مدخل لكتاب (لغة الجسد في أشعار الصعاليك) للكاتبة د.غيثاء قادرة (الجزء الأول)/ بقلم :بقلم : د. زهير سعود

لا أدّعي في هذه الدراسة السريعة تمليك قارئها جميع ما احتواه الكتاب من مباحث قيّمة في موضوعاته المتشعبة، وذلك لسببين جوهريين: أولهما الحرص على سعي القارئ لحيازة الكتاب نظراً لأهميّة كل ما ورد فيه من إمعان الفكر في لغة الشعر وشرحها ومعاني ألفاظها، الذي أنتج الحرص على كل سطر من سطور الكتاب نظراً لقيمتها المعرفية وابتكاراتها الجمالية في علم البلاغة والنحو والتأويل.. أمّا السبب الثاني فيعود لصعوبة الإلمام بمقاصد الكتاب وأهميّة ما كتب وقيمه الفنية والتعليمية في مقاربة فكرة محدثة قلّ نظيرها في التراث الأدبي العربي الغزير، وهي علاقة تعبيرات الجسد بمحتوى الذات الإنسانية والنطق بها على لسان فئة من شعراء الجاهلية المخضرمين، ما جعل الكتاب تحفة أدبية فلسفية لاتكفّ عنه الفائدة في امتلاك لغة الإيحاء، التي صارت من لغات العصر الجامح إلى الرمز والكفّ عن (الثرثرة) الكلامية في لغات التقرير…
درج عند العرب الأولين ومنذ القدم مفهومين للغة، فالأول اعتبرها مخلوقة لايجوز المساس بها وامتلكت قداسة المقدسات بالاستناد إلى قول القرآن الكريم (علّم آدم الأسماء كلها)، ذلك ما دفع (ابن جنّي) أول من تناول اللغة كمفهوم اجتماعي وقدّم دراسته الأكاديمية للغة بوصفها منتج تواصلي إنساني خاضع للتطور والتداول والتبدل إلى المراوغة على المفهوم السابق، احتساباً للأخطار التي هدّدت الخارجين عن التقليد، ما جعله ينظّر لفكرة أن الله مهّد السبيل بالحياة الاجتماعية لتعليم الناس النطق واختراع لغة التواصل والتداول بوصفها أسلوب ضروري للتفاهم…
لم يقف مفهوم اللغة في التاريخ البشري على المعنى الساكن في معجم الحروف اللفظية المنطوقة والمكتوبة، بل اتسع ليشمل الكثير من لغات التواصل التعبيرية عبر نقل مفهوم اللغة من اللفظ إلى الرمز مع (دوسوسور) ومن تلاه لفلاسفة اللغة حيث اتسع المفهوم كثيراً مع جاك دريدا وإبحاره في علوم المعاني والتأويل الهرمسي للرمز اللغوي.. ذلك للإلمام بلغات الرسم والنحت والهندسة المعمارية والموسيقى والغناء والرقص والأزياء وعادات الطعام وغيرها، فتشعّب مفهوم اللغة وتنوّع لإطلاقه من المعجم الكتابي والقرائي إلى المعاني الخاصّة الكامنة في مختلف الأنشطة العقلية الفنيّة لممارسات الإنسان عبر دلالات الخطوط واللحن والألوان والحركات الإيمائية.. ما جعلنا نذهب بمفهوم اللغة من العام إلى الخاص، وفي الخاص تنوع المفاهيم اللغوية في علم الدلالات، حيث أثبت بالمسليف أن معاني الألفاظ تقف على المعنى الواحد في لغة التقرير التي عبّر عنها بالرموز (ت،ع،م) وتساوي: تعبير-علامة-مضمون.. إلى تعدّد المعنى في لغة الإيحاء التي رمز لها بالأحرف (ت،ع،م)ع،م لإضافة معنى جديد لنفس التعبير، هذا ما جعل دريدا يؤول النصوص بعدم استقرار معانيها…
