نزهه في حدائق وجدان الكاتبة والشاعرة اللبنانية عناية أخضر (خضراء عامل) كتب : صالح عبده اسماعيل الآنسي

 

رشاقة الإيقاع وسمو اللغة
الشعر عندما تكتبهُ عناية

نزهه في حدائق وجدان
الكاتبة والشاعرة اللبنانية
عناية أخضر (خضراء عامل)

كتب : صالح عبده اسماعيل الآنسي

هي كاتبة وشاعرة تكتب كغيرها من النساء بإحساس أنثى مفعم، جياش وعذب، ولكنها تختلف عنهن بالكثير ، فما تقرأه لها لا تستطيع إسقاطه على حياتها، وربطه بعالمها في الواقع، كما قد يتبادر إلى أذهان البعض عند قراءة نتاج بعض الإخوة والأخوات من الشعراء والشواعر ، وخصوصاً إذا كنت ممن يتابع دوماً نشاطها وما تصدره ورقياً، وتنشره إلكترونياً على موقع التواصل الفيس بوك ؛ فما تكتبه لا ينم في الغالب عن تجارب شخصية مرت بها في حياتها، بقدر ما هو تقمص حالات شعورية لتجارب مر بها الآخرون من حولها، جسدها بكل نجاح وصدق رهافة ودقة إحساسها بمعاناة الغير وما يمرون به، وروعة قلمها الذهبي، وساعدها على ذلك ما عرف عنها واشتهرت به من جم التواضع والطيبة، وسمو النفس ورفعتها، وحسن الخلق، وحب الخير للناس، وحسن الظن بهم، ونقاء السريرة، وطهر المقاصد .

إننا إذاً أمام سيدة عظيمة، وكاتبة وشاعرة مختلفة، وفريدة من نوعها، كانت ولا زالت وستظل – من وجهة نظري ومن وجهة نظر كل من عرفها وتابعها – هي النموذج المثالي الأول والأرقى للمرأة اللبنانية، وللمرأة العربية المسلمة الملتزمة بإعتدال، ومن كاملات النساء إن كان هناك من إنسان كامل، تحمل بثقافتها وأدبها رسالة الحرف واليراع السامية، ولها بكل فخر ما يميزها عن الغير ، في كلٍ من نبل وكمال شخصها ورقيها، وفي نتاجها، وهو ما جعل لها مكانة كبيرة في محيطها الإجتماعي، وفي المشهد الثقافي والأدبي بلبنان والعالم العربي ، وفرض على الجميع احترامها وتقديرها .

وللأخت الكاتبة والشاعرة عناية أخضر (خضراء عامل) نتاج شعري فخم يرقى إلى المستوى الجيد جداً والممتاز من حيث القيمة الموضوعية والفنية، ومن حيث النوع والكيف، لا الكم، كونها شاعرة مقلة مثلي في العمود، غلب عليها الكتابة في الألوان الأدبية النثرية وتصنيف المؤلفات، إلا أن في نتاجها من العمود ما يستحق التناول بالدراسة، والوقوف بالتأمل عنده طويلاً ، لما يحمله من نضج في التجربة، وسمو في اللغة، وعلو في القيمة، يكشف عن شاعرة مُجِيدَة، مطبوعة على قول الشعر، مبدعة بحق، متمكنة من أدواتها، غنية بثقافتها وضخامة قاموس مفرداتها، وأساليبها البلاغية والفنية، تقترب فيه إلى الحداثة أكثر، وتكاد ترقى به إلى مصاف نتاج كبار الشعراء والشواعر.

* قراءة في نصوص مختارة من شعرها :

سبق وأشرت إلى أن أكثر ما تكتبه الشاعرة ناتج عن تقمصها وتجسيدها لحالات شعورية وتجارب مر بها الغير من حولها، وخصوصاً من بنات جنسها النساء، ولكونها في المقام الأول والأخير أنثى مثلهن؛ فلديها فطرياً القدرة على الإبداع أكثر في تناول الأغراض العاطفية، والكتابة بكل عذوبة ورقة عن الهوى والعشق والعلاقات الإنسانية وقيم الإخلاص والوفاء في الحب، وذلك قد يصادف هواً في نفسها تنزع إليه أكثر من اي غرض آخر كونها أنثى، وما تكتبه في هذه الأغراض ليس لمجرد التنفيس عن المشاعر ، أو محاولة للعيش ذهنياً وشعورياً في مثل هذه التجارب، ولكن سنجد أن مضمونه يحمل الكثير من الإيحاءات التي تدعو للمحافظة على القيم، والسمو بالمشاعر والأحاسيس الإنسانية .

