتابَ “فلسفة الإيقاع في الشّعرِ العربيّ” لمؤلّفه العلوي الهاشميّ، يقع في مئتين وخمس صفحات من القطعِ الكبير، وهو من طباعةِ المؤسسة العربيّة للدّراسات والنّشر، الصّادر سنة 2006م في طبعته الأولى، وقد توزّع في مقدمتينِ وأربعة فصول، مع الإشارةِ إلى أنّ الكتابَ خالٍ من فهرسٍ خاصٍ بالمراجعِ والمصادرِ.

ترتجي هذه المقالة، النّظر في علوي الهاشميّ الباحث الأكاديمي قارئًا في كتابه الذي نال نصيبًا قليلاً من الشّهرة والذّيوع.

من هذا المنطلق، اعتمدنا في هذه القراءة على المنهج الاستقرائي التحليليّ، وتلخيص أهم ما جاء في الكتاب من أفكار وطروحات.

وجملة الأمر، أنّ فلسفةَ الإيقاع من وجهةِ نظرِ المؤلفِ، أداةٌ نقديّةٌ في النّظرِ إلى رؤيةِ الشّاعرِ في نصّهِ، إلى جانبِ كونه منهجًا في فهمِ موسيقى الشّعر العربيّ.

ولعلّ السّؤال الذي يطرح الآن، هو: هل لإيقاع الشّعر العربيّ فلسفة؟ ومن زاويةِ نظرٍ أخرى يُمكن للقارئ أن يتساءل: كيف تتجلّى فلسفة الإيقاع في الشّعرِ العربيّ؟

وما المقصود بالإيقاع؟ أهو ذاتها الأوزان الخليليّة التي نجدها في كتبِ العروض، أم إنّ للإيقاعِ شكلاً آخر يتباين ويختلف؟

وللإجابةِ عن هذه الأسئلة، لا بدّ أن ننظرَ في ذلك ـ دون شكّ ـ في الكتابِ نظرةً سابرةً وغائرة، وفيما يلي نقدّم تلخيصًا لأهمّ ما وردَ في الكتابِ.

إنّ القارئ يُطالعهُ في فاتحةِ هذا الكتاب مقالٌ نثريٌّ، معنونٌ بـ “فاتحة احتفاء وإيقاع لحلمٍ مغاوٍ”، لكمال أبو ديب، قدّم له بقوله: “الإيقاع في الجوهرِ من الوجودِ، سرّ من أسرارِ الكونِ يتهادى، أو ينداح، أو يتمطى، أو يلتف على نفسه متلولبًا، أو يتفجّر في سلسلةٍ أبدية من الثّقوبِ السّوداء والفضاءات الشّاسعات”.

وعلى هذا، يطرح العلويّ الهاشميّ في مستهلّ مقدمته الأولى، فكرة أنّ الإيقاعَ لهُ أثرٌ حاسمٌ في التّفريقِ بين ما هو شِعريّ وما هو غير شِعريّ، استنادًا إلى المقولةِ العامّةِ التي تقول: “كلّ شيءٍ دون الإيقاع، هو شيءٌ عادي من أشياء الحياةِ اليوميّة العابرة.”

نجد المؤلّفيضيف إلى ذلك، أنّ الوزنَ الشّعريّ لا يغدو عنصرًا شعريًّا حتّى يُخامر النّصّ الإيقاع وينسرب فيه.

على ذلك، يقرر المؤلِّفُ في كتابه، أنّ عنصرَ الإيقاعِ مفهومه يتصّل أساسًا بعنصرِ الزّمنِ في ديمومته التي لا تعرف الانقطاع، وفي اتّصاله، وصيرورته، ولا نهائيته”، إضافة إلى ذلك، يقول: من هنا يكمن سرّ قوته وعظمته، فهو يبتلعُ كلّ شيء ويفترسُ كلّ حيّ، ويعلل المؤلف في ذلك، “خوفُ الإنسانِ منهُ وفرحه به، رهبته ورغبته، انقطاعه واتّصاله على حدّ سواء”.

إلى جانبِ ما سبق، يضيف المؤلّفُ من خلالِ وجهة النّظرِ الفلسفيّة “بأنّ الإنسانَ كائنٌ لهُ مبتدأ ولهُ منتهى، محاط بظروفهِ القائمة ومحاصر بحواسّه الخمس، ومسجون في قفصِ الطّبيعة، مكبّل بقوانين المادة ودبق الطّين اللازب”.

ولهذا، فإنّ الإيقاعَ متصلٌ أساسًا بالحالةِ الشّعورية، حتّى انتهى به الأمر إلى التفريقِ بين الإيقاعِ والوزن، حيث إنّ المؤلف يستمدّ في ذلك من مقولة إليزابيث درو بقولها: “ليس الوزنُ إلّا عنصرًا واحدًا من عناصر الإيقاع، والإيقاع يعني التّدفق أو الانسياب، وهذا يعتمد على المعنى أكثر مما يعتمد على الوزن، وعلى الإحساسِ أكثر من التّفعيلات.”

من الأمورِ التي لاحظها المؤلّف، أنّ الإيقاعَ في إطارِ فنّ الشّعرِ يتخللهُ اللغة، والموسيقى، والصّور، والأخيلة، والكلمات، والحروف، وجميع الإيقاعات ترجع إلى عنصرِ الإيقاعِ المرتبط بالزّمن.