في كتاب لغة الجسد ابتكرت الكاتبة المبدعة د.غيثاء قادرة فهماً خاصّاً تطبيقياً للعلاقة الخاصّة بين إيحاء الجسد لكوامن الذات البشرية العميقة والتأثير المتبادل بين الجسد والنفس فالنطق بتلك العلاقة في أشعار الصعاليك ذات القيمة الأدبية والفلسفية الهامّة في التراث اللغوي العربي، والذي مكننا (الكتاب) من فهم تلك الأشعار واستقاء الكثير من المعاني الدارجة دون فهمها مثل تسمية ديدان (الاسكاريس) بحيّات البطن و(الصفر الخراطينية) حيث اشتقّت لفظة الصفرة من اللون الأصفر الذي بدّل السحنة من أثر الجوع وانعدام المواد الضرورية لنضارة البشرة وحمرتها، كما أن اصطلاح الحيّات جاء من اعتقاد العرب بوجود حيّة في البطن تصدر أصواتاً عند الجوع وتنهش الأحشاء ليتداعى الجسد الجائع وتطلوه صفرة الشحوب، وربّما جاءت التسمية من شكل الأمعاء الدودي.. فالكتاب قدّم أنموذجاً فريداً لترابط المفاهيم الفلسفية والعلمية والأدبية في شروحه الشاملة لأشعار الصعاليك، وما عالجه في تمكين الوعي على اختلاف وجهته من تحليل إيحاء الجسد وحركاته الإيمائية للتعبير عن الحالة الكامنة في أعماق صاحب البدن، وهذا الأمر كما نعلم صار له أبعاداً قرائية عديدة أكاديمية كما في التحليل النفسي وأريكة فرويد، أو التوجهات التشخيصية الطبيّة، فالعين الجاحظة تشي بنشاط الدرق والسهاد والبدانة بقصورها..الخ… يتبع

صنّفت الكاتبة لغة الجسد التعبيرية في أربعة أقسام، تناولتها بالشروح والاستشهادات من أشعار الصعاليك، عزّزتها بإيضاح معاني الألفاظ، وعلاقة الصرخة الشعرية بوجهة الكتاب في إثبات لغة الجسد بوصفه مرآة النفس.. جاءت عليها في فصول الكتاب الأربعة، فتناول أولها لغة الجسد المحروم وأثره في النفس، من تداعيات الجوع والعذاب ثم الغربة ولغة القهر الجسدي والنفسي، داعمة تلك التداعيات -كلّ في موضعه- بأبيات شعرية، أوضحت تلك اللغات الخاصّة وأمتعت القارئ باستفاضات الشرح والتعريف بالألفاظ الصعبة ومعانيها التوظيفية لمقاصد الشاعر المحروم، مما يجعل القارئ كما لو أنه يحيا مع الصعلوك ويلتمس أوجاعه التي تطلقها الأمعاء الخاوية ومرارة القهر، وهو يصف السيماء التعبيرية لأجزاء بدنه الناطق بمكنونات نفسه الجريحة والملتاعة… في الفصل الثاني للكتاب عرضت الكاتبة للغة الجسد الفاني وأثره في نفس صاحبه من خلال بحثين تناول الأول لغة الجسد المهدّد بالفناء من فعل عوامل عديدة أهمها العلّة والهرم والتهديد والوعيد، ليتناول الثاني لغة الجسد المفني أو الآيل للفناء، حيث تظهر لغة الجسد الصور التعبيرية للتلاشي العضوي والتلاشي من أثر المواجهة والقتال ثم التلاشي عبر المطاردة والإغارة، ولكل صورة من الصور تحضر الكاتبة الشواهد على الطريقة التي تم تناولها في الفصل الأول للكتاب وأشرنا لها، فهي بذلك تكمل احتياجات وجهتها لإثبات لغة الجسد التي من الممكن نعتها بالسلبية القائمة على الألم والعذاب والقهر والفناء،، بعد ذلك انتقلت الكاتبة إلى إبراز الصور التعبيرية الإيجابية في لغة الجسد وذلك بفصلين آخرين هما