وقفة مع نص للدكتورة ريمان عاشور بقلم أحمد وليد شعرة هي فقط بين العقل والجنون..

ألَمْ يقولوها قبلنا!!

كيف لنا أنْ نفرِّق في الحيز الذي نقف عليه أننا نقف على مكعب العقل لا مكعب الجنون!
بعد أن نحتكم إلى معايير وضعناها بأنفسنا رسمت الخط الفاصل بين العقل والجنون!!

ومن قال إنَّ هذا العقلَ عقلٌ.. وإنَّ ذاك الجنونَ جنونٌ!!

ومن جمَّدَ الزمن عند معايير ثبات العقل أو انزياحه!!

ألم يتهم الأنبياء بالجنون حين أشهروا رسائلهم ونادوا بها!!
ألم يُنكَّل بهم ويعذَّبوا في الوقت الذي رأوا أنفسهم راجحي العقل بينما رآهم الآخرون مجانين!!

ألم يُتَّهم الشاعر والفنان والمخترع عبَّاس بن فرناس بالجنون والزندقة والكفر حينما حاول الطيران بأجنحة صنعهما وحلَّق بهما نحو الموت!!

أوليست نظرية آنيشتاين النسبيَّة، مدعاةً لإزاحة العقل من مكانه ووضعه على شرفة نائية أمام شاطئ محيط يرقبُ مرور بحارة قد أطالوا زمن الغياب..
وحين عادوا وجدوا زوجاتهم قد استبدلوهم بآخرين؛ ظنًّا منهنَّ أن المحيط ابتلعهم إلى غير عودة..
وهؤلاء البحارة ما لحظوا طول الزمن ووقعه في مروره عليهم دون أن تجلدهم ثوانيه ودقائقه كما فعلت مع زوجاتهم!!

من المجنون ومن العاقل في هذه المعادلة الزمنية!!

وعاقلٌ وراء قضبان سجن غائر اليوم وقد تسلَّلت الظلمة اللا مفارقة إلى زنزانته، فأحالتْ ليله ونهاره سواء ..فما عاد يحتسب زمنه كما نحتسبه خارجه..
بعد أنْ فاز عقله بفصٍّ جديدٍ مظلمٍ في الوقت الذي لم يطلنا في الخارج..
من المجنون في تلك المعادلة ومن العاقل!

أوليس ذاك البنَّاء الذي يتسلَّق إلى طوابق شاهقة أَجْلَ تحصيل لقمة العيش.. يرى الارتفاع باتَ قريبًا مع مرور الزمن وتكرار الفعل!
بينما ترتجف قلوبنا لو نظرنا من ذاك العلو الشاهق..
ثمَّ نحدِّث أنفسنا: فعلا إنه مجنون!!
من المجنون حقًا ومن العاقل في ذاك المشهد!!

أولسنا نَصِفُ أمًّا بالجنون حين تبيع قطعةً من لحمها بعد ألم مخاض وولادة، وانسلاخ روح عن روح؛ لتؤمِّن ثمن كسرات خبز لأولادها السابقين كيلا ينهشهم الموت متلاشينَ واحدًا تلو الآخر..
حين إمعان الفقر فيهم..
من المجنون ومن العاقل في الحكم على تلك المرأة..

ألا يعدُّ ما نراه اليوم من تلميع وتصفيق وإشهار لكتاب أو رواية أو ديوان شعري أو كاتب ضربًا من ضروب الجنون!
حين تأخذنا هتافاتهم وجوائزهم من أيدينا لنُصلَب أمام كتاب ساعات وساعات لاهثين وراء استبيان أسباب الجائزة ثمَّ نجرُّ أذيال الخيبات العظيمات عند بلوغ نقطة السطر الأخيرة..

في الوقت الذي نرى أحدهم قد أغلق الأبواب والنوافذ على نفسه وأطفأ النور وآثرَ النأي والجلوس في ركنٍ بعيدٍ خالٍ..
وهو يقدِّم فيه أدبًا مميزًا وهادفًا وساحرًا حين الإبحار فيه…
أيُعقلُ أنَّه بلغ شواطىء الجنون قبلنا ولاذَ بالانزواء قبيل وصولنا!!