وفيما يلي سوف أقوم بتناول ثلاثة نصوص عمودية من شعرها بالقراءة والتحليل :

– أبدأها مع قصيدة جميلة ورائعة لها، تعد من بين أجمل ما كتبته، وفاض بطهر عذوبته غمام وجدانها، وهي بعنوان ” كيف أنساه ؟! ” تقول فيها :

آهِ رَبّـي مِـنْ عَـذابِـي !
مِـنْ جُـنُـوْنِـي فِـي هَـوَاهُ !

كَـمْ سَـأشْـقَـى فِـيِـهِ يَـوْمَاً
أُسْـمِـعُ الـلّـيْـلَ صَـدَاهُ ؟!

كِـمْ أَخَـافُ الـلّـيْـلَ يَـأتِـي
حِـيْـنَ أَشْـتَـاقُ لِـقَـاهُ ؟!

كَـمْ سَـيَـبْـقَـى بَـعْـدَ عُـمْـرِي
لَا أَرَى فِـيْـهِ سِـوَاهُ ؟!

كُـلُّ يَـوْمٍ فِـيْـهِ يَـأتِـي
يَـتْـبَـعُ الـقَـلـبُ خُـطَـاهُ

أَشْـرَقَ الـلحْـظُ بِـطَـرْفِـي
يَـنْـضَـوِي فِـيْـهِ مَـدَاهُ

أُغْـمِـضُ العَـيْـنَ بِـكَـفِّـي
عَـلَّـنِـي أُطْـفِـي سَـنَـاهُ !

فَـأَجِـدْنِـي بَـيْـنَ حُـلْـمِـي
لَا أَرَانِـي، بَـلْ أَرَاهُ

لَا أَخـالُ الـعُـمْـرَ يَـكْـفِـي
لَـيْـسَ يَحْـلُـوْ فِـي نَـوَاهُ

سَـاءَنِـي قَـلْـبٌ تَـفَـانَـى
يَـرْتَـقِـي فِـيِـهِ عُـلَاهُ

كُـلُّـمَـا أَنْـوِي رَحِـيْـلِـي
شَـدَّنِـي شَـوْقًـاً مُـنَـاهُ

كَـيْـفَ أَنْـسَـاهُ وَحِـيْـدَاً
وَفُـؤَادِي مَـنْ حَـوَاهُ ؟!

هَـلْ سَـأَنْـسَـى ذَاتَ يَـوْمٍ
هَـلْ سَـيُـنْـسِـيْـنِـي جَـفَـاهُ ؟!

أَتْـلَـفَ الـشَّـوْقُ فُـؤَادِي
وَتَـوَلَّانِـي هَـوَاهُ !

والقصيدة من مجزوء الرمل، عروضها صحيحة وضربها صحيح، بروي قافيتها وهو حرف الواو الذي جاء من إشباع حركة الضم لهاء الضمير التي صارت بذلك هي حرف الوصل في القافية؛ فجاءت بذلك تفاعيل القصيدة على النحو التالي :

(فَاعِلَاتُنْ – فَاعِلَاتُنْ *** فَاعِلَاتُنْ – فَاعِلَاتُنْ)
( /5//5/5 – /5//5/5 *** /5//5/5 – /5//5/5 )
ومع أني كنت أرى أن الوقوف بالسكون على هاء الضمير في القافية سيبدو أروع من تحريكها بالضم، لأن الوقوف عليها بالسكون يعزز من إحساس القارئ للقصيدة بالحيرة التي كانت تنتاب الشاعرة، إلا أن العروضيين يقولون أن الضرب السالم للرمل لا يجوز فيه الكف (حذف السابع الساكن) تحاشياً للوقوف على حركة قصيرة، أي لا يجوز عندهم أن تصبح تفعيلة الضرب كالتالي :

(فَاعِلَاتُنْ – فَاعِلَاتُنْ *** فَاعِلَاتُنْ – فَاعِلَاتْ)
(/5//5/5 – /5//5/5 *** /5//5/5 – /5//55)

وبذلك يكون ما فعلته الشاعرة من تحريك الهاء بالضم في القافية هو الصواب من وجهة النظر العروضية السليمة .

وأستطيع القول هنا أن الشاعرة قد وُفِقَت في اختيار البحر المناسب لغرضها في هذه القصيدة؛ فالرمل من البحور التي تستخدم للأغراض الرقيقة، أختارته الشاعرة بصورة عفوية، بما يتلاءم مع عاطفتها وحالتها الشعورية والنفسية التي تجري في مجرى الرقة، ومع غرضها المتمثل بالشكوى من العذاب في هوى المحبوب، ومن لاعج الشوق والحرمان في البعد عنه.