الثالث والرابع، أظهرت فيهما لغة الجسد الفاعل وأثره بالنفس، عبر محاكاة الصعاليك واقع الظلم والاضطهاد محاكاة حركية حيناً وإيمائية في حين آخر، من خلال الاستعدادات لمعارك البقاء وصولاً إلى الإحساس بالوجود، لتستطرد في دراسة صور التعبير عن الجسد الجميل في فصل كتابها الرابع لتبدو لغته العميقة الأثر في النفس، حيث تبرز اللجوء إلى الجمال كهروب من قباحة الوجود، وميّزت الكاتبة ثلاثة صور تعبيرية للغة الجمال الإيمائي، أولها صورة المرأة الغائبة من حياة الصعاليك والحاضرة في نفوسهم، وثانيها صور الرجل القوي القسمات أما ثالثها فهو استحضار جسد الحيوان الذي عكس جمالاً صارخاً فيما لبّاه من نزعة وجودية لدى الشعراء، ولا غرو في التذكير بانتقاء الكاتبة للشواهد الشعرية المذيّلة بالشروح والتعريف بالألفاظ الغريبة في كل صورة تعبيرية أطلقها الكتاب وحدّد بها المنهج اللغوي للغة الجسد في علاقته مع النفس…
عرضت الكاتبة لمفهوم الصعلوك اللغوي، فهو الفقير الذي لا مال ولا اعتماد لديه، ثم تناولت أسباب ظاهرة الصعلكة التي لم يخل من مثيلاتها مجتمع بشري، فهي لم تقف على بضعة شعراء اغتنى بنتاجهم الأدب العربي، لكنها حوت عدداً كبيراً طال بعض القبائل العربية مثل هذيل وفهم، ووقفت أسباب عديدة خلف تلك الظاهرة منها الاقتصادية والجغرافية حيث تمايز السكن بين صحراء قاحلة فقيرة ومناطق بيئية غنية، ثم وقفت على القوانين الاجتماعية التي حكمت علاقات القبائل العربية القديمة مثل قانون الخلع الاجتماعي وفقد الانتماء كما في حالة حاجز الأزدي وقيس بن الحدادية، ثم قانون الهجناء والأغربة للذين ولدوا من أمهات حبشيات سود وحرموا النسب كما في حالة تأبّط شرّاً والشنفرى، وأخيراً اولئك الذين أفرزهم الظلم الاجتماعي مثل عروة بن الورد الذي دعي بعروة الصعاليك لما اشتهر عنه في توزيع حصص من غنائمه على الفقراء، ولهذا فالصعاليك هم الأغربة والفقراء والخلعاء والمتمردون… يتبع في الفصل الأخير.

جعلت الكاتبة مقدمة كتابها تعريفاً بالكتاب ومحتواه، بعبورمقتضب على فصوله ومبتغاه، وقد أصابت حين وسمت بحثها بالشاق والشائك، ولعله لم يخطر لها أن بحثها لم يغنِ التراث العربي القديم كما أرادت فحسب، بل والحديث الحديث أيضاً (مابعد حداثي عربي) وهو الذي دفعني لأنقل غوصها في لجج بحثها إلى غوصٍ لي في لجج هذا الكتاب الفخم، عبر تناصه ومقارناته بحقيقة الواقع الاجتماعي الذي ما تبدل يوماً بغير اصطلاحاته وأشكال تجلياته، فلو شئنا استخدام المعنى الدارج للصعلكة لقلنا أن الحال الإنسانية الكونية حافظت على انقسام المجتمعات بين الصعلكة ونقيضها، مع الفارق بين انتباذ صعاليك المجتمع القديم، وانتباذ المجتمعات عن صعالكة العصر الحديث، حين انتقل الصعلوك من الفقر والخلع والتمرد عبر مركزة رؤوس الأموال بين يديه إلى نبذه مجتمعاً برمّته. وإذا كانت الأنفس الصعلوكية قد أطّرت ذاتها ببثّ همومها وأوجاعها وجوعها وتشردها في النمطية القديمة فقد تبدلت