ما ليس يشبهني … أجمل / بقلم الشاعر إسلام علقم / قراءة في قصائد للشاعر يوسف بركات

 

“إذاً, أنتِ صيدا

وأنت عروس الأساطير صور

وأنتَ إله الأساطير,

    أنت المخيمْ

تهدَّمْ/رويداً/ رويداً

تهدَّمْ

وفرِّخ على شاطيء البحر, جُنْدا

وخذ ما ملكتَ, سبايا, وصيدا “

للطيور جمال، فهل تقارن نفسها بالغزلان مثلا ، ربما أجدها لا تعترف بجمال الغزلان ولكنها قد تتباهى أمام طيور أخرى وتتذوق جمال الآخر لتسهو قليلا عن نرجسيتها، وقد تعتبر الورد مثلا خلفية طبيعية لفطرية وجودها.

هناك سرب من الشعراء ما زال يحلق بمدارسه ولا يتخلى عن فضاءاته ،ومهما تعددت المدارس الشعرية فإن الرومنسية تنوعت لأنها ارتبطت بالمكان والزمان وربما أتهور قليلا فأقول هناك رومنسية خاصة بالشعر الفلسطيني المرتبط بالقضية الأم،فمهما تفرّع الشعراء الفلسطينون بغصونهم وألوان ابداعاتهم الادبية والفنية؛ كانوا من نفس الجذر الزيتوني الذي يمتد في الثوب المطرز والنهر والبحر والكوفية والبندقية والحجر، ليمتزج الحب والنضال برومنسية مكثفةتجعل الصراع فريدا بشريا، ينبع ابداعا، يمطر هذا العالم بقضية مستدامة بين الحق والباطل.

 

من المشوّق أن تتمعن في صورة مضى عليها الزمن،  متلهفا لتخيّل زمانها ومكانها وشخوصها ،ربما سيلفت نظرك تسريحات الشعر أو اللباس والألوان ، وربما تغوص في ذلك أكثر فتزداد اهتماما لتعلم ما الذي كان  يسيطر على أذهانهم حينها، وكيف كان ترتيب الأولويات لديهم عاطفيا واجتماعيا وأحيانا سياسيا، والأجمل أن المسافة بينكم سنين يمكن بقليل من الحسّ والحدس أن تلحقها وتسمع صوت تلك التفاصيل.

في الشعر العربي الحديث والذي طالما كانت ألوان الرمزية والايحاءات و التمويه والتكثيف،ترسم التحليق بأجنحة مبلولة تارة و ممشوقة راقصة محترفة تارة أخرى، وجدنا الذائقة العربية وبرغم انحسارها أدبيا ، تتوزع على كثير من الشعراء فمنهم من أخذ حصة الأسد ومنهم من كان زاهدا اعلاميا ومنهم من كانت ايمانياته متشددة إلى حد الانطواء أو الرضوخ لمتتطلبات الحياة والإنكسار بتوازٍ مع ضوئها لتخفيف الألم الذي قد يصيب طاقته الابداعية الهائلة ولكنها الغالية.

ولمّا كانت الشبكة العنكبوتية،والفيس بوك وغيره من مواقع التواصل الاجتماعي تحمل الايجابيات، فقد أصبح سهلا ان يلفت نظرك مقطعا شعريا من هنا أو نصا أدبيا من هناك أو رسالة مرهفة ترشق الصباح بندى الكلمات ، فيغريك كل هذابالاقتراب أكثر، وهذا ما حدث معي عندماطلبت صداقته ، فأمطرني برسالة :

” القهوة؛ والمُوسيقى؛والورُود

‏تستثنى من خيبات وبشاعة الحياة

أَتباطأ في احتساء قهوتي،

لأحافظ على صحبة مفترضة مع ما حولي،

فليس للغريب …

إلا اختراع ألفة ما معمك انما”

هو عاشق يحمل قلما في هيئة حورية بحر ذيلها بندقية، يحتفظ بالأسماء والوسائد، يعانقها كل صباح ويودعها في كل مساء.

كان هذا الإنسان الجميل هو شاعر له قاربه وشراعه ،جاب بحارا، عانق شواطئا في زمن كنت فيه طفلا يتساءل؛ كيف لشجرة الورد الواحدة ان تزهر وردا مختلفا ألوانه في ليلة صيفية، كانت تلك الشجرة هي وردة الشب الظريف …

وكان هذا الشاعر هو الاستاذ يوسف بركات.

بقصيدته (عودةالبحري) التي ربما سبق فيها يوسف بركات كتاب السيناريو في السينما الهوليودية أقتبس :

” في مكان ما

في زمان ما

سيخرج البحري

ليرقص رقصتهالأخيرة

قبل أن تبدأ المعركة

سيخرج مرتديا قميصه البري

ممتطيا صهوة فرس لازوردية

وداليةخضراء

أوممسكا بسنارة صياد عجوز

يبحث عن السمك والمرجان .