والقصيدة – وهي من بين قصائدها التي كتبتها لروايتها (عند منعطف الرجوع…إسمي وجاد)، وجاءت بها على لسان حال ومقال أحد شخوصها، وأستطاعت فيها أن تتقمص الدور وتجسد الحالة الشعورية للشخصية – تعد من بين أجمل وأروع ما كتبته الشاعرة والكاتبة عناية أخضر من النصوص العمودية؛ لما سالت به أبياتها من العذوبة والرقة، وطفحت به من الشجن والصدق الوجداني الكبير، ومن المعاني والصور الخلابة، وما زخرت به من المفردات المنتقاة بعناية ومن لغة عالية .

بدأتها الشاعرة بمطلع استهلالي مباشر، تلقائي وغير متكلف، لم تصرع شطريه، ولم توجه خطابها فيه ولا في كل القصيدة للمحبوب بشكل مباشر، وإنما جاءت على ذكره كغائب بعيد؛ في هاء ضمير الغائب العائدة عليه في القافية؛ التي أستمرت حتى آخر بيت، وجاءت بسياق النص في بعض الكلمات نحو ” فيهِ” و ” أنساهُ”.

تشكو الشاعرة لله تعالى – كمخاطب وحيد في القصيدة – من عذابها ومن جنونها في هوى المحبوب، وتبث آها إليه وحده، وهو من بيده قلب ذلك المحبوب المشتكى إليه من عذابها في حبه وهواه، ومن بيده القدرة على تهوين ذلك العذاب، والقدرة على تليين وتطويع قلب المحبوب ليكون معها كما تريد وتتمنى، ومفردة (جنوني) توحي بمدى تعلقها الكبير به، فحبها له جنوني وغير عادي، وفي هذه المفردة ما فيها من معنى المبالغة والدل الأنثوي المثير في الهوى والحب .

ثم تتسائل بحيرة كبيرة في الثلاثة الأبيات التي تلي المطلع – مستخدمة أداة الإستفهام ( كم ) وهو من أساليب الإنشاء الطلبي – عن كم من الأيام والليالي سوف تشقى بها في هواه، وعن خوفها من مجيء كل ليلة وهو بعيد عنها وليس في القرب منها، وعن كم ستبقى في كل عمرها وبعد مضي عمرها – ربما في حياة أخرى قادمة – لا ترى حبيباً لها سواه، وتكرارها لأداة الإستفهام (كم) في أول كل بيت من الأبيات الثلاثة جاء لتأكيد مدى حيرتها البالغة، ولتأكيد مدى عذابها في هوى المحبوب والإشتياق له، ولي عند قولها في هذا البيت :

كِـمْ أَخَـافُ الـلّـيْـلَ يَـأتِـي
حِـيْـنَ أَشْـتَـاقُ لِـقَـاهُ ؟!

وقفة تأمل لطيفة وهي : أنها قرنت خوفها من الليل بعدم تواجد المحبوب، أي بعدم قربه منها فيه، وفي هذا إشارة إلى كم يكون الليل حقاً موحشاً في الوحدة، بلا رفيق ولا أنيس حبيب، وكم كان جميلاً ورائعاً منها أن حددت الليل بكلمة (حين) دوناً عن سائر الأوقات كوقت مطلق تشتاق فيه للقاء المحبوب، ففي الليل يختلي كل منا بنفسه، في داره، مع أهله وخاصة أحبته، بعيداً عن الآخرين من البشر، وعن صخب وضوضاء الحياة، فهو بهدوئه وسكونه من أكثر الأوقات التي يتاح للمرء الأقتراب فيها بصفو أكثر ممن يحبهم، والتعاطي معهم جلوساً وحديثاً وتسامراً، وفيه يصفو الذهن، ويبدأ شريط أجمل الذكريات بالعرض، وتبلغ ذروة الإشتياق للمحبوب أوجها .

ثم تنتقل في البيت الخامس والذي يليه من أسلوب الإنشاء إلى الخبر؛ لتخبرنا أن كل يوم يأتي عائداً إليها فيه يتبع قلبها خطاه، وفي هذه الصورة تجسيد جميل للقلب، وفيها إشارة إلى حرصها على دوام مرافقة المحبوب وملازمته، فقلبها لا جسدها هو من يتبعه حيث ما ذهب، ويقودها للدوران معه حيث ما دار، فيشرق في طرفها لحظ ذلك المحبوب (أي رؤيته) وينضوي فيه مداه، فلا تستطيع أن تمنع عينيها عن استدامة النظر إليه، وعن طول التحديق فيه، فحتى إذا حاولت أن تغمض عينيها بكفها عنوة؛ تجد أنها تنظر إليه وتراه، لا أن ترى نفسها، وفي ذلك من معنى التفاني والإخلاص في الحب الكثير، لتقول بعد ذلك أن كل أيام العمر القليلة التي يتاح لها أن تقضيها بالقرب منه حين تواجده معها لا تكفي، بل لا يحلو عمرها كله في إستمرار تكرار نوبات البعد عنه .