أولسنا نَصِفُ كلَّ من ارتدى الصمت..
متسلِّلًا قرب الجدران دون إصدار همسة أو تخليف ضجيج بأنه مالكٌ زينة العقل!!
في الوقت الذي نرى أوطاننا أمامنا تتهافت وأوصالنا تتقطع ودماءنا تسفح وأنهارنا تجف وعقولنا تهاجر وشبابنا يذبل وبناتنا يشحنَ بوجوههن عن الفضيلة والأخلاق..

ثمَّ من العاقل ومن المجنون هناك!!!

كيف لنا أن نبصر حقًّا تلك الشعرة الفاصلة بين العقل والجنون!!

د.ريمان عاشور
اسطنبول/١٥-٦ من عام الجائحة..
**********************************************

القراءة 

******

تبدأ الدكتورة ريمان سؤالها في تعجب، وتختار المكعب حيزًا للعقل أو الجنون للوقوف عليه، لكن السؤال الذي يتبادر لذهن المتلقي لماذا اختارت المكعب بدل أي شكل من الأشكال الهندسية كالدائرة مثلا؟ عندما تقول : “كيف لنا أنْ نفرِّق في الحيز الذي نقف عليه أننا نقف على مكعب العقل لا مكعب الجنون!
هي لم تختر الدائرة لأنه من البديهي أننا وسط دائرة لابد لنا من التحرك لا يمكننا الوقوف فنقول: ” كيف لنا أنْ نفرِّق في الحيز الذي نمشي فيه -وليس عليه- أننا نسير في خط العقل المتصل، أو خط الجنون!
فإما أننا نسير في خط مستقيم يأخذنا نحو الجنون أو العكس، سنعود لشرح هذا لاحقا.
لماذا اختارت الدكتورة ريمان المكعب على غيره من الأشكال؟