يتطرق المؤلفُ إلى الوزنِ وخصائصه، والإيقاع، ومميزاتهما، ذلك من خلالِ ما ذكرهُ محمّد الطرابلسيّ، بأنّ أوّل خصائص عنصر الوزن أنّهُ خطّ أفقي يمتدُ من أوّلِ البيتِ أو السّطرِ الشّعريّ، وينتهي بنهايته التي عادةً ما تكون حرف روي”.

ويضيف المؤلّف إلى ذلك خاصية أخرى، هي أنّ الوزنَ “مكوّنٌ من وحداتٍ موسيقيّة متساوية تسمّى تفعيلات، والتّكرار والرّتابة المتمثلان في التّفاعيل الصّحيحة والبحور التّامة في علمِ العروض”.

وخلاصة ما يريد المؤلفُ أن يؤكّدهُ، هو أنّ الوزنَ كميّةٌ من التّفاعيلِ العروضيّة المتجاورة والممتدة أفقيًّا بين مطلعِ البيتِ أو السّطر الشّعريّ وآخره المقفّى.

وفقًا لذلك، يرى المؤلفُ أنّ الإيقاع “يشكّلُ خطًّا عاموديًّا يبدأ من مطلعِ القصيدةِ حتّى نهايتها، وبذلك، فهو يخترقُ كلّ خطوطها الأفقية بما فيها خطّ الوزن، ليتقاطع معها جميعًا في نقطةٍ مركزيّة واحدة، هي جذرُ الفاعليّة الإيقاعيّة لمجموعِ بنى القصيدة ومستوياتها.

هذا، ويعلّق المؤلف على أنّ الإيقاعَ يُجسّد خلقًا جديدًا متمازجًا بالفكرِ، واللغةِ، والرّموز، والصّور، والرّوح، إلى جانبِ أنّهُ عنصرٌ خفيٌ، إضافة إلى ما فيه من مظاهر التّكرار، والرّتابة، والرّنين، والتّقسيم المتقارب، ويضيف أنّ الإيقاعَ لا يبين إلّا في تمظهره الصّوتيّ الصّريح، وانسرابه في بقيّةِ خطوطِ القصيدةِ وعناصرها، وخضوعه لعنصرِ الزّمنِ بتقسيمه إلى وحداتٍ وعناصرَ متساوية، أو متآلفة، أو متكررة، أو متضادة، وخضوعه أيضًا لقانون المادة وعناصرها، ويتجسّد ذلك من خلال آلة، أو مادة خام موسيقية، أو لغوية، أو تشكيليّة، أو بدنية.

أمّا مقدمة الكتاب الثّانية، فإنّ القارئ يقفُ فيها أمام تركيبة النّصّ الشّعريّ، وهو ما يُمكن تمثيلها على النّحو الآتي:

1-     بنية المضمون.

2-     بنية اللغة.

3-     بنية الإيقاع.

بنية المضمون:

تتألف هذه البنية في النّصّ الشّعريّ من مجالينِ هما: المجالُ الفكريّ/الثقافيّ والمجال النّفسيّ العاطفيّ، ويرى المؤلّفُ أنّ المجالَ الفكريّ/الثقافيّ يتضح فيه كيف يبني الشّاعرُ موقفه الفكريّ ورؤيته الشّعريّة، ذلك من خلالِ الاستعانةِ بالأدواتِ والوسائطِ الفنّية المنبثقة من طبيعةِ هذا المجال، ويتضح هذا فيما يراهُ متمثلة بـ الأسطورة، والقناع، والرّمز التاريخي، بالإضافةِ إلى الموروثِ الشّعبي كالحكايات، والخرافات، والأمثال، والحكم.

إن المجال النّفسيّ العاطفيّ كما يراهُ المؤلفُ، يؤدّي دورًا أساسيًّا في العمليّةِ الشّعريّةِ؛ نظرًا لخفائِه وتستره وراء عددٍ كبيرٍ من مستويات النّصّ الشّعري.

يُقسّم الهاشمي بنية اللغة في النّصّ الشّعري إلى مجالين هما:

أ‌-      مجال الدّوال.

ب‌-     مجال المدلولات.

إنّ مجالَ الدّوالِ يتصلُ بتقنيةِ اللغةِ وقوانينها الخارجيّة الصّرفية، والنّحوية، والنّظميّة، وتتجلّى هذه الدّوال في البنيةِ اللغويّة، وتظهر تبعًا لوجهةِ نظرِ المؤلفِ بأنّها تُفصح عن نفسها، في إطارِ عددٍ من المظاهر الأسلوبيّة اللغويّة كالتّكرارِ، والحذفِ، والإضمارِ، والتّقديمِ، والتّأخير، وغيرها من الصّيغ والتّراكيب.

أمّا مجال المدلولات، وهو المجالُ المرتبط مباشرة بطبيعةِ التّخييل، وطريقة عمله، ودرجة فاعليته، وعلى هذا، يتخذُ المؤلفُ الصّورة الشّعريّة محورًا أساسيًّا له.

إنّ ما يهمّنا الإشارة إليه بدقةٍ هنا، هو أنّ المؤلفَ يُقسّم بنيةَ الإيقاعِ إلى مجالينِ هما: المجال الخارجيّ/الظّاهريّ، ويقابلهُ في الجهةِ الأخرى المجال الدّاخليّ/الخفي.