ثم تأتي في البيت العاشر والذي يليه لتخبرنا : أن مما ساءها في هوى ذلك المحبوب هو قلبها، الذي كم تفانى وضحى في حبه، وكان مرقاته للصعود إلى العلياء، وأنها كلما فكرت أن تجبر نفسها على نسيانه، وعلى تركه والرحيل عنه؛ يشدها قلبها بقوة إليه، وإلى غاية مناه المتمثلة في البقاء بجواره، فعقلها يريد ما لا يريده قلبها، وفي هذين البيتين إيحاء بشكوى مبطنة بين سطورهما..عن أن ذلك المحبوب لا يكترث كثيراً بتضحياتها وما قدمته له، ولا يقابل حجم ذلك العطاء منها بالمثل، وكأن الشاعرة هنا تود الإشارة إلى أنه كان بإمكانه أن يقلل من أوقات بعده عنها، أو أن لا يبتعد عنها، وأنه بفعله لهذا يكون قد أرضاها، وتفانى في حبها، كما هو فعلها معه .

ثم تعود في البيت الثاني عشر والذي يليه من أسلوب الخبر إلى الإنشاء الطلبي بأداتي الإستفهام ( كيف – هل )، فتتساءل بحنان وشفقة الأنثى المحبة؛ المعروفان والمعهودان عنها..كيف يمكنها أن تنساه وحيداً؛ وفؤادها هو من احتواه ؟! ، فمن سيحتويه يوماً غير قلبها ؟!، وهل ترضى لها غيرتها عليه أن يحتويه قلب أنثى غير قلبها ؟!، وتتسائل بعد ذلك هل يمكنها بعد كل هذه المعطيات أن تنسى عذابها في حبه، وهل يمكنه بالمقابل أن يفعل معها في القادم من الأيام ما يجعلها تنسى جفاه في أيام البعد عنه ؟ .

ثم تخلص في البيت الأخير من القصيدة إلى الإقرار العام بأن الشوق قد أتلف فؤادها، وأن هوى المحبوب قد تولاها، وسيطر عليها؛ فلا فكاك لها ولا خلاص منه، ولا مهرب إلا إليه .

– وللأخت الشاعرة والكاتبة عناية أخضر قصيدة عتاب ومناجاة استعطاف جميلة للمحبوب، غاية في الرقة والعذوبة، يلين لها الصخر القاسي فكيف بقلب ذلك المحبوب الإفتراضي المخاطب فيها، كانت هي أول من لفت انتباهي إليها كشاعرة، وإلى ما يميز أسلوبها الشعري، وحازت على منتهى إعجابي منذ أن قرأتها لأول مرة على صفحة يومياتها بالفيس بوك، وهي بعنوان ” كفى تبكي ” تقول فيها :

أَيَـا مَـنْ كَـانَ يَهْـوَانِـي
أحَـقَـاً أَنْـتَ تَـنْـسَـانِـي ؟!

أَتَـنْـسَـى أَنَّـكَ الـطَّـيْـفُ
الـذِي أَسْـرَى فَـأشْـجَـانِـي ؟!

وَتَـنْـسَـى الآهَ فِـي صَـدْرِي
تُـدَاوِيْـهَـا، وِتَـرْعَـانِـي ؟!

وَيَـمْـسَـحُ دَمْـعَـتِـي حَـرْفُـكْ
وَيَـمْـحُـوْ كُـلَّ أَحْـزَانِـي ؟!

أَيَـا مَـنْ كُـنْـتَ تَـحْـيَـانِـي
صَـحِـيْـحٌ أَنْـتَ تَـنْـسَـانِـي ؟!

وَتَـنْـسَـي أَنَّـكَ الـنَّـبْـضُ
الـذِي يَـغْـلِـي بِـشُـرْيَـانِـي ؟!

وَتَـنْـسَـى أَنَّـكَ العِـطْـرُ
الـذِي فِـي لَـوْنِـيَ الـقَـانِـي ؟!

وَتَـنْـسَـى رَقْـمَ جَـوَالِـي
وَلَحْـظَـةَ كُـنْـتَ تَـلْـقَـانِـي ؟

وَتَـبْـكِـي حِـيْـنَ تَـفْـقِـدُنِـي
وَأَسْـمَـعُ لَـوْمَـكَ الجَـانِـي ؟!