أنا هو البحري

أنا هو الكوكب

فليخرج البري

هنالك ينلعب “

إذن هو البحر بكثافته وأحيائه ، ذلك البحر الذي كان يغمر الأرض بالماء ، الماء الذي كان أساس الحياة وأحيانا كان الغضب والطوفان ومازال كذلك، وما بين البحري والبري حكاية التمرد الراقصة التي يعزفها يوسف بركات بكثافة روحه التي تخرج من البحر بنزق المُتألم القادر على التأقلم والتحدي في سبيل التغيير والتحرر، يعزفها لنا بكلمات تقترب منا اكثر ونقترب منهابشغف دون أن ننظر أين نضع أقدامنا أثناء الخطى، من البحري الى الدالية ، من المعركة والجنرال إلى البنادق الفارغة على رصيف ما،ليمشي بعد ذلك حزينا مدنّقا رأسه  فيقول :

” الي لمصدوع

بالبرق الرعد

والبرق موجوع

بالريح والبرد”

بأَبعاد البلّورة الشعرية التي تلتقي في زواياها بانسياب من النظرة الاولى إلى الصور والمشاهد الدرامية والحكائيةالمرنخة بالخيال إلى الايقاع الموسيقي الخارجي والداخلي وما يحيط بكل هذا من أساليب وأنماط،  وصولا إلى ما يقوله بريق القصيدة الذي يريده الشاعر يوسف بركات مُشِعّا :

” يا صرخة مائلة

لاتخدشي الصمتا

فالصيحة القاتلة

لاتوقظ الموتي

لاتقفلوا الصالة

فنحن خارجون

من هذه الحالة

لحالة الجنون”

لا يستكين يوسف بركات في التّمرد الباحث عن الحرية،يحدث أن يكون الشاعر ثائرا عامّا فيرتدي ألوان الكلمات التي تحبسها كبرياء المرأة، ويطلقها دفعة واحدة في رشقة واحدة كما فعل يوسف بركات في قصيدته التي ربما تبللت بالنزارية حينها (عاشق في غرفتي ) :

“يذوب الرحيق العذب في أوردتي

فليذهب الكلام في متاهة الأحلام….

أنا أريد عاشقأ في حجرتي”

وجدت الشاعر يوسف بركات يدندن احيانا فطربت معه وانتشيت كما في قصيدة (امرأتي ) :

” أنا الذي لونته/ بآية من لغتي

فكيف لا يكون لي/ من فتنتي غوايتي …

….

فأختلي بحلوتي/ وأنت شيب خمرتي “

ووجدته في قصائد أخرى ينهمر بالتراكيب اللغوية التي تحمل ذات اللحن الموسيقي الداخلي مهملا القافية بعفوية وسليقة ليعود لها بحرفية ، اقتبس من قصائده :

فيالركوعلحظةعليأديمالنطع/فيالعصاالتيتزيلقشرةالتكوينعنجفونالعالمالتيتعجبالرؤى …

أراك….

ما أنت إلاصرخةا لولادة …

وشهقة الهلاك …. “

“لا يغامر الكلام/إذ يغير الخرائط التي تفسر الأشياء/ أوتضيئ قامة النخيل

عندما يزلزل المد ىهواك/ زرعت شمعدان العشق/في أنوثة الأشياء، كي أرى رؤاك ”

بدا لي أن الشاعر يوسف بركات عاصر وخالط الكثير من الشعراء المعروفين للعامة فكان واحدا منهم وكنت على حق،امتاز بثقافته الواسعة  واندماجه معتجارب  المرحلة و سماتها، رغم ثوابته كان بكل عنفوانه غفورا ودودا في شعره  لا يريد الا الحب والسلام الذي يليق بحزنه وبميزته في التكثيف العالي الوتيرة :

“عندما أقول ليلى

تفتح الأرض نوافذها/وتطل أسراب السنونو/علي زهرةتتفتح فيآخر القلب…وينبعث العشاق

زر افات و وحدانا ….

وحين أقول ليلى

تهرول السنين عارية/ويلتجئ ما تبقى من وهج التاريخ إلي ذاكرتي

حاملا تقويما لعشق/وأشرعة الزمن العائد من أنتظار الأوديسة/إلي مينائي الوحيد .”

ويقول أيضا :

” للعصافير انت نام بسلام

وانام ولعب القيام/ كي أصوغ الهلام

دفترا او كتاب/ وأزج السحاب/ أية/ فكرة”

 

 

نجاة الأمل من الألم ، أحاط بالشاعر يوسف بركات، فأودعه بسرياليته الخاصة المنبثقة من قاموسه الشعري اقتبس من قصائده :

” وأنا ناقش آيتي

من لعاب الولادة على حجر الحوصلة

فأنا بيضة المرحلة “

باستثناء المقاطع الغزلية وسطوة الرغبة رأيت في أشعار يوسف بركات تجنب الحشو رغم الصور التي لا تقبل الهدوء وتتابعها :

