وقفة مع نص للكاتب وائل الحوراني بقلم أحمد وليد الروح

 

نوبة حلم ..

كدأبه كل نوبة صحو حين تغفو أزقة المدن يخرِج مزهوا ينقب عن شعاعِ سقط من جيب الفجر ، يتعثر بأمنية متسول على إشارة المرور ، يمرر أصابعه خلال ذاكرة الجدران المشروخة، يتحسس نبض النوافذ الموصدة تزجره حزمة ضوء تلوح خلف ستارة سوداء ، ينحني ليلتقط خطوات العابِرين نحو الأمل ، في نهاية الشارع يتعثر بظله المرتعش ، يجمعه في بقعة ضوء ، يركل في طريقِه قلب مكلوم على رصيف الانتظار ، يهيم ساعات وساعات .. عند الفجر يعود ليلقي أمامه حصيلة الجولة ويغفو على أنقاض حلم ..

وائل الحوراني

كأننا بالكاتب هنا يعيش حالة إغفاء تامة، لكنه بين الحين و الآخر يستيقظ، فيعيش حالة الصحو من جديد.
إنها طريقته الخاصة في الإنشغال بكينونته دون البحث عنها فهو يفقدها أو يبتعد عنها كلما مارس فعل الحياة الواقعية داخل صخب المدن و ازدحام الأزقة و ضجيج الناس.. لا يعود لها مجددا إلاّ مع كل نوبة صحو عندما تغفو أزقة المدن و كأنه و الأزقة يتبادلان الأدوار فيقول: ( كدأبه كل نوبة صحو حين تغفو أزقة المدن يخرِج مزهوا ينقب عن شعاعِ سقط من جيب الفجر) هو لا يخرج للبحث عن المرح أو اللهو بل يخرج للتنقيب عن مصدر النور عن شعاع سقط من جيب الفجر كما عبّر عنه بقوله، إنه ذاك النور الخفي داخله، ذاك النقاء المتجلي من كينونته المنبثقة من وعيه التام بأنه هو الآن حي أو يمارس فعل الحياة.
و رغم كونه جزء لا يتجزأ من المكان الذي يوجد فيه و إن كان قد وظّف المكان بمكانه الصحيح، “إشارة المرور” التي جعل بالمقابل لها متسول، فلا يمكن تخيُّل مشهد إشارة مرور بمجتمعاتنا العربية الحالية دون وجود متسولين. إلا أن الكينونة الفعلية التي يمارسها الآن خارجة عن سيطرة المكان و الزمان معا ، لأنه الآن يعيش حالة من الوعي تخصه وحده دون غيره. قد يتبادر لذهن القارئ أن الزمان يشير لساعة متأخرة من الليل حين تغفو المدن بأزقتها و المكان “إشارة مرور” ، و هي لا مكان محدد لها.. لكن هل فعلا الكاتب لا يعيش حالة الوعي إلا ليلا و عند إشارة المرور؟
إن هذا إشارة منه لوعيه التام بالكم الهائل للأشياء التي تتراكم داخل عقله و تشكل واقعه.. تأتي مزدحمة يجمعها بالنهار ليرتِّبها داخل عقله ليلا و يترجمها في مرحلة تطورية فكرية محضة لوعي أو أستيقاظ.
الكتابة عنده نوع من الإدراك الواعي ينتج عن تفكير لا إرادي متواصل يفكك فيه الأشياء و يربطها ببعض ليشكل علاقة بينه (أي الكاتب) و محيطه و كأن صوتًا بداخله يوقظه من غفوته..هكذا هو يمارس فعل الصحو أو الإستيقاظ.
كل منّا منشغل بأمور كثيرة عادية و روتينية يقوم بها مجبرا و قد يكون بعضها اختياري كمن يدور داخل عجلة مفرغة لا يخرج منها أو كـ “حمار الرحى” يدور في دائرة ليدير رحى الحياة كنوع من الإغفاءة لا يستيقظ منها. و الكاتب وهو في حالة صحوه تلك يدرك كينونته، يفهمها و يفهمُ ما يدور حوله جيدا و هذا الإدراك يتشكل داخل بُعدٍ من أبعاد الوعي الكثيرة و التي تمثل بُعدا واحدا و هو الإدراك.