إنّ مقومات بنية الإيقاع الخارجيّة والدّاخليّة ومكوّناتها، تستند على الوزنِ الخارجيّ من بحورٍ عروضيّة وتفاعيل.

وبالمحصّلةِ، فإنّ الوزنَ يشكّلُ مرتكزًا إيقاعيًّا في النّصِّ، على أنّ طبيعةَ العلاقةِ بين مجالي بنية الإيقاع تكمن في أنّ الإيقاعَ الخارجيّ تجسيدٌ للدّاخلِ، والإيقاع الظاهريّ كشفٌ للباطنِ، ضمن علاقة من الجدلِ بين الخفاء والتّجلي، والحركة والسّكون، والصّوت والصّمت.

يُضيفُ العلوي بأنّ النّصّ الشّعري يرتكزُ على مجالِ الوزن، إلى جانبِ الأسلوبِ المميّز، الذي يجعل من النّصِّ شعرًا، كما يعطيه أبعادًا جماليّة.

إنّ مجالَ الموسيقى الدّاخليّة، تبدو للمؤلّف وكأنّها الأهم؛ “وذلك لأنّ هذا المجال الحاضر أكثر المجالات تعبيرًا عن مجالِ الوزنِ الغائب، وكأنّما هو امتدادٌ له”.

تتشكّلُ الموسيقى الدّاخليّة من خلالِ القواعد المتباعدة، وأصوات الحروف، وجرس الكلمات المتساوية الطّول والمتناغمة المقاطع والمنسجمة في الحروف.

ما أريدُ الوصول إليه، هو أنّ المؤلّفَ يستعيض فكرته هذه ــ أي فكرة فلسفة الإيقاع ــ من مقولةِ الباحثة إليزابيث درو، إذ تقول: “والإيقاع يعني التّدفق، أو الانسياب، وهذا يعتمد على المعنى أكثر مما يعتمد على الوزن، وعلى الإحساسِ أكثر من التفعيلات”.

وأخالني ألتقي والمؤلّف ولا خِلاف حيثُ يقول: “العاطفة في بنيةِ المضمون إيقاعٌ خاصٌ يُزاوج بين الرّغبةِ والرّهبةِ، والشّجاعةِ والحذرِ، والأملِ واليأسِ، والتّذكرِ والحلم، والعذوبةِ والعذاب، والماضي والمستقبل، وكلّ ما من شأنه أن يكون عواطف متضاربة وهواجس متراكمة تنحصر في علاقةٍ طرفيها المتضادين بين الحركةِ والسّكون”.

يُطالعنا المؤلّفُ بحقيقةِ المجالِ الفكريّ/الثقافيّ، حيثُ يصطرعُ النّقيض بنقيضه كالشّك واليقين، والسّؤال بالجواب، والخطأ بالصّواب، والمرئي بـ اللامرئيّ، والواقع بالأسطورة.

كما يشيرُ إلى أنّ للصّيغِ النّحويّة والتّراكيب اللغويّة المتمثّلة بظواهر التّكرار، أو الائتلاف، والاختلاف، دورًا في تشكيل وحدات موسيقيّة إيقاعية في النّص، بالإضافةِ إلى أنّها تُساعد على إبرازِ قانونِ الحركةِ والسّكون.

إنّ علاقة البنى ومجالاتها بذاكرةِ النّصّ كما يراها العلوي، تتكون من كلّ المكوّنات العامّة المتصلة بحياةِ النّصّ وصاحبه، سواء في إطاره الاجتماعيّ البشري أو الكونيّ الوجوديّ.

وقد بلور هذه الرؤية بالاستنادِ إلى ما يُسمّيه الألسنيون بـ “المرجعِ” في رصدِ مراتب الخطاب الثلاث في سياقِ الدّلالة اللغويّة.

إنّ مكوّنات المرجع تكمن في العرفِ، والتّقاليدِ، والأفكارِ، وأنماط الحياة والثّقافة، إضافة إلى ذلك اللغة، والإيقاع، والرؤى.

أمّا طبيعةُ العلاقة بين المرجعِ والذّات الشّاعرة من وجهةِ نظر المؤلِّف، فهي أنّ مكوّنات المرجع “تحاصر الذّات وتجبرها أن تدور في جاذبيته، وتبدع وفق قوانينه”.

وعلى ضوءِ  ذلك، قسّم المؤلِّفُ النّصوصَ الشّعريّة إلى ثلاثةِأقانيم، يتصلّ كلّ أقنوم بوجه من تلك العلاقة، بين حركة الذّات والمحيط / النّص والذّاكرة، التي يمكن تمثيله على النّحو الآتي:

–      النّص الاتباعيّ.

–      النّص الغنائيّ/ الذّاتي.

–      النّص الدّرامي.

إنّ النّصّ الاتّباعي لا يعني بذلك النّص القديم حسب ما يراهُ المؤلّف، فهو النّصُّ الذي قد يوجد اليوم وغدًا كما كان يوجد في الماضي، كما يمكن أن يوجد في أي مكانٍ، دون أن يكون في الزّمن أو المكان معيار لجدّته أو قدمه.