وَأَعْـزِفُ فِـيْـكَ قَـافِـيَـتِـي
وَأُغْـنِـيَـتِـي وَأَلْـحَـانِـي ؟

فَـتَـنْـسَـى العَـيْـنَ فِـي إِسْـمِـي
وَعَـيْـنُـكَ بَـحْـرُ أَوْزَانِـي ؟!

أَيَـا مَـنْ كُـنْـتَ تَهْـوَانِـي
أَحَـقَـاً أَنْـتَ تَـنْـسَـانِـي ؟!

أَيَـا مَـجْـنُـوْنُ فِـي حُـبِّـي
مَـتَـى أَدْمَـنْـتَ نِـسْـيَـانِـي ؟!

أَتَـهْـدُرُ رُوْحُـكَ الأَتْـرَاحَ
إِنْ آثَـرْتَ هِـجْـرَانِـي ؟!

وَسَـلَّـتْ دَمْعَـتِـي نَهْـرَاً
وَطَـيْـرُ الـبَـازِ يَـنْـعَـانِـي ؟!

وَأَمْـضِـي فِـيْـكَ تَـائِـهَـةً
مَـتَـى غَـادَرْتَ أَجْـفَـانِـي !

فَـيَـا مَـجْـنُـوْنُ فِـي حُـبِّـي
وَيَـا فَـيْـرُوْزَ شُـطْـآنِـي

كَـفَـى تَـبْـكِـي، وَتُـبْـكِـيْـنِـي
كَـمَـا أَهْـوَاكَ تَهْـوَانِـي !!

والقصيدة قد تبدو أنها تنتمي لبحر الهزج المعروف بخفة ورشاقة إيقاعه، بينما يتضح للمغرق في تأمل وتقطيع أبياتها أنها من مجزوء الوافر المعصوب، بتسكين الخامس المتحرك في لام تفعليته ( مُفَاعَلْتُنْ – //5/5/5) التي كان الأصل فيها أن تكون متحركة ( مُفَاعَلَتُنْ – //5///5)، ولهذا تشابه تفعيلاته تفعيلات الهزج ( مَفَاعِيْلُنْ – //5/5/5)، فعندما تُعْصَبْ جميع أجزاء الوافر المجزوء يُشتبَه بالهزج .

وأستطيع القول هنا أيضاً أن الشاعرة قد وُفِقَت في اختيار البحر المناسب لغرضها في هذه القصيدة؛ فالوافر بحر في إيقاعه قدر كبير من العذوبة والرقة، وهي أَيضاً من بين قصائدها التي كتبتها لروايتها (عند منعطف الرجوع…إسمي وجاد).

أستهلت الشاعرة هذه القصيدة بمناداة المحبوب، بإسلوب الإنشاء الطلبي والذي سنجد أنها اعتمدته كثيراً في أغلب أبيات القصيدة، والمتمثل هنا في أداة النداء ( أَيا ) التي تستخدم لمناداة البعيد، والذي جاء غرضه هنا للإستعطاف.

تناديه واصفة له بأنه : من كان يهواها، والفعل الناقص (كان) هنا وإن كان يفيد حدوث هواه لها في الماضي، وأن هذا الحدث لم يعد مستمراً بالحاضر أو ممتداً إليه، إلا أنها جاءت بمعنى هذه العبارة على سبيل العتاب والإستعطاف، ثم تسائله مستغربة بإستنكار : هل حقاً هو ينساها، كما يبدو من تظاهره لها بذلك ؟!، لتردف هذا المطلع بثلاثة أبيات تعاتبه فيها بحيرة؛ فتقول له : أتنسى أن طيفك هو الطيف الذي طالما أسرى إليَّ في ديجور الليالي؛ فأشجاني تأمل ملامحك فيه، وكان رفيقي وأنيسي دوماً في غيابك ؟!، أتنسى أنك كنت من تداوي الآه في صدري، ويمسح حرفك دمعتي ويُذهِبُ عني كل أحزاني ؟!

ثم تعود في البيت الخامس والذي يليه؛ لتبدأ دورة ثانية جديدة في مناداته ومعاتبته واستعطافه، ولكن هذه المرة لا تصفه بأنه هو من كان يهواها، ولكن لتصفه بأنه هو من كان يحيا فيها بحبها له، وتسائله باستغراب استنكاري : هل صحيح أنه يقدر على نسيانها، وينسى أنه النبض الذي يغلي بشريانها، وأنه عطر الذكرى الذي في لون طفولتها الغني ببراءته ونقاه حيث المرتع الأول الذي شهد صباهما معاً، وينسى رقم جوالها ولحظات اللقاء والتواصل الجميلة، وينسى كم كان يبكي حزناً وشوقاً حين يفقدها وتغيب عنه – والفعل ( تبكي ) في البيت كناية عن مدى حزنه واشتياقه إليها، وقد لا يحمل معناه الحرفي الظاهري في السياق – فتسمع منه بعد عودتها لومه وعتابه الشديد الجاني، لتكتب فيه بعد ذلك بعض شعرها تسترضيه، أينسى حرف العين في إسمها، ذلك الإسم الذي لطالما كان يحبه ويخفق له قلبه بقوة، لمجرد تذكره، أو قراءته، أو النطق به، مع أن حرف العين في اسمه كان دائم التواجد في بحور شعرها، وهو هنا إشارة إلى اسمها واسمه اللذان يشتملان على هذا الحرف، ولي مع قولها :