و الكاتب لم يفته في بعده الواعي العميق أنّ أقصى ما يحصل عليه متسول داخل موقع من مواقع الحياة الكثيرة و التي حدّدها في إشارة المرور هو فقط “أمنية” لا تتجاوز بضع دُريهمَات.
كلّنا في هذه الحياة متحركون، لا مجال للتوقف.. نسعى للرزق كل صباح نعمل جاهدين، نَكلّ و نتعب.. و يأتي المساء يحملنا فوق أجنحة الراحة لننام ثم نستيقظ لذات العمل.. إنها حركة بوتيرة سريعة نظن أنها مستمرة لا تتوقف لكننا بالحقيقة نقف داخل إشارة المرور بأمنية متسول، فنحن لا نتحرك إلا في إطار إشارة من إشارات المرور، نستعد.. نمشي.. نقطع الطريق.. نتوقف..
نحن الآن لا نتوقف و ندرك جيدا أننا يوما ما و بإشارة مرور سنموت و نحن نحمل أمنية متسول.
هي مفاهيم عن الحياة وعن الكينونة تتكون داخل ذهن الكاتب، و تتحول من مجرد معلومات و أفكار إلى إحساس مدرك و وجود فعلي حي داخله تُترجم إحساس الكاتب بنفسه فيتماهى داخل وعيه التام بالوجود.
هو الآن يبحث عن بصيص أمل.. و كأنه يدرك الفناء، يحس انتهاء الأشياء و فراغ الكون من الموجودات. يبحث داخل ذاكرة الجدران وحدها من يدون تاريخ من مرّوا، من يحمل همّ أمة و تمزُّق الشعوب.. من يشهد خراب الديار و اندلاع الحروب.. من يروي حكايات من بنى و من سكن و من عاش.. مشروخة تسمح له بأن يمرّر أصابعه من خلال الذاكرة لتُدون بصمة أخرى مرت عليها..
و كأننا به وحده من بين الناجين من موت محقق، يتفقد الأمكنة يتحسس نبض النوافذ الموصدة لعل وراءها حياة (تزجره حزمة ضوء تلوح خلف ستارة سوداء) بتتبع الأثر، ينحني ليلتقط خطوات العابِرين نحو الأمل..
هو هنا لا يقول كلّ ما يفكر به هو فقط يحاول إيقاظنا من غفوة طالت، يحاول تحريك الأشياء داخل إشارة المرور فالوجع ازداد و الوقوف خلف أمنية لا يحقق الحياة.. إنه يحرك المُهمَل، الساكن و الميِّتَ من مشاعرنا.. يؤجِّجُ الموجع فينا، يقودنا نحو الإدراك.
و في نهاية صحوه عند نهاية الشارع يتعثر بظله المرتعش، و كأننا به الآن يستعد لإغفاءة جديدة بعدما أدرك من يكون، و وعى وعيًا تامًا بوجوده و كينونته داخل وعيه.. هو الآن يدرك أنه في عالمه الواقعي ليس “هو” إنه مجرد ظل له يجمعه داخل بقعة ضوء و على رصيف الإنتظار يركل قلب مكلوم.. و كم كثيرة هي القلوب المكلومة على قارعة الإنتظار..
هكذا و بوعي منه يدخل لاوعيه في شبه ظل لرجُل بقلب جريح أعياه الإنتظار.
و قبل العودة من جولته و الإستيقاظ من نوبة الحلم الذي ينتابه يهيم ساعات و ساعات ليعود أخيرا عند الفجر يُحصي حصيلة جولته ليغفو على أنقاض حلم..

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!