في حينِ أنّ النّصّ الغنائيّ/ الذّاتي، “هو النّصُّ الشّعريُّ الذي تتحرّك فيه الذّات الشّاعرة ضد حركة المحيط العام وقوانينها الصّارمة”. بالإضافةِ إلى أنّ خصائص هذا النّصّ “الاحتفال الواضح بالذّاتِ، والتّغني بأشواقها وعواطفها، والارتماء بها في فضاءاتٍ من الخيالِ البعيدة المصاغ من عناصر الطّبيعة وهمهمات الذّات الشّاعرة، ولواعج النّفس التي يسودها التّذمر والشّكوى من المجتمع والحياة، كلّما تذكرت الذّات لحظة اختراقها الصّداميّة مع المحيط”.

تبعًا لذلك، يضيف المؤلّفُ ملاحظة في “أنّ النّصَّ الغنائيّ يحكمهُ قانون الثنائيّة الازدواجيّة بين الذّاتِ والمجتمع، كما تؤدي ظاهرة التّضاد في البنى والمجالات دورًا أساسيًّا في صياغةِ ذلك النّص”.

أمّا بالنّسبةِ للنّصِّ الدّراميّ، ففيه “ينكسرُ الصّوتُ الواحدُالمتغنّي  بهمومِ الذّاتِ الشّاعرةِ والمحلّق حولها، ليتداخل ويتقاطع مع أصواتٍ أخرى في مساحةٍ من الحوارِ الدّاخليّ والخارجيّ، كما تنفتح ذاكرة النّص المتفجّرة على آفاق كثيرة ومتعددة من الثّقافات، والمؤثرات، والرّموز”.

إنّ “جدليّةَ السّكون المتحرّك: مدخل إلى فلسفةِ بنية الإيقاع في الشّعرِ العربيّ”، عنوانُ الفصلِ الأوّل، ويجب أن نُشير هنا إلى أنّ المؤلفَ يطرحُ ملاحظةً بأنّ البنية الإيقاعيّة تعرضّتْ إلى خلخلةٍ، ومراجعة، واضطراب، فضلاً عن اختلاف ملحوظ في الآراءِ والنّظريات التي سادت الدّراسات النّقديّة والفلسفيّة منذ عصر أرسطو حتّى اليوم. والسّبب في ذلك كما يرى، الغموض الذي تكتنفه النّفس. ويضيف أنّ الإحساسَ ليس سوى جزء من أعماقٍ غامضة أو معقدة التّركيب في نفس المتلقي، ومن ثَمّ هذا الغموض والتّعقيد ينطبق على الشّعر.

على أنّ ذلك، ليس معناه ـ كما يقول ـ فقدان الرّوابط والقوانين في النّصّ الشّعري هذا من جهة. ومن جهة أخرى، يؤدي الغموض وظيفة نفسيّة جماليّة منظمة لدى المتلقي والباث على حدّ سواء.

إنّ ما توصّلتُ إليه من خلالِ كلّ ما سبق، أنّ الإيقاعَ يقوم بدورٍ مركزي في هذه العمليّة الاتّصاليّة الوظيفيّة، ومما يذكر هنا، أنّ المؤلِّفَ يستند في ذلك إلى رأي ناقدين، هما: برجسون ومصطفى سويف، بأنّ الإيقاعَ يساعد على تحطيمِ الفواصل بين شعورنا وشعور الفنّان، فيتيح لنا الدّخول معهُ في عالم شعوري واحد”.

يطرح المؤلف سؤالًا مهمًّا جدًّا، ألا وهو: ما هو الإيقاع؟

إنّ “أيّةَ بنية إيقاعيّة تستمد خصائصها من تراثها اللغويّ، الذي هو تعبيرٌ حيٌ ومتجددٌ عن مخزونِ الحياةِ الخاصّة والعامّة لمجتمعٍ من المجتمعات”. وهذا ذاته، ما أشار إليه إليوت عندما ربط اللغة الشّعريّة بموسيقاها ولغة الكلام العامّة المحيطة بها ربطًا وثيقًا.

عطفًا على ما سبق، يرى المؤلّفُ أنّ مفهومَ البنية الإيقاعيّة يتسع ليشمل مختلف أنواع الاستجابات المنتظمة (النّفسيّة، والعاطفيّة، والجسديّة) التي تتم عبر مختلف حواس الإنسان الخمس، لا عبر حاسّة السّمع وحدها.

إنّ هذه النّتيجة التي انتهي إليها هذا التّصور من منظورِ المؤلّفِ، تقودنا إلى نوعينِ من الإيقاعِ، ويكفينا هنا الإشارة إلى الإيقاع المستتر والواضح، والواقع أنّ ما ذهب إليه هو موجود في كلّ نص، وقد سبق كمال أبو ديب في كتابه الموسوم بـ “البنية الإيقاعيّة” في الإشارةِ إلى ذلك، وقبله إليوت.

إنّ البنيةَ الإيقاعيّة (الدّاخليّة) المستترة، تتصل بالجانبِ الخيالي وما تنطوي عليه من حركةِ النّفسِ ورغباتها، في حينِ أنّ البنية الإيقاعيّة (الخارجيّة) الواضحة هي البنيةُ المدركةُ بالأذن بصفةٍ خاصة.

