آب لغز الشهور / بقلم : نوال الفاعوري

آب، لغُز الشهور الذي يكاد أن يتوسط العام، ويتذكره الجميع. تسقط كل الشهور من ذاكرة العالم، إلا أكثرها برداً/حراً، والذاكرة المثقوبة تتبخّر فيها الأحداث بسرعة. هذا الشهر من الأشهر القليلة التي تحمل مفاتيح الأحجية، وهدايا المسافرين، ولعنات السماء. شهر المغادرين الذين نسوا أن يودّعوا أحبابهم، والواصلين الذين لم يستقبلهم أحد، تبدو الأمور فيه على غير طبيعتها، ولم يكن العالم طبيعياً يوماً ما.
7:02 am
كانت السيجارة في طريقها للانتهاء، وكان حنظلة يستعد كي يلبس حذائه للمرة الأولى ويخرج للعالم الذي لا يعرف كيف يعيش رفاق المحجر والقلم. أصعب ما على الطغاة أن يواجهوه حُرُّ قرر أن يُغلق جيبه، ويفتح فمه، وأولئك الذين فعلوا ذلك هزّوا أركان الظلم الذي قامت عليه دول، وتربت عليه قيادات. كل الذين احتموا في ظل قلمهم حين واجهوا الموت نجوا لأن أرواحهم بقيت حية، أما أجسادهم فإنها قدمت الضريبة الطبيعية التي تُفرض على الأحرار، وأولئك المرهفون الذين يريدون نضالاً بلا أسْرٍ أو موت هُم محضُ مهرجين لا أكثر.
7:05
قبل 33  عاماً من تاريخ الأمس، نظر إلى ساعته، مشى قليلاً في مدينة الضباب التي لا يغادر سماءها، هكذا كانت تبدو لساكينها، وهكذا عاش فيها شرلوك هولمز الذي يعرف كيف يُمكن أن يتفرق دمُ الضحية بين المستفيدين. أعاد ترتيب ياقة الجاكيت الصيفي، تأكد من خلوّ الشارع، ثم سار بهدوء. يعرفُ الأحرار نهاية طريقهم التي يدفعون فيها مقابل حريتهم أشياء كثيرة، آخرها الروح، وأولها المشاكل التي تنتهي. كان حنظلة صداعاً للطغاة، كان أشبه بسمٍّ بطيء يتناولونه من محبرته التي لغّمها بالحرية، وكان عليهم أن يقتلوه أو يبتلعوه كنهاية لصداعهم وخوفهم. في كلا الحالتين سيموت الطغاة، فقط في حالة أن قتلوه سينتظرون قليلاً ليروا مئة ألف حنظلة، ومئة ألف محبرة سم، ليموتوا بعدها مئة ألف
مرة !
7:07
وقف ناجي على ناصية أحد شوارع لندن، هادئاً كما كان دوماً، ثائراً كما كانت الحرية تقتضي، لا يحابي على حساب حرّيته أحد، وبندقية ريشته تفتح النار على الجميع لأن الحرية لا تتجزأ، والطغاة لا يتفرقون. يعلم ابن العليّ أن القلم الحر هو عدو للجميع، وأن الطغاة مهما تعددت أسماؤهم فإن دينهم واحد. رسم حنظلة آخر كاريكاتيراته في مسرح الجريمة التي طعنته في خاصرته. لطالما اغتالتْهُم ريشتُه في مقتل، ولطالما كان أصبع قدم حنظلة المتّسخة أنظف من كل وجوههم. كان عليه أن يوثّق بالدم مسيرة الثورة، والأدب، وكان عليه أن يرتاح أخيراً.
لا يعرفُ الحمقى من العُتاة أن الموت في معادلة الأحرار يبدو عاملاً مساعداً، لا تنضج بدونه الحرية، ولا تنجب بغيابه الكرامة، ولا يعرفون أن الموت أيضاً نهايتهم، وإن طالت.