وَتَـنْـسَـي أَنَّـكَ الـنَّـبْـضُ
الـذِي يَـغْـلِـي بِـشُـرْيَـانِـي ؟!

وقفة جديرة بالتأمل، وهي : أنها لما ذكرت أنه النبض الذي بشريانها؛ قالت ( يغلي )، فالغليان ألصق ما يكون شبهاً بماهية حدوث النبض في العروق، وهي مفردة أقوى من حيث المعنى، ولم تقل أيضاً ( بوريدي) بدلاً عن ( شرياني )، مع أن مفردة (شرياني) أقتضى إيرادها منها حال مناسبة القافية، لكنها جاءت بها أنسب مكاناً ووقعاً، وأقوى من حيث المعنى، لأن الشرايين أعمق موقعاً من الأوردة، وبذلك جاء البيت فخماً في مدلوله ومعناه، فالمحبوب هنا هو النبض الذي يغلي بالأعماق .

ثم تعود في البيت الثاني عشر لتبدأ دورة ثالثة جديدة من المنادة والعتاب والإستعطاف، فتعيد إيراد نفس محتوى البيت الأول من القصيدة، مع إضافة (تاء الفاعل) للفعل الناقص ( كان)، وهذا مما يوحي أنها صارت تخاطبه بشكل أقرب، وأن حدة عتابها بدأت تهدأ وتخف، وتتجه بتركيز أكثر إلى استعطافه وإسترضائه، فتناديه بدلٍ بالغ متسائلة :

أَيَـا مَـجْـنُـوْنُ فِـي حُـبِّـي
مَـتَـى أَدْمَـنْـتَ نِـسْـيَـانِـي ؟!

ثم تسائله في الثلاثة الأبيات التي تليه : هل ستهدر روحه الأحزان إن هو آثر أن يهجرها، ويجعل بذلك دمعتها تجري كالنهر، ويجعلها تمضي فيه شاردة الذهن، حائرة الفكر إن هو غادر بعيداً عن أجفانها ؟!، ويجعل طير الباز ينعي موتها حزناً على فراقه ؟!، مستخدمة نفس أسلوب الإنشاء الطلبي بأداة الإستفهام ( الهمزة)، الذي لا يرجع هنا إلى غرض الإستغراب الإستنكاري، ولكن إلى غرض الإستعطاف والإسترضاء، ولي في قولها بالبيتين :

أَتَـهْـدُرُ رُوْحُـكَ الأَتْـرَاحَ
إِنْ آثَـرْتَ هِـجْـرَانِـي ؟!

وَسَـلَّـتْ دَمْعَـتِـي نَهْـرَاً
وَطَـيْـرُ الـبَـازِ يَـنْـعَـانِـي ؟!

ما يستحق الوقوف عنده : في قولها متسائلة (أتهدر روحك الأتراح) هذا الإستفهام التهكمي الذي حمله على هذا المعنى مفردة ( تهدر )، وكأن الشاعرة تود هنا أن تقول له : هل اعتادت روحك على ديمومة الأحزان وصارت لك مغنم؛ فترى أنك إن أدخلت عليها الأفراح بقربك مني تكون قد أهدرت أحزانها ؟!، وفي قولها أيضاً ( وطير الباز ينعاني ) لماذا تعمدت الشاعرة أن تختار طير الباز ناقلاً لخبر موتها حزناً على فراق المحبوب دوناً عن سائر الطيور المعروفة في التراث بحاملة النعي، وبالتشاؤم من تحركها وأصواتها كالغراب والبوم ؟!، وبالتأمل في سيرة حياة هذا الطائر نجد أنه من الصقور الجارحة القوية، الأسرع طيراناً، والأكثر حدة في النظر وفي دقة الملاحظة، وأنه طائر الصيد الجارح الرئيس بالبلدان العربية، ويعرف نوع منه بالباز الشمالي (البرني)، لتواجده بشمال أفريقيا ودول حوض المتوسط والتي منها لبنان موطن الشاعرة، وهذا ربما ما جعل الشاعرة تأتي على ذكره، وفقاً لما درج عليه العرب في تراثهم من الإحساس بموت أحدهم عبر التحرك الغريب والمثير للطيور واضطرابها المفاجئ؛ فيقولون : ” نَعَى إِلِينا فُلَانَاً طَائِرٌ تَحَرَّكَ وَاضْطَرَبْ”.