النّتيجة التي يودّ تأكيدها المؤلّف هنا، هي أنّ الإيقاعَ يعني “انتظام النّصّ الشّعري بجميعِ أجزائه في سياقٍ كلّي”، هذا ويتجلّى الانتظام في النّصِّ الشّعريّـ من وجهةِ قصده ـ بأنّ الانتظامَ يشملُ كلّ علاقات التّكرار، والمزاوجة، والمفارقة، والتّوازي، والتّداخل، والتّنسيق، والتآلف، والتّجانس”، مع الإشارةِ إلى أنّ انتظامَ البنية الإيقاعيّة الواسعة بمجاليها الخارجيّ والدّاخليّ يحكمها قانونٌ أساسيٌ، يحكم في الوقتِ نفسه مختلف بنى النّص الرّئيسية الثّلاث: المضمون، اللغة، الإيقاع”.

من الأمورِ التي لاحظها المؤلّف بالاعتمادِ طبعًا على رأي برجسون، أنّ الإيقاعَ في العملِ الفنّي “امتدادٌ للأعراضِ الجسميّة التي تُصاحب الانفعال لدى الفنان”، في محاولةٍ منهُ للوصولِ إلى حالةٍ من التّوازنِ، والتّصالح، والمواءمة، ينتظم في إطارها ذلك الصّراع وترتاح النّفس في لحظةٍ سلام ولو مؤقتة.

ويضيف هنا أنّ البنيةَ الإيقاعية تأخذ صيغ تشكّلها وصور تنظيمها من عناصر الواقع والحياة المحيطين بالذّاتِ الشّاعرة، وهناك جانب آخر بالغ الأهميّة يتعلّق بـ إيقاع العصر الذي ينتمي إليه النّص، حيثُ يرى المؤلّف أنّه بالإمكانِ قراءة ذلك الإيقاع وتحديد زمنه.

إضافةً إلى ذلك، يرى العلوي أنّ القصيدةَ العربيّة مرّت بثلاثةِ منعرجات كبرى بما فيها بنية الإيقاع الخارجيّ، ابتداءً من “القصيدةِ العموديّة”، وصولاً إلى “شعرِ التّفعيلة” “الذي كسر بيت العمود الشّعري متخذًا من وحدته الجزئية (التفعيلة) لبنة لتركيب بنية موسيقية جديدة من النّاحية الخارجية”، انتهاءً بـ “قصيدة النّثر” “التي تقرر الاستغناء عن تلك الوحدة الموسيقيّة الجزئيّة”.

من الأمورِ التي يتعيّن على القارئ الانتباه إليها، أنّ المؤلّف يعدّ قصيدة النّثر “نصًّا شعريًّا”، كونه يؤشّر إلى تحولات البنية الإيقاعيّة في الشّعرِ العربيّ في مجاليها الخارجيّ والدّاخلي”.

وعلى كلّ حال، لستُ كقارئ بالضرورةِ معنيًا أن أقرر إطلاق القول من غيرِ تروٍ، وإنّما آخذُ بهذه الفكرة على أنّها خاطرة.

أما الفصل الثاني المعنون بـ “النّص الشّعريّ الجديد في أبعاده التّواصليّة إيقاعيًّا”، تجدر الإشارة فيه، إلى أنّ النّص الشّعريّ المعني هو النّصُّ النّثريّ أو ما اصطلح عليه بـ “قصيدةِ النّثر”.

ومما يذكر هنا، أنّ المؤلفَ يرى أنّ الشّكلَ الشّعريّ لـ “قصيدة التّراث العربيّة” “هو تعبيرٌ صادقٌ لا عن المضمون الشّعريّ الخاص الذي يختلج فيه، بقدرِ ما هو تعبيرٌ عن أنماط الحياة العامّة ومضامينها الاجتماعيّة، والفكريّة، والجماليّة”.

يتساءل العلوي فيما إذا احتفظت القصيدة العربيّة الجديدة بخصائص القصيدة الأم نفسها من النّاحية الإيقاعيّة، لكي تحرص على العلاقة التّواصليّة ذاتها مع متلقيها؟

يعلّق على ذلك، بأنّ الأذن ظلّت تحتفظ بنصيبها في القصيدةِ الجديدة، نظرًا لانبناء إيقاعها الوزنيّ على نظامِ التّفعيلة، إلّا أنّه نظامٌ مختلفٌ عن نظامٍ البيت، على الرّغمٍ من كونِ التّفعيلة هي الوحدةُ الموسيقيّة الأساسيّة في كلا النّظامين، وهو اختلافٌ يجعل التّفعيلة مرتبطة بحركةِ الذّات الشّاعرة وقرارها الدّاخلي الخاص في قصيدة التفعيلة.

كما يضيف أنّ “العلاقة التّواصليّة التي أنتجتها قصيدة التراث العربيّة، غير قادرة على تلبية استجابات الجمهور المتلقي في عملية تواصله مع القصيدة الجديدة ذات الخصائص الإيقاعية، واللغوية، والمضمونية المتشابكة والعميقة”.

في الإطارِ نفسه، نرى المؤلفَ يدعم فكرته هذه برأي محمد النّويهي في كتابه قضيّة الشّعر الجديد، قائلًا: “إنّ العلاقةَ التّواصليّة مع ما بعد قصيدة التّفعيلة، علاقة إشكاليّة متميزة، حين راحت قصيدة النّثر تطغى تدريجيًّا على مساحات الشّعر العربي الحديث، ابتداءً من تفاقم نشرها في الصّحافة العربيّة أوّل الأمر، وانتهاءً بتحويلها إلى نصّ جماهيري مسموع حين كثر شعرائها”.