“منالسباتأطوراحجارامتقدمة،وسيولاعلى

شكلبشر….. وأكوّرالأسراروادحوهااليخاصرةالينابيعكيترفعفيالمكانفانوسالحلم”

 

الرجوع من المستقبل الى الواقع من النتيجة المفترضة الى الحالة المحسوسة في العتب :

” ولمن

سيكون الثمن

عندما لا نرى في طريق الحياة سوىأ فقممتهن”

مابين الزّيف والصدق تكون براعة التمثيل والصنعة ، وحينما ابحرت مع الشاعر يوسف بركات، توقعت أني سأجد عثرات تذكر،  تشتت ذلك الرونق الذي ارتسم لي برفقة أشعاره،وكأني لم أجد، فهو يفضل التجاوز وتهميش المسطرة على حالة الالتزام وكأنه الصانع الفنان، يعجن ما يشاء وليس المهني المحدود العاجز خارج القالب أو  المجبر على حرفة ما، لم يعتنق الادونيسية على حساب ادراك الشريحة الاكبر من متلقيه،  لذلك كان له دواوين من الشعر الخالص وأخرى من النثر ، فكان ينتمي الى السرب الأكبر،فحلّق بسليقته العربية الموزونة المقفاة ومتأثرا بالشعر العالمي وثقافة ما خلف البحار المتوشحة بالحداثة كما  في قصيدته (قلق الأسئلة) :

 

“هل رأيت الرماد

هل نظرت إلي الشرق محتفلا

بالمدائح والنار والأسئلة

هل ريت العباد

هل نظرت إلي الأنبياء الذين

يمرون من غسق الشرق وينتحرون

علي الجلجلة”

كيف في هذا المقطع يجعلني الشاعر أشتم أريجا قرآنيا مثلا ؟! ورائحة بودلير الفرنسي!

ويقول لتشعر به ككائن أرضي يتقمص أمّه الأرض في تلك الحياة الممتدة زمنيا وجغرافيا  :

“أنا الأرض

أخر عاشقة لبروج السماء

أنا الأرض

أيقونة الدم، تشكيلة البدء والكلمات البسيطة”

يتحدد النفيس من القصائد بنسبيته التي ميزانها هو الذائقة التي تعتمدهاالأغلبية في زمان ممكان ما، واحيانا بنسبيته التي تعلق في القلب أو الذهن، وربما تجد النخبة القادرة على النقد والتمحص،قد ترمي باحجار كريمة احيانا، ثم تحاول بعد حين ان تبحث في كم هائل من الحصى الحجرية عن ذاك البريق الذي ضيعته يوما ولم تضعه في رفوف الماس المخملية ، الشاعر يوسف بركات لديه منالصور والمشاهد و الايحاء والتكثيف ما يليق باتساع فضائه الصاخب بالكواكب والمجرات التي تنسكب في قصيدته الأرضية ببرها وبحرها وما بينهما من نقيع الشواطىء، ببساطة لا يمكن ان تكون إلا كبيرة، يقول الشاعر يوسف بركات في ألم سريالي يرسمه لنا بالاسود والرمادي:

غبش في دمي/ غبش في حروف الكلام/ ودم في فمي/ وفمي وردة في الظلام

وكأي شاعر ثائر قد يعزّ عليه الاستسلام للظلام رغم شدة اليأس، نجده يضع حدا زمنيا لذلك الظلام الدامس،  فيقول للبنفسج والجسد والروح في نهاية كل مقطع عاتب في قصيدته (كتاب الوصايا) :

“واربط (ي)ناقتك بأوتاد الموتى /  واترك(ي)الأغنية تصدح حتى غسق الليل /  هكذا نختتم المشهد”

ربما لا إراديا أو فطريا أراد يوسف بركات أن ينهي مشهده المؤلم السرمدي في غسق الليل فقد يأتي الغد الأجمل الذي تجنبه بأشعاره ، ليترك لنا الطريق مفتوحة رغم وعورتها ويترك السماء زرقاء تلوّن البحر وكأن ما يثيره في بوحه المتدفق هو عصف ذهني لذلك العاشق الذي يحمل على كتفه حورية ذيلها كان بندقية.

 

من الجدير بالذكر أن الشاعر يوسف بركات قد نشر له حوالي 14 ديوان شعري ونثري خلال فترة الثمينيات والتسعينيات من القرن المنصرم من قبل دار العودة في بيروت ودار نجيب الرّيس في بيروت ولندن منها  :

ديوان ” أنثى الخيارات الصعبة ” ، ديوان ” الزقاق السابع في المخيم ”

ديوان ” شمالا باتجاه الجنوب- جنوبا باتجاه قلبي،ديوان ” كبرياء ”

ديوان ” وطن بالحبر الملوث”،ديوان “خاصرة الزمن ”

ديوان ” ما تيسر من صورة هوميروس “، ديوان ” فراغات النفس جدار الروح ” ،ديوان ” تطريز غجري على قميص الجسد ”

ديوان ” احبك احبك … مثل الارض ”

 

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!