المعايير وأصبح صعاليك العصر يتباهون بما أورثوا المجموعات البشرية من فقر وتشرد افتخروا به وأجّجوه… وما همّنا أكثر من سواه في هذه الدراسة هو الكشف عن الحقيقة التعبيرية للغة الجسد والنطق بها لفظاً، فيما أثبتته العلاقة التفاعلية بين النفس العميقة والجسد الظاهر والخفي -كلّ يؤثر بالآخر- من غزارة الصور والشحن الانفعالي للتعبير بالنطق، وموضوع البحث الذي وجد في شعر الصعاليك مادته الفاعلة، دلتنا تطبيقاته على لغاتٍ أخرى غير الشعرِ للمنتج الإنساني في مختلف الأزمنة والأمكنة، ذلك منح الكتاب قيمتة المضاعفة إن في نقله الممنهج لأعذب الشعر وتنوع صوره وتعبيراته وغاياته، أم التطبيق على مختلف اللغات الإنسانية في كل الأزمنة…
ختم الكتاب بنتائج الدراسة التي عرضت بتكثيف وإيجاز كاشف للّغة الجسدية الصادرة عن تحفيز أعماق النفس الصعلوكية…
بسط بين المقدمة والخاتمة مدخلاً مهماً للتعريف بمعنى الجسد والنفس والروح، عبر المرور على تلك المعاني في ثقافة الشعوب القديمة والحديثة، من الأغريق واليونان وعرب الجاهلية ثم الأمة الإسلامية.. ونكاد نلمح توافقاً بين الاتجاهات الفكرية بين شعوب الأرض وهو ما سعى لإثباته عالم الاجتماع دوركايم، ففي الفلسفات القديمة الأبيقورية والرواقية والجاهلية نما التفكير المادي باعتبار النفس والروح والجسد مادة، ومن طرائف العرب اعتقادهم بطير هو الصدّى أو الهامة الذي يسكن الجسد ويخرج منه للمطالبة بالثأر هو النفس والروح… ميّزت الأفلاطونية ومدرسة سقراط بين حقيقة النفس وانفصالها عن الجسد فهي بموت البدن تفارقه لسكن جديد في بدن آخر (تقمص الأرواح) وفصّلت الديانات السماوية بين الروح التي هي (علمها عند ربي) والنفس التي تعددت مشاربها في القصّ القرآني الكريم بين الآثمة والمؤمنة.. وما قرأته الكاتبة في شعر الصعاليك المنتمين للعصر الجاهلي هو الأفعال الجسدية التي يسمع منها صوت النفس بعد ترجمتها الحركة نطقاً وفعلاً…
موجز في شكل الكتاب:
حوى الكتاب مائتي واثنتين وأربعين صفحة ألحق بهما فهرس للمصادر والمراجع وآخر للتبويب. صفحات الكتاب من القطع الكبير، احتواها غلاف من الورق المقوى المتوسط، ثبّتت على وجهه الأمامي لوحة لحصان وشخصية غابت ملامح الرأس فيها تشي بشخصية فقيرة تائهة خصبة الخيال، مقاتلة بلا سلاح سوى مركوبها الحصان وهو وسيلة الإغارة والهروب. صمٌم الغلاف عبدالله كلثوم والإخراج الفني لوفاء الساطي. الكتاب من إصدارات اتحاد الكتّاب العرب. اعتمد خط الرقعة بالأحرف النافرة والظليلة، وما نرجوه سعي الكاتبة لإعادة استصدار الكتاب نظراً لقيمته وغناه بالمعلومة بعد تضمينه إضافات تشويقية مفيدة، من خلال دعمه بالصور والعروض المختصرة لحياة أبرز الشعراء الصعاليك…

بعض شواهد الكتاب
-لغة الجسد الجائع.. قول الأعشى:
لايتأرّى لما في القدرِ يرقبهُ/ ولا يعضّ على شرسوفه الصّفر.
-لغة الجسد المعذّب.. قول الشنفرى:
ومستبسلٍ ضافي القميصِ ضممتهُ/ بأزرقَ لا نكسٍ ولا متعوّجِ.