ولعلّي أرى خلاف ذلك، ولا أدري إذا كان هناك ثمّة مبرر للمؤلف لمثل هذا النّقل دون الاستناد إلى دليل إحصائي، فلا أعتقد ذلك، وإلاّ كانت المسألة ضربًا من التّعميم.

تأكيدًا لرأي سوزارن برنار، يرى العلوي أنّ “قصيدة النّثر حالة انقلابيّة متمردة”، إلى كونها إعلانًا عن روح فردية تعيش صراعًا ضد المبادئ السلطوية للكلاسيكيّة”.

ويوسع المؤلف ملاحظته المذكورة قائلاً: “إنّ لكلّ عصرٍ، بل لكلّ مرحلة من مراحل التاريخ البشري لدى كلّ أمّة، شكلاً فنيًا أو جنسًا أدبيًا طاغيًا ومسيطرًا”.

وعلى ضوءِ هذه الفكرة، يرى أنّ القصيدة الموزونة عمودية كانت أم تفعيلية، في مأزق، “وفي المقابلِ جعل قصيدة النّثر في انتشارها الكاسح تتحمل مسؤولية التّعبير عن الفضاءاتِ الشّاغرة التي خلّفتها الانسحابات التدريجية للقصيدة الموزونة في حياتنا”.

ويرى أنّ مستقبلَ الشّعر العربيّ مرهونٌ بمستقبلِ قصيدةِ النثر، مستندًا في ذلك على رأي ناقد عتيدكإحسان عبّاس، الذي تنبأ بمزاولةِ هذا الشّكل وانتهاء النّظم الشّعريّ، وتجدر الإشارة إلى أنّ هذا الرأي صدر عام 1996م في مقابلة أجرتها مجلة الوسط التي تصدر في لندن. ولذلك، لا أوافق المؤلف في قوله؛ ذلك أن زمام الأمر متروك إلى حدّ كبير إلى مدى تقبّل جمهور المتلقين لهذه القصيدة وإلى مدى فاعليتها في السّاحة الأدبيّة والنقديّة.

وإذا انتقلنا إلى الفصل الثالث المعنون بـ “مسألة الإيقاع الشّعريّ”، يجد القارئ الكريم حديثًا عن قيمة كتاب “موسيقى الشّعر العربي” وأهميته لشكري عيّاد، قائلًا: “إنّ البحث العلمي في الإيقاع، واحدٌ من أهم المفاتيح ارتباطًا بالنقد الأدبي، وأكثر أدوات تحليل الخطاب الشّعريّ طرافة، وأشدها تماهيًا مع لغة النّص وتقاطعًا مع مستوياته وأبنيته التكوينية المختلفة”.

يضيف العلوي أنّ ظاهرة الإيقاع الدّاخلي قد غدت إشكاليّة نقديّة في القصيدةِ العربيّة الحديثة؛ “نظرًا للتباين الشّديد والواضح بين النّقاد العرب المعاصرين في النّظر إلى هذه الظاهرة”.

ووفق هذا التّصور، يرى العلوي أنّ النّقاد انقسموا إلى فريقين، على النّحو الآتي:

–      المنكرون: يعدّ الحديث عنها ضربًا من الهوس وملاحقة الأشباح.

–      المؤيدون: يؤمن بهذه الظاهرة ويدافع عنها ويتحسسها في القصيدة.

يخلص من ذلك، إلى أنّ التّفكيرَ النقديّ الحديث تجاوز إلى ما هو أبعد، بحيث راح هذا النّقد يفتش عن الطّرق والوسائل؛ لكي يوسّع بها مفهوم الإيقاع من أجل أن يشمل كثيرًا من الأنظمة غير السّمعيّة؛ كانتظام الألوان، وتراسل الحواس، وإيقاع الكتابة والفراغ، والإيقاع الدّاخلي هو من مستلزمات القصيدة الحديثة، بما فيها قصيدة النثر.

لهذا، يضرب العلوي مثالًا على بيت لامرئ القيس القائل:

“مـكـــــرٍ مِـفـرٍّ مُـقْـبـلٍ مُـدْبــرٍ مَــعًـا***كَجلمُودِ صَخْرٍ حَطَّهُ السّيلُ مِنْ عَلِ”

طبقًا لذلك، يحددُ المؤلّفُ الإيقاع الخارجيّ المتمثل بـ وزن، وبحر الطّويل، وقافية اللام ذات الرّوي المكسور؛ فتحديد الإيقاع هنا مسألة في غاية الوضوح والتجلي.

في المقابلِ، يرى بأنّ تحديد الإيقاع الدّاخليّ مسألة أكثر خفاءً وانبثاثًا في نسيجِ البيتِ على جميعِ مستويات الأبنية فيه؛ لغويًا، ودلاليًا، وتركيبًا، وتصويرًا، عاطفةً وتفكيرًا”.

فأوّل ملاحظة خافية يمكن استجلاؤها على مستوى جرس الحروف مثلاً، ذلك الاستهلال الميمي اللافت، الذي يؤسس، وثبات جميع المفردات الخمس في صدر البيت، وهو استهلال رغم تشابهه الصّوتي، يبدو مختلفًا في تنوع حركاته بين الكسر والضّم والفتح.