من المعروف أن المكعب جسم ثلاثي الأبعاد وله ستة أوجه مربعة، واثنا عشر حرفاً أو حافة وثمانية أركان، وهو متوازي مستطيلات أبعاده متقايسة.
فهي عندما تقف على مكعب ثلاثي الأبعاد تعطينا تفسيرا دقيقا لحالتي العقل أو الجنون التي تلبس الإنسان بلحظة ما، هناك ثلاثة أبعاد للجنون : بعد العقل، بعد الجنون، والبعد الثالث هو الخط الفاصل بينهما أي بين العقل والجنون أو الشعرة كما جاء على لسان الدكتورة.
والأوجه الستة للجنون : ذكرتهم ريمان عاشور في هذا النص بالتمام وهم:
الإدراك، التعقل، العادة أو التعود، الحاجة، الإنزواء، ركوب الجنون.
يمكن اعتبار الجنون ظاهرة من الظواهر الإنسانية، معه يفقد الإنسان سيطرته على العقل ما يترتب عنه أنماط عدة من السلوكيات الشاذة يقوم بها المجنون بلا إرادة و دون وعي أو إدراك.
إن كان المجنون غير واعي بنفسه وغير مدرك لما حوله كيف يمكن للإدراك أن يصبح جنونا؟ لأن هذا القول يتنافى مع سابقه (الجنون=عدم الإدراك) لكن بمفهوم آخر عندما نعود للوراء لإستقراء التاريخ نجد أن تقريبا جل الأنبياء والرسل اتهموا بالجنون وقد عرفوا عند أقوامهم قبل حملهم للرسالات السماوية برجاحة العقل والأخلاق العالية، الصدق في القول، الإتزان والتروي في إصدار الأحكام، ولأنهم جاءوا بما لا يمكن للعقل البشري أنذاك أن يفهمه ويستوعبه أصبحوا بنظر الناس مجانين.
وهذا لايمكن اعتباره جنون لكن لظروف ما وبزمن معين أصبح من يحمل رسالة سماوية تجيب على المعضلات من الأمور وتفسر الكون، وتعطي حقائق عن الخلق والموت والبعث، وعن خالق هذا الكون وما يحتويه… مجنونا لأن عقل الإنسان العادي لا يستطيع استيعاب ما تحمله هذه الرسالات وإن عُزِّز القول بمعجزات كثيرة تفوق حدود العقل.
وأيضا عندما نتحدث عن أهل الذكاء الفائق، أصحاب العقول المتّقدة، والأحاسيس العميقة المدركة للأشياء، من يبحثون عن أجوبة لتساؤلاتهم الصعبة والمحيرة للعقول… مثل الفلاسفة والمخترعين والمفكرين والمبدعين… هم أيضا اتهموا بالجنون ولم يصدقهم إلا قلة قليلة. في حين أنهم جاءوا بنظريات وحلوا معضلات وساعدوا برقي العقل وكانوا سببا فيما وصلت له حضارات الشعوب. وهذا ما حاولت د. ريمان الإشارة إليه بالقول:
“ألم يتهم الأنبياء بالجنون حين أشهروا رسائلهم ونادوا بها!!
ألم يُنكَّل بهم ويعذَّبوا في الوقت الذي رأوا أنفسهم راجحي العقل بينما رآهم الآخرون مجانين!!
ألم يُتَّهم الشاعر والفنان والمخترع عبَّاس بن فرناس بالجنون والزندقة والكفر حينما حاول الطيران بأجنحة صنعهما وحلَّق بهما نحو الموت!!”
نفهم من كل هذا أن الإدراك قد يُعطى صفة الجنون في حين أنه بعيد كل البعد عنه بل إن مفهوم الجنون يتنافى وقوة العقل أو الإدراك. أين إذا هنا الشعرة التي تفصل بين الإدراك والجنون؟
إن صاحب العقل المدرك إن لم يجد إجابات معقلنة للتساؤلات التي تلتهم عقله، وإن هو لم يعثر في بحثه على حقائق علمية منطقية ولم يستند إلى مرجع معرفي يطمئن إليه عقلا ومنطقا، حتما سيسقط في دائرة الفراغ الشائكة التي تدور باستمرار، فلا هو مدرك للأشياء التي يبحث فيها ولا هو جاهل بها. هكذا سيدخل دائرة الشَّك ليسقط فيما بعد في جحيم الجنون.