-لغة الهرم والشيخوخة.. قول السليك بن السلكة:
أشابَ الرأس أنّي كلّ يومٍ/ أرى لي خالةً وسط الرّحالِ
-لغة التهديد والوعيد.. قول عروة بن الورد:
فإن فاز سهمٌ للمنيّة لم أكن/ جزوعاً وهل عن ذاك من متأخّرِ.
-لغة فناء الجسد.. قول الشنفرى:
لا تقبروني إن قبري محرّمٌ/ عليكم ولكن أبشري أمّ عامرِ.
-لغة فناء الجسد بالإغارة والمطاردة.. قول تأبّط شرّاً:
ولستُ أبيتُ الدّهر إلّا على فتى/ أسلبهُ أو أذعرُ السّرب أجمعا.
-لغة الجسد الشاب الفتي.. قول صخر الهذلي:
معي صاحبٌ داجنٌ بالعزاةِ/ ولم يك في القومِ وغلاً ضعيفا.
-لغة الجسد الصابر.. قول الشنفرى:
فإنّي لمولى الصّبرِ أجتابُ بزّهُ/ على مثلِ قلبِ السمعِ والحزمَ أفعلُ.
-لغة الجسد الثائر.. قول عروة:
لعلّ انطلاقي في البلادِ وبغيتي/ وشدّي حيازيمَ المطيّةِ بالرّحلِ.
– لغة جسد المرأة.. قول أبي الطمحان القيني:
وبيضاءَ مثلِ الرّيمِ قد كنتُ خدنها/ ربت في نعيمٍ جيدها غيرُ عاطلِ.
-لغة جسد الرجل.. قول الشنفرى:
سراجينُ فتيانٌ كأنّ وجوههم/ مصابيحُ أو لونٌ من الماءِ مذهبُ.
-لغة جسد الحيوان.. قول الشنفرى:
وأغدو على القوتِ الزهيدِ كما غدا/ أزلّ تهاداه التنائفُ أطحلُ.

تعقيب في طبيعة الظاهرة: مثّلت الصعلكة كما أوردها كتاب الدكتورة غيثاء، ظاهرة اجتماعية أفرزتها الطبيعة الخاصّة للحياة البدوية في صحراء الجزيرة العربية لزمن الجاهلية، وتدخلات العوامل الجغرافية والاقتصادية ببعض القوانين الاجتماعية الناظمة لحياة مجتمع تشوبه قوانين القبيلة والتشكيل الاجتماعي ماقبل الاقطاعي الذي لم تنضج فيه البنية الاجتماعية لتأسيس الطبقات الاجتماعية ذات السمات والخصائص الاقتصادية والاجتماعية والفكرية الواسمة، ما جعل بعض القيم الإنسانية في حياة فئة الصعاليك (أعمال عروة) لا تجعلنا نؤسس لمفاهيم اجتماعية تخصّ النظام الاشتراكي المتولّد بحكم التطور التاريخي عن النظام الرأسمالي، حيث افتقد مشروعه التاريخي في ظروف الصعلكة، لتبقى تلك المفاهيم والممارسات أسيرة نزعات ذاتية مختلفة الارتكاز، وقوامها إبراز الذات التائهة والمعذبة والرافضة المشوبة ببعض النزعات الإنسانية لحياة البشر، وهو ما عكسته القيم الفكرية لشعر الصعاليك التي لم تخلد لمفهوم الطبقة الاجتماعية أو القسم الطبقي وبقيت أسيرة الشتات والغربة وتمجيد الذات أو رفضها، هذا جعلنا لا نوافق حماس العديد من الكتّاب الذين تمادوا في فهم الظاهرة وتحميلها مالا تحتمل، كما أن مفهوم الصعلكة في التاريخ العربي لم يرتبط بالفقر وحده كمؤسس للظاهرة حيث وسم الفقر غالبية السكان المنتمين لمحيطهم خارج نطاق ظاهرة الصعلكة، وقد ارتبط بمفهوم الصعلكة معانٍ لم يكفها إطلاق صفة الفقر، مثل التشرد والتسكع واللصوصية والرذالة والهامشيّة وغياب المسكن وغيرها. ما حتّم بقاء الظاهرة ضمن إطار سلبية