يعلّق المؤلّفُ بأنّ الذي يلفت الانتباه، اشتغال جميع المفردات بظاهرة التّنوين، بحيث تمثل عنصر محاصرة لصوت الرّاء، قبل أن ينطلق منقذفًا من مظهر التنوين في نهاية كلمة صخر، مسابقًا كلمة جلمود قبله.

الأمر الذي يجعل صورة الصّخرة المنقذفة في سيل من أعلى الجبل شكل السهم المنطلق من قوسه، وهو ما يجسد حركة الفرس في انطلاقه نحو فريسته بعد مطاردتها ومحاصرتها تمامًا”. وللتوسّع؛ انظر إلى تحليل المؤلف لهذا البيت، ولا أرى أي داعٍ لنقله حرفيًا.

تأييدًا لذلك، يورد المؤلفُ رأي الجاحظ في ربطه بين حكمة العرب والوزن، وذلك في قوله: “لو حوّلت حكمة العرب، لبطل ذلك المعجز الذي هو الوزن”، وهذا ما دعاهُ إلى الاستنتاج بـ “الإلحاح على الاقتران بين الشّعر والإيقاع في الذّائقة العربيّة”.

نصل الآن إلى نقطة تبدو أنّها شديدة الحساسيّة والأهميّة في الكتاب، وهي دعوةُ المؤلفِ إلى بديلٍ جذري لعروض الخليل، معللاً بذلك قوله: بأنّ البيئةَ الصّحراويّة وما يُحيط بالجزيرةِ العربيّة من بحارٍ، وما يتناثر فيها من خيامٍ وجمال، تُمثلّ ركائز الحياة فيها، لا تستطيع أن تنتج اليوم مصطلحات يمكنها أن تستوعب حركة الإيقاع في القصيدةِ الشّعريّة الجديدة”.

يضيف قائلًا: “إنّ لكلّ نصّ شعري إيقاعه الخاص”، وتبعًا لذلك، يقسّم الإيقاع الشّعريّ داخل النّص إلى إيقاع الصّورة، وإيقاع الكلمة، وإيقاع الجرس الصّوتي، وإيقاع البناء، وإيقاع اللغة، وإيقاع الجملة، وإيقاع الفكرة، والوزن، وإيقاع اللون، والحرف، والحركة، وإيقاع الفراغ وتشكيله، أو علاقة بياض الورقة بسواد الكتابة.

إلى جانبِ هذا، يرى العلوي أنّ من المهمّ ربط الإيقاع الشّعري ومعناه في التّجربةِ الشّعريّة  العربيّة ــ كالرّبط بين الصّوت والمعنى ــ،  والفكرة هذه بحدّ ذاتها مستوحاة بحرفيتها من ج . س فريزر، وفاليري، وإدجار ألن بو، بالإشارة إلى أنّ هذه الفكرة لم يغفل عنها النقاد العرب كالجاحظ والقرطاجني في ربطهما بين الإيقاع والمعنى.

إنّ غاية القول وخلاصته، أنّ الإيقاع مصطلحٌ حديث نسبيًا في الثقافة العربيّة، إذا ما نظرنا إلى علاقته المباشرة بالشّعر، فقد وضع المصطلح أصلًا لكي يستخدم في مجال الموسيقى، ولم يزل كذلك حتّى اليوم، وكان أوّل اتصال له بالشّعر من خلال الغناء أو الشّعر المُغنّى.

إنّ الفصل الرّابع المعنون بـ السّؤال: “كيف يبني شاعر الظّل عالمه الشّعريّ إيقاعيًا؟

يعتمد فيه العلوي الهاشميّ شعر الشّاعر السّعودي علي بافقيه كنموذجٍ، كونه يعد واحدًا من شعراء الظل.

على أنّ الجدير بالذّكرِ في أنّ شاعرَ الظلّ الذي يقصدهُ العلوي، هو الشّاعرُ الذي يتعاطى الشّعر بعيدًا عن الأضواء، بعيدًا عن ضغوط المناسبات، وبهرج الشّهرة والإعلام.

حاول المؤلّفُ ربط هذه الظّاهرة بالجانبِ الإيقاعيّ من تجربةِ الشّاعر، ومن ثمّ درسَ الملامح الفنيّة في مجموعته الشّعريّة الموسومة بـ “جلالِ الأشجار”، وقسّمها إلى قسمينِ معنونين، هما:

–      قسم جامع البيان: حيثُ تطرّق إلى مسائل عتبات النّص، والصّورة الشّعريّة، والهمّ الإبداعي.

–      قسم جامع الإيقاع: حيثُ درس شمولية البنية الإيقاعيّة، وتنوع أشكالها، واجتماع هذه الأشكال وتفاعلها في النّص الواحد.

إنّ منطلقَ المؤلّف في دراسته للعتباتِ، مندرجة على ثلاثةِ أشكال، وهي: إهداء الشّاعر مجموعته الشّعرية، واختيار عنوانها الدّال، والاستهلال.

توصّل العلوي إلى نتيجةٍ مفادها، أنّ العتبات النّصيّة تمثّل التّربة التي تغذي بقية العناصر الفنيّة، ومنها الصّورة الشّعرية بالدّلالات الحيّة العميقة، بالإضافة إلى أنّها مفتاحٌ يمكن استخدامه لكشف عواملها الرّمزيّة والنّفسيّة المغلقة.