ثم تأتي الشاعرة في البيت قبل الأخير لتنادي المحبوب هذه المرة بـ ( يا ) التي تستخدم في العادة لنداء القريب، وكل أدوات النداء أتت بالقصيدة لغرض الإستعطاف، وتشي (يا) النداء للقريب هنا بأنها أمست ترى أن المحبوب صار بعد كل هذا العتاب والإستعطاف أقرب إليها بكثير، وأن هذا العتاب ربما قد يؤتي أُكله معه، فتعيد وصفه بالمجنون في حبها كما كانت تعهد ذلك منه، وتصفه بأنه فيروز شطآنها، لتخلص في البيت الأخير من القصيدة إلى أمره بالكف عن البكاء وعن إبكائها، وتقر بالتصديق كنتيجة حتمية نهائية ودائمة بأن : كما هي تهواه فهو يهواها .

– وللشاعرة قصيدة أخرى في منتهى العذوبة والرقة والخيالية الجانحة، تجري على نفس نسق اسلوبها في اختيار النظم على الأوزان الخفيفة، فيها قدر كبير من الحداثة في صورها وإيحاء معانيها، وفي انتقاء مفرداتها بعناية، وفي لغتها العالية، وهي بعنوان ” أدعي أني صديقة “، تقول فيها :

بَـانَ عِـنْـدِي لَـسْـتُ أَدْرِي
كَـانَ وَهْـمَـاً، أمْ حَـقِـيْـقَـةْ ؟!

قَـاطِـعَـاً خَـلْـفِـي بُـحُـوْرَاً
طَـالِـبَـاً مِـنِّـي دَقَـيْـقَـةْ !

كَـمْ تَـعَـذَّبْـتُ أُوَارِي
دَمْـعَـةً رَاحَـتْ طَـلِـيْـقَـةْ ؟!

كُـلُّـمَـا جَـاءَتْ بِـعَـيْـنِـي
نَـظْـرَةٌ مِـنْـهُ عَـمِـيْـقَـةْ ؟!

يَـفْـضَـحُ الـحُـبُّ احْـمَـرَارِي
أَسْـتَـحِـي مِـثْـلَ الـعَـشِـيْـقَـةْ !

خِـفْـتُ يَـوْمَـاً لَـوْ رَآنِـي
بَـيْـنَ أَحْـضَانِ الـحَـدِيْـقَـةْ

أُخْـبِـرُ الأَزْهَـارَ عَـنْـهُ
حَـيْـثُ ذِكْـرَاهُ الـعَـتِـيْـقَـةْ !

دَائِـمَـاً يَـضْـحَـكُ مِـنِّـي
كُـلَّـمَـا خِلتُ بَـرِيْـقَـه !

كَـيْـفَ يَـهْـتَـزُّ كَـيَـانِـي ؟!
أَدَّعِـي أَنِّـي صَـدِيْـقَـةْ !!

وهي من مجزوء الرمل أيضاً، أستهلتها بمطلع مباشر، لم تصرع شطريه، واختزلت فيه وفي البيت الذي يليه من معنى الوله والحيرة والتمني الكثير، فتقول بخيال جانح : أن المحبوب بان عندها – ربما وهو يناديها – يجري لاهثاً خلفها، قاطعاً البحور، طالباً منها الإنتظار والتريث لدقيقة، أو طالباً منها أن تعطيه من وقتها ولو دقيقة ليتمكن من مقابلتها.

هل هذا فقط هو ما تعني به الشاعرة كما قد يظهر من المعنى الحرفي للبيتين ؟!، أم أن هناك إيحاء ومدلول ترمي إليه من وراء هذا التصور الجانح ؟!

إن الشاعرة بقولها في عجز البيت الأول ” كان وهماً، أم حقيقة” بدأت تصورها بمقدمة تبين فيها حيرتها وشكها في مدى صحة مدلولها وإيحاءها من هذا التصور، وهو أن المحبوب – قد يكون لحبه لها ولشدة شوقه إليها – حريص كل الحرص على مقابلتها، ويبذل من أجل تحقق ذلك المستحيل من الجهد، أو أنها هكذا كانت تتمنى منه أن يفعل، وأن يكون معها بمثل هذه المثالية العالية، والروح المغامرة، التي ترضي غرور الأنثى، وتشعرها بأهميتها وقيمتها، وكم أنها تظل مرغوبة ومعشوقة يتاق إليها، وأن هناك من يتفانى في حبها، وهو بالتأكيد ما تريده وتتمناه كل فتاة من فارس أحلامها، وكل امرأة من حبيبها .