وإذا عدنا للحديث عن التعقل وعقلنة الأشياء، بدءا بصاحب زينة العقل الذي كان عقله نقمة عليه فألقي به في غيابات الظلام داخل السجن فأصبح يدرك ببصيرته داخل الظلام ما لا ندركه نحن وسط النور، فهو داخل الظلام أصبح بعيدا عن كل المؤثرات السلبية التي قد تؤثر على عقله، فأصبح متبصرا وواعيا أكثر بكل ما حوله فتفكيره مركّز وعقله غير مشتت. بهذا هو أعقل العقلاء كما وصفته د. ريمان:
“وعاقلٌ وراء قضبان سجن غائر اليوم وقد تسلَّلت الظلمة اللا مفارقة إلى زنزانته، فأحالتْ ليله ونهاره سواء ..فما عاد يحتسب زمنه كما نحتسبه خارجه..
بعد أنْ فاز عقله بفصٍّ جديدٍ مظلمٍ في الوقت الذي لم يطلنا في الخارج..
من المجنون في تلك المعادلة ومن العاقل!”
إلا أن بعض أنواع الجنون بهذه الحالة يكون بسبب شدة أو كثرة التعقل التي قد تصل لدرجة الإفراط بالتفكير الشيء الَّذِي يعجز معه العقل في إيجاد إجابات مقنعة ومطمئنة تريحه وتعيد له توازنه الذي اختلّ وتركه عرضة للجنون.
إلا أن عقلنة الأمور تختلف من عقل لآخر وحسب الظروف والمكان والزمان، وهذا فعلا ما تؤكده الدكتورة ريمان حين تطرقت لنظرية ألبرت آنيشتاين التي تتحدث عن نسبية الحركة التي غيرت مفهوم الزمن من مُطلٓق إلى نسبي، فالزمن يتقلص أو يتمدد حسب سرعة الأجسام وشدة الجاذبية التي يتحرك فيها الجسم، فأصبح الزمن حسب د.ريمان عند البحَّارة أقصر منه عند زوجاتهم اللواتي طال بهنَّ الزمن وامتد الغياب إذ تقلّص الزمن عند البحّارة وامتدّ عند الزوجات والمثال يوضح ذلك،
“أوليست نظرية آنيشتاين النسبيَّة، مدعاةً لإزاحة العقل من مكانه ووضعه على شرفة نائية أمام شاطئ محيط يرقبُ مرور بحارة قد أطالوا زمن الغياب..
وحين عادوا وجدوا زوجاتهم قد استبدلوهم بآخرين؛ ظنًّا منهنَّ أن المحيط ابتلعهم إلى غير عودة..
وهؤلاء البحارة ما لحظوا طول الزمن ووقعه في مروره عليهم دون أن تجلدهم ثوانيه ودقائقه كما فعلت مع زوجاتهم!!
من المجنون ومن العاقل في هذه المعادلة الزمنية!!”
قد تصبح العادة بالتكرار شيئا عاديًّا عند البعض في حين تكون عند البعض الآخر قمة الجنون، فالظروف تدفع بعض الناس للمخاطرة بأرواحهم في سبيل تحصيل لقمة العيش، مثل النموذج الذي أوردته د.ريمان عن البنّاء الذي يخاطر بحياته فتساءلت تساؤلا بمحله حين قالت:
“أوليس ذاك البنَّاء الذي يتسلَّق إلى طوابق شاهقة أَجْلَ تحصيل لقمة العيش.. يرى الارتفاع باتَ قريبًا مع مرور الزمن وتكرار الفعل!
بينما ترتجف قلوبنا لو نظرنا من ذاك العلو الشاهق..
ثمَّ نحدِّث أنفسنا: فعلا إنه مجنون!!
من المجنون حقًا ومن العاقل في ذاك المشهد!!”
والنماذج كثيرة مثل من يتسلقون أعلى القمم مخاطرين بحياتهم فقط ليثبتوا لأنفسهم أنهم قادرين على فعل ذلك. طموحهم يدفعهم لارتكاب أفعال لا يشعرون بخطورتها فتكون بنظرهم شيئا عاديًّا “البٓنّاء” أو تحديًا جديدا عليهم القيام به “المتسلق” لكننا لا نستطيع فهم ما يفعلونه من أمور خطيرة، بل ونستغرب ذلك الشيء الذي يجعلنا ننظر لهم على أساس مجانين.
وإذا عدنا للنموذج الذي جاء بالمقال بالنسبة لتلك الأم التي تبيع أحد أبنائها بسبب الحاجة أو الفقر، واحتياجها لإعالة أولادها الآخرين، وقد أعطتنا الكاتبة وصفا دقيقا لحال المرأة وحالتها وإحساسها فقالت:
“أولسنا نَصِفُ أمًّا بالجنون حين تبيع قطعةً من لحمها بعد ألم مخاض وولادة، وانسلاخ روح عن روح؛ لتؤمِّن ثمن كسرات خبز لأولادها السابقين كيلا ينهشهم الموت متلاشينَ واحدًا تلو الآخر..