يرى المؤلّفُ في “جامعِ الإيقاع” والبنية الإيقاعيّة في تجربة الشّاعر علي بافقيه، أنها تتميّز بالشّموليّة وتنوع الأشكال الإيقاعيّة البيتي، والتفعيلي، والنثري.

إنّ تجربة الشّاعر علي بافقيه وفقًا لتصوّر المؤلف، تميّزت بسمة التنوع، والتقاطع، والمزج بين الأشكال الوزنية والإيقاعية الثلاثة (البيت + التفعيلة + النثر) في بنية النّص الشّعري الواحد.

وبمرونةٍ ملحوظة، يرى المؤلفُ أنّ الشّاعرَ عبّر عن تلك الحالات الشّعريّة المتشابكة في إطار بنية إيقاعية متشابكة مكونة من الأشكال الوزنية الثلاثة، مبتدئًا الشاعر نصّه بالشكل التفعيلي، مشخصًا مرارة الواقع وتوتر اللحظة الرّاهنة.

وأخيرًا، فإنّني أستميحُ القارئ والمؤلّف بيان بعض المآخذ في الكتابِ ضمن ذوقنا وحدود أفقنا وتفكيرنا، فأوّل ما يلفت النّظر في هذا الكتاب هو التّكرار والاستطراد؛ بحيثُ ينتقل المؤلفُ من حديثٍ إلى آخر ثمّ العودة إلى ما أسلف.

ويجدر بي أن أنوّه هنا إلى اعتمادِ المؤلّفِ في التّطبيقِ على نموذجينِ من الشّعرِ القديمِ والحديث، ومن المهمّ أن نُشيرَ هنا إلى أنّ المؤلفَ اعتمدَ على بيتٍ واحدٍلامرئ القيس بالإضافةِ إلى مجموعةٍ واحدةٍ من الشّعرِ الحديث تطبيقًا على الظاهرةِ الإيقاعيّة، فحبذا لو أنّهُ استزاد في ذلك، وهو الذي يعلم أنّ ذلك لا يعفيه البتّة من الرّجوع إلى قصائد الشّعراء الآخرين.

لقد كان حريًّا بالمؤلّفِ في الفصلِ الرّابع، الذي هو بالأساسِ تطبيقٌ على الظاهرةِ الإيقاعيّة، أن يتوسّع في ذلك وخاصّة في الشّقِ الثّاني من هذا الفصل الموسوم بـ جامعِ الإيقاع، لذلك، لا أرى حاجة في الحديث عن الشّق الأوّل الموسوم بـ “جامع البيان”، طالما لا يخدم الموضوع الرّئيس، أضف إلى ذلك أنّه لا يمت بصلة له.

إلى جانب ذلك، غموض الفكرة في البدايةِ، فقد عمد إلى منهجية تبدو أنّها ملبسة ومبهمة في البداية، تستند إلى أسس فلسفيّة جدلية في فهمِ الإيقاع الشّعري وتفسيره، لكن سرعان ما ينجلي هذا الغموض عند التّطبيق.

ويتبيّن بعد النّظر في “فلسفة الإيقاع في الشّعرِ العربيّ” وتمحيص فصوله، وطروحاته، وأفكاره وتلخيصها، أنّها دراسةٌ بنى عليها المؤلف بعد ذلك عددًا من الدّراسات والأبحاث.

والشّيء يذكر بالشيء، فإنّ هذه الدّراسة ليست الأولى من نوعها، فقد كان كمال أبو ديب من الأوائل الذين نادوا بدراسة الإيقاع على نحو مغاير لموسيقى الخليل وعروضه.

أمّا المنهج الذي درس به المؤلف، فقد حقق في نظري قَصَبَ السّبق في تفرّده للعنوان واستثمار هذه الظاهرة المستندة على علمي النّفس والاجتماع، مستندًا في ذلك إلى المنهج التاريخي أحيانًا في خدمة هذه الدّراسة.

بالإضافةِ إلى ذلك كلّه، الخروج عن النّمط التقليدي في دراسة البنية الإيقاعية؛ إذ إنّ المنهج الذي اعتمده في تفسير الإيقاع الشّعري قد أخرجه من التقيد بالنّمط التقليدي والتعليلية الجاهزة، وهذا تطلب منه البحث والتّقصي بإعمال الفكر لطرح المشكلات، ونبش النّصوص للبحث والتنقيب عن الأصوات المستترة والوقوف عندها وقفة طويلة ومتأنية، وهو ركيزة من ركائز فلسفته في دراسةِ الإيقاع الشّعري، عن طريق ربطه بالحالة الشّعورية أو التجربة الشّعريّة.

إنّ الفكرة التي لفت إليها المؤلّف في كتابه، هي أنّ الإيقاع لا ينحصر في تقنية الوزن التي تستند عليها قصيدتا العمود والتّفعيلة، بل تعدّاها إلى ما يُسمّى قصيدة النثر.

وعلى كلّ ما سبق ذكره، فإن القارئ مدعو إلى مراجعةِ الكتابِ ليرى فيه المزيد، ولا يسعني إلّا إزجاء الشّكر للمؤلف على عظيم جهده وما قدّمه للمكتبة العربيّة من زاد فكري وفلسفي، نسأل الله أن ينفع به.

 

 

* باحث وناقد 

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!