7:15
كان عرفات منتشياً في مكتبه بتونس وهو يسمع خبر غياب ريشة ناجي، تناول قدحاً من البيرة الممزوجة ببعض الأناناس، وكذلك شرب معه قوادو منظمة التحرير. فعل صدام وقائد مخابراته ذات الأمر، إسحق شامير وناحوم أدموني رئيس الموساد ونخبة من ضباط المخابرات الخارجية الصهيونية الذين سهروا في تلك الليلة حتى الصباح، ومثلهم فعل فهد، حسين، وحافظ. كل الطغاة كانوا مستفيدين من موت ناجي، وكلهم فرحوا بالانتصار الجزئي في تلك المعركة، لكنهم جميعاً خسروا الحرب في النهاية.
رسم ناجي 40 ألف رسمٍ كاريكاتوري، كانت كافية فيما يبدو لأن يُشعل شعبه 40 ألف ثورة، لكن بعد رُبعٍ قرنٍ مما حدث في أحد شوارع لندن فإن شعبه جمع رسوماته، ثم أشعل بها ناراً يتدفأ عليها، منتظراً إنسانية العالم كي تجود عليه ببعض الفتات، وقبل أن ينفضّ القوم من أمام النار سألوا: شو بدنا نتغدى بكرة يا فاطمة؟
**
8:00 صباحاً
بتاريخ الأمس، 29 من آب ، فتح العسكري البسيط الذي ينفّذ أوامر الطغاة باب الزنزانة، نظرةُ التجهّم في عينيه بادية، لا تفارقه، يعتقد هذا المسكين أن تلك النظرة مُخيفة، وأنه في بزّته وسلاحه يبدو أكثر رعباً، بينما هو أكثر سخفاً فقط. على الطرف المقابل كانت ثمة عينان تسخران من كل إكسسوارات الظلَمة هذه، ومن أعوانهم. لا يعرف الجلاوزة أنهم لا يُخيفون إلا من كان في قلبه مثقال ذرةٍ من ذُل، ولا يعرف الصغار منهم أنهم أدوات في ترسٍ كبير، وأن ليس ثمة ظالم يُثني على رصاصته، أو على ظرفها الفارغ.
“فلان الفلاني” بصوتٍ متجذر في الطغيان، نادى هذا الظالم حين فتح الباب، كان باب الزنزانة لا يعني الإفراج، هكذا يعرف أسرى سجن “أبو زعبل”، وهكذا يعرفُ التاريخ.
8:02
الصمت سيّد المكان، و”سيد” يخطو بهدوء نحو حياةٍ أخرى. يعتقد الطغاة أن إزهاق الروح هو آخر مراحل الحياة، ويعتقد الشهداء أن تلك مجرد البداية فقط. كبقية الأفراح، يعرفُ الذين حضروا أفراح الروح من قبل كيف يبتدئ العرس، وكيف ينتهي. لابد للعريس من بدلة، أناقة، هدوء، أعصاب باردة، وبعض العطر، ولا بد للفرح من حضور، وعروس، وأصوات الزغاريد.
البدلة حمراء، ولا أناقة تبدو كما الشهداء، والذين اشتاقوا إلى الله يعرفون كيف يكون اللقاء هادئاً، وبأعصاب باردة، وكيف تبدو حبّات العرق عطراً ملكياً لا يعرفه من لم يسكن صالات الزنازين. حضر الرفاق، يزفّون بعضهم بعضاً إلى المشنقة، تلك العروس التي حين بدأوا طريقهم عرفوا أنهم متزوجوها لا محالة. قيل أن الزواج شرٌ لا بد منه، والشهادة في هذا الطريق خيرٌ لا بد منه!
في الطريق، همس سيّدُ إلى ذلك العسكري: مسكين أنت، حين ينادي الله على الظَلَمة يوم القيامة ستقف وحيداً من رتبتك، من رضا أسيادك، راتبك، وأكل عيشك. كان يظن هذا الأحمق أنه عبدٌ مأمور فقط، وأن “الشيلة بالليلة” سيحملها أحدهم، عقيد أو عميد أو لواء، وما درى أنه يُؤتى بمن برى للظالم قلماً يوم القيامة!
وقف الرفاق متحلّقين حول عريسهم، تبادلوا التحيّة قبل أن يصعد إلى منصة العرس، ثم تعلو الزغاريد والهتافات “الله أكبر” ويهدأ المكان؛ عريس آخر، وزغاريد أخرى.
8:05
أعظم ثباتٍ هو ذلك الذي يكون أمام الموت، شجاعة نادرة أن تواجه نهايتك وأنت مطمئن، وسعيد، غير متردد، لذلك كان الشهيد أعلى منزلةً بعد الأنبياء، فليس أسمى من الروح كي يجود بها الإنسان من أجل قضيته.