ثم تبين في الثلاثة الأبيات التي تليها حالها عند مقابلة المحبوب فتقول : كم أنها تتعذب وهي تحاول إخفاء دمعة راحت تتررق في مآقيها فرحة بلقائه..كلما أمعن في عينيها النظر، فيعلم من مغالبتها لدمعتها ومن احمرار خدودها خجلاً أنها قد تكون واقعة في حبه، وهو ما حملته مفردة (يفضح) من المعنى، كما يقال : ” الحب تفضحه العيون”، ولكن الشاعرة تضيف هنا بعداً آخراً ملموساً وهو أن الحب يفضحه احمرار الخدود أيضاً .

وفي قولها ” أستحي مثل العشيقة ” لماذا شبهت الشاعرة حالها عند لقاء المحبوب أو رؤيته بحال العشيقة ؟!، مع أن مفردة (العشيقة) قد تحمل معنى ( الخدينة – الخليلة) وهي المرأة التي قد يعشقها الرجل المرتبط برباط مقدس مع امرأة أخرى، وهذا مما لم تكن الشاعرة ترمي إليه بالتأكيد، لأن الخدينات والخليلات لا يستحين بكل هذا القدر، إذن الأرجح أنها تعني بهذه المفردة أن حالها يشابه حال الفتاة الصغيرة عندما يلامس الحب شغاف قلبها لأول مرة، وأن اختيارها للمفردة اقتضاه حال مناسبة القافية.

ثم تنتقل في البيت السادس والذي يليه لترسم صورة رومانسية رائعة وجانحة؛ فتقول : كيف بالمحبوب لو راءها يوماً وهي بين أحضان الحديقة، تخبر الأزهار عنه حيث ذكرياته القديمة معها ؟!، والبيت هنا يحمل معنى الإيحاء بالتمني : أي أنها تتمنى أن يشاهدها المحبوب خلسة وهي تهمس لأزهار الحديقة عنه، وعن كم أنها تحبه، وكم من الأيام جمعتهما تلك الحديقة معاً، في الماضي القديم، بعهد الطفولة والصبا؛ ليعرف حجم الحب الذي تكنه له .

وفي مفردة (أحضان) دلالة على حميمية علاقتها بالحديقة، فهي كالأم التي ترتمي إلى أحضانها وتلجأ إليها كلما نابها هم من الهموم، وفي البيتين تجسيد للحديقة وللأزهار بصورة الإنسان العاقل الذي يعطف ويحنو ، ويصغي للحديث ويجيب، ومعنى الإستئناس بالأزهار وأنها تشارك الشاعرة همومها وأحاسيسها

والمتابع ليوميات الشاعرة بالفيس يعلم من خلال بعض كتاباتها النثرية وصورها بحديقة منزلها مدى شغفها الكبير بالجلوس في الحديقة وحبها لها، وهنا نجد أنها وظفت هذا الميل والنزوع الفطري توظيفاً جميلاً في القصيدة .

ثم تخلص الشاعرة إلى القول في البيتين الأخيرين : أن المحبوب يضحك منها دوماً كلما شاهدها تضطرب خجلاً وحياء ويهتز كيانها عندما تراه، فتضطر إلى الإدعاء له ولصديقاتها أن ما يربط بينهما فقط هو الصداقة، لتهرب بذلك من ضغوط محاولاته أو محاولاتهن في جعلها تقر وتعترف بحبها، الذي يرون بعض علاماته بادية عليها، أو لتبرر له ولهن أسباب ما يعتريها كلما شاهدته .

وكأن الشاعرة بالقصيدة تصف حال فتاة عشرينية مغرمة، وقعت في الحب لأول مرة، ومن طرف واحد هو طرفها، أكثر من كونها تبين أن المحبوب قد بادلها ذلك الحب أم لا ؛ ففي قول الشاعرة في مطلعها ” لست أدري كان وهماً أم حقيقة ” ما يعزز فرضية هذا الإستنتاج، فالفتاة لا تدري ما مدى صحة ما تعتقده من أن المحبوب يبادلها الحب، أم أنها قد تكون واهمة .
والقصيدة تومئ بالإشارة ضمناً إلى كم هو جميل أن يكون الحب والعشق مقترناً بالحياء والخجل والعفة، وما أجمل الأنثى أكثر وأكبرها في عين معشوقها وفي عين كل رجل عندما تكون خجولة وحيية، فيقال عنها : تلك السهلة الممتنعة، وانها كالنجم الذي يشاهد قريباً ولكنه لا يطال لبعده .

عن نوار الشاطر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!