حين إمعان الفقر فيهم..
من المجنون ومن العاقل في الحكم على تلك المرأة..”
أكيد سوف نصدر عليها حكما قاسيا، لن نفهمها ولن نراعي ظروفها، بل ولن نهتم بحالها ولا بحال أطفالها وحاجتهم لما يسدُّ رمقهم، وبكل بساطة ودون تفكير سننعتها بالجنون. وهي هنا ألغت مشاعرها وعاطفة الأمومة واستمعت لصوت العقل الذي يدفعها للتضحية بأحد الأبناء لإنقاذ الآخرين.
هكذا تضعنا الدكتورة بحيرة حين تتساءل من المجنون هنا ومن العاقل.
لكن هذه الأم وتحت ضغط الظروف النفسية القاسية التي تتعرض لها بسبب تخليها عن أحد أبنائها قد تُصاب فعلا بالجنون، اذا تعطل العقل وتوهّجت المشاعر، ستصبح عاجزة عن التفكير السليم ولن تعي مقدار تضحيتها و ربما تكره نفسها وتنقم على ظروفها وتستطرد في التفكير في كل شيء وفي لاشيء، لأن التفكير لن ينفعها وهكذا فإن الحاجة تدفع صاحبها لفعلٍ يقوده للجنون.
عندما يكون المرء من ذوي العقول اللامعة والذكاء الفائق، ويسعى دائما للتأمل والبحث عن كُنه الأشياء فهو لا يكتفي بالحقائق الموجودة، ولا يرضى بالمسلمات إلا أنه يجد نفسه مضطرا لتقبل الفكر البهائمي وسط شريحة كبيرة من المجتمع تتميز بالبلادة في حين يتميز هو بالذكاء الحاد ويكون صاحب فكر بنّاء وأخلاق عالية وذوق رفيع، مبدع في كل ما يقدمه.. لا يهمه تصفيق ولا يفكر البتة في شهرة ولا مجد وآخرون يسارعون في تقديم الرديء والتافه وتتبعهم الجموع البليدة بالتصفيق والإشهار والجوائز… فإنه يجد نفسه مضطرا للانزواء، وإحساسه بالغربة سيتفاقم وسيتسع، فانعدام وسيلة التواصل والفهم بينه وبين المجتمع ستجعل الهوة تكبر ويكبر معها إحساس فظيع بالمفارقات سيُلقي به في دائرة الإنزواء.
وهذا ماذكر في المقال بالشكل التالي:
“ألا يعدُّ ما نراه اليوم من تلميع وتصفيق وإشهار لكتاب أو رواية أو ديوان شعري أو كاتب ضربًا من ضروب الجنون!
حين تأخذنا هتافاتهم وجوائزهم من أيدينا لنُصلَب أمام كتاب ساعات وساعات لاهثين وراء استبيان أسباب الجائزة ثمَّ نجرُّ أذيال الخيبات العظيمات عند بلوغ نقطة السطر الأخيرة..
في الوقت الذي نرى أحدهم قد أغلق الأبواب والنوافذ على نفسه وأطفأ النور وآثرَ النأي والجلوس في ركنٍ بعيدٍ خالٍ..
وهو يقدِّم فيه أدبًا مميزًا وهادفًا وساحرًا حين الإبحار فيه…
أيُعقلُ أنَّه بلغ شواطىء الجنون قبلنا ولاذَ بالانزواء قبيل وصولنا!!”
كثيرا ما نسمع “العاقل من يركب الجنون” بمعنى أن الإنسان يكون متناغما مع واقعه، مدركا لما يدور حوله وقد يعطي تفسيرات وتبريرات عدة لما يحدث، لكنه منسجم كليا مع هذا الواقع الذي لم يعد يؤثر به، بل يكون مرتاحا ومطمئنا وغير آبه، وهذا ما نراه اليوم بين جموع الأدباء، والمفكرين، والمحللين السياسيين، الذين يعرفون كل شيء ولا يقولون شيئا بل ويعطون تبريرات ويقومون بأفعال لا منطقية يصغرون الكبير ويعظمون الصغير، يجرّمون البريء ويبرؤون المجرم.. بكل هذه الأفعال اللاأخلاقية أصبحت مجتمعاتنا عرضة للانتهاك والتفرقة، والنهب والسرقة، بعدما سرقوا خيراتها سرقوا عقولها ومازالوا يفعلون أما معظم الشباب فيتخبطون داخل الرذيلة والجهل ، يتهافتون وراء كل تافه، خُدّرت عقولهم وطُمِست شخصياتهم وغُرِّر بهم…