المعايير الاجتماعية لإنتاج فئة أو طبقة اجتماعية لها خصوصيتها الاقتصادية، فالصعلكة صرخة الصحراء التي أفلحت في إنتاج الشعر التقليدي ولغة الجسد الذي أسس له الكتاب كخاصّية لغوية جديرة بالاهتمام والإفادة منها في تطبيقات عصرية مناسبة. وفي هذا السياق نمت قيمة فكرية حداثية للكتاب الذي صيغ على نمطية الأدب مابعد الحداثي الأوربي، بالذهاب للقديم والأسطورة فما شابهها لإنتاج قيم فكرية معرفية جديدة بعين مبدع هذا العصر، ولغة الجسد التي أفلحت الكاتبة في الإشارة لها عبر الأحاديث الكثيرة عن حركات الإيماء والإيحاء ومعاني الحركات الناطقة بالجسد ظاهره أم وحيه الخفي هو ابتكار قرأته بين سطور الكتاب، الذي تناول بالتحليل والشرح والتبويب لغة شعراء الصعاليك المنطوقة باللسان… تحضرنا مقولة دوسوسور واعتباره اللسان محفوراً بالدماغ، إنه عضو اجتماعي ناطق، ونتاج الملكة اللغوية فالمواصفات التي تبناها الكيان الاجتماعي لتمكين الأشخاص من ممارسة هذه الملكة، واللسان نظام نحوي يوجد بالأدمغة وبشكل دقيق في أدمغة مجموعة من الأفراد، منهم من طالته موضوعات الكتاب الذي بين أيدينا، وكان ابن جنّي قد سبق دوسوسور في شروحه التفصيلية عن اللغة لمقاربات تلك المفاهيم.. كلّ ذلك يدفعنا لتأكيد وظيفة اللسان التواصلية وهو من مظاهر الجسد الأبرز للتعبير عن كوامن النفس العميقة أو الإرادة أو العقل الباطن حسب التعبيرات الفلسفية، وقد أوضحت لنا الكاتبة من خلال عملها المضني تأويلات المنطوق على لسان فئة الصعاليك في استحضارهم الحالة البدنية لجسد الشاعر الصعلوك والحالة البيئية للجسد المحيط به، إضافة لما جاش في أعماق ذاته الإنسانية في إثبات الوجود ضمن تشكيلات اتصالية قاسية مع الداخل والخارج، ممنهجة لغتها الخاصة في تصنيفات عدّة لوحي الصور التعبيرية للغة الشعر، جعلتنا الكاتبة بذلك نحتكّ احتكاكاً مباشراً بالشاعر وظروفه رغم البعد الزمني والمكاني، فهو يعيش بيننا ويصدح بالنطق عن ذاته العميقة في تفاعلاتها مع جسده المتصل بالبدن والمنفصل بالبيئة المحيطة في مساحة حركة الشاعر.. والعرب لم يعشقوا الكتابة قبل دخول حروف اللغة من محيطهم السوري الفينيقي الذي أوصل لهم أبجدية أوغاريت، فقد كانوا يعتمدون ذكاءهم الخاص في الحفظ والذاكرة الحاضرة دوماً، إلى أن رسّخ الإسلام عندهم الحفظ في مطبوعات الكتابة، والتي نقلت منها الكاتبة تصنيفها الخاص للغة الشاعر الصعلوك الغارق في خضمّ أحداث بيئته الصحراوية وتفاعلات جسده معها لإنتاج شعوره الخاص وهو يبحث عن كيانه الوجودي بالسلب والإيجاب فعبّر عنه لسانه الناطق. إن كتاب لغة الجسد في شعر الصعاليك لكاتبته الدكتورة غيثاء قادرة جدير بالقراءة واستنطاق تجربته الخاصّة في ميادين البحث للواقع المعاش.

 

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!