في حين نجد ساسة المجتمع وأولياء الأمور لاهون، عابثون لا يؤثر بهم شيء ولا يُحرِّكهم واجب، لا يعرفون سوى لغة المصالح وقد أعطت د. ريمان نموذجا لهذا النوع من التعقل – إن صح لنا قول ذلك- بمقالها اذ تساءلت مستنكرة:
“أولسنا نَصِفُ كلَّ من ارتدى الصمت..
متسلِّلًا قرب الجدران دون إصدار همسة أو تخليف ضجيج بأنه مالكٌ زينة العقل!!
في الوقت الذي نرى أوطاننا أمامنا تتهافت وأوصالنا تتقطع ودماءنا تسفح وأنهارنا تجف وعقولنا تهاجر وشبابنا يذبل وبناتنا يشحنَ بوجوههن عن الفضيلة والأخلاق..
ثمَّ من العاقل ومن المجنون هناك!!!
كيف لنا أن نبصر حقًّا تلك الشعرة الفاصلة بين العقل والجنون!!”
بعد كل ما سبق نعود للسؤال الذي طرحناه سابقا “كيف لنا أنْ نفرِّق في الحيز الذي نمشي فيه بين العقل والجنون؟ بمعنى أننا نسير في خط العقل المتصل، أو خط الجنون!
إذًا بات الفرق واضحا بين العقل والجنون، كيف يمكن لهذا الأخير وبلحظة معينة أن يختطف أصحاب الذكاء الخارق، ذوي العقول الراجحة، من لهم فائق القدرة على اختراق حجب الكون، من ينشغلون بالبحث عن إجابات لتساؤلات شائكة ومعضلات محيرة، من يرفضون المسلّمات ويبحثون عن الحقائق.. من يقتحمون العالم باحثين عن حقائق المنظومة الكونية.. فهذا الاقتحام الذهني إذا صاحبه الإفراط في التفكير والتحليل والتعليل وكان صاحبه يفتقر للأدوات المعرفية، فإنه سيُربِك عقل المفكر ويلقي به في جحيم الأسئلة التي لا تنتهي ولا يجد لها إجابات، هكذا حتما سيسقط في دائرة مغلقة يبحث ويبحث ليعود إلى نقطة البداية فـ “فراغ”. وينتهي به المطاف إلى الخوف الشديد لأنه لم يصل للحقيقة التي يبحث عنها، يُفرط بالتفكير الشيء الذي يجعله يندفع يشكّ ويفرط في شكّه، يضطرب تفكيره، وكلما مرّ الوقت زاد اضطرابه فيسرع ويسرع في البحث عن حلول. هكذا يفقد القدرة على التوقف أو التريث ويفقد السيطرة ولا يستطيع العودة للتفكير الهادئ والمُعقلن.
بهذا ستكون النتيجة المُتحصّل عليها هي السقوط في الفراغ بدل الحقيقة الملموسة، الرعب بدل الاطمئنان، الشك غير الممنطق بدل اليقين الواثق، السرعة المفرطة في التفكير لإيجاد حلول بدل التروي والهدوء..
فاليقين مع التريث ينتج مزيدا من اليقين خِلاف الشك المفرط يقود لشك أبعد، شك أشد إفراطاً. يفتقد معه العقل مقومات التعقل إذ يصبح التفكير خارج سيطرة العقل فيختطفه الجنون ليَسْقُط في الفراغ “دائرة الشك المطلق” والنتيجة سرعة مفرطة في التفكير دون إمكانية التوقف. وكلما زادت سرعة الدائرة زاد صاحبها جنونا.
فالعقل كلما حافظ على هدوءه وانسجامه استطاع التفكير جيدا وسار في الطريق الصحيح عكس العقل المفرط في التفكير، يتأجج منشغلا انشغالا كليّا في تفكيره، يطغى عليه الشك والحيرة فينشغل صاحبه عن نفسه وكل ما حوله، يسير بسرعة مفرطة دون توقف في خط مستقيم، يفقد فيه السيطرة والتحكم ومن تم يصلُ للجنون.
ومع كل ما وصل إليه العلم اليوم إلا أن الناس مازالوا يخلطون بين العقول الذكية اللامعة، المتقدة وبين التصرفات الجنونية أو اللاواعية فيطلقون صفة الجنون على الفئتين معاً.
فالجنون نقيض العقل إلا أن هذا الأخير يفقد السيطرة عندما يجد نفسه عاجزا أمام تساؤلات شائكة لا يجد لها حلّا أو جوابا منطقيا فيسقط في دائرة الفراغ فـ”الجنون”.
بهذا نستطيع معرفة الشعرة الفاصلة بين العقل والجنون.
أحمد وليد الروح

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!