قُبيل الزفّة بقليل، طلب مأذون الموت الذي يعمل لدى أسياده توقيعاً بسيطاً، يعتبر بمثابة تنازل شكلي عن عقد الزواج، عن المبادئ، عن القضية. “الحرية يا سيد مقابل هذا الاعتذار” كانت نظرية السخرية هي التي رسمها سيد على وجهه، ممزوجة بشفقةٍ عالية على هؤلاء الذين يبيعون دينهم بدنيا غيرهم. قال له المقولة التي خلّدها التاريخ كعادته حين يفعل مع العظماء “لن أعتذر عن العمل مع الله”.
8:07
نظرة أخيرة إلى فناء السجن الصغير، إلى الكالحة وجوههم من كثرة ما أراقوا ماءها لدى بلاط الطاغية، ولرفاق الزنزانة والموت.
تدلّت القدمان، كتعبير مجازي عن التحليق الذي مارسه ذلك الجسد، وفعلته الروح.
صجّ المكان الصغير بالتكبير، والزغاريد. في هذا التوقيت تماماً، بدأت الحياة.
**
في لحظةٍ ما، يبدو الصمت منطقياً حين تكون في مقبرة. ما الفائدة من الكلام مع كل هذه الأكوام من الجثث؟ لا شيء. أنا لم أخدع أحداً، أنا حاولت فقط أن أضع أنبوب أكسجين بسيط إلى ما تحت القبر بقليل، كان الأمل أن يكون هنالك أحياءٌ في الأسفل، لكن الأكسجين نفد، والأحياء لم يستيقظوا لأنهم -على الأغلب- ماتوا.
انتهى كل شيء، هذا آخر كلام تقريباً سأتحدث به عن الكائنات الحية إكلينيكاً، الميتة حقيقةً، والتي تسكن هذه البقعة من العالم، هذه آخر خربشات القلم الذي حاول أن يكون صعقة كهربائية لإنعاش القلب الذي على وشك الموت، لكني لم أسمع لنصيحة جدّتي حين أخبرتني: الضرب -يا بنتي- في الميت حرام!
سأكتب لاحقاً عن أمطار اسطنبول، وأزهار فيينا، ومنظر الغروب الجميل من أعلى جبال الألب، وسيكون من الجيد الحديث عن شعوب الهيمالايا كنموذج جميل للتغلب على الطبيعة، وسأتابع آخر برنامج لـ(ناشيونال جيوغرافيك) عن الشعب بعنوان “خُلـِق ليـُذَل”!
في ذات التاريخ الذي صمت فيه ناجي، وسيد، أردتُ الصمت. ماذا سيجني العالم من وراء هذه الخرابيش؟ لا شيء على الأغلب، هو لم يعد يقرأ، ولم يعد يفعل، هو فقط يتابع من بعيد، يتمنى الفوز في اليانصيب منذ سنوات، ويشاهد السحب الأسبوعي، وحين يخسر يتألم، ويكتب ألمه في دفتر المذكرات، وحديثاً تعلم كيف يحزن تكنلوجياً. يحدث كل هذا وهو لم يشترِ ورقة السحب! أولى خطوات الربح، ورغم وجود ذات المعطيات، الأحداث، التفاصيل الصغيرة حتى، فإن التاريخ في لحظة فارقة لم يكرر نفسه، ولم يشترِ ورقة الياناصيب على ما يبدو!
لا جديد يُذكر، ولا قديم يُعاد، والخربشات التي تسبق هذا التاريخ ستبقى متاحة لمن أراد، وبعد سنين، سأعود لقراءة ما ارتكبته بداي، ولن يكون عليّ الكتابة مرة أخرى، يكفي أن أعيد نسخ ولصق الخربشة من جديد، لن يتغير شيء، لن يتغير.
عليّ أن أهتم بالتفاصيل الحقيقية الآن، لون القبر، شكله، مكانه/مكانته، والأهم: عليّ أن أكون جثّة كما يجب!
كنتُ أكتبُ كلام الأحياء للأموات علّهم يُفيقوا، آن الأوان كي أكتب كلام الأموات للأموات.
هذا كل ما في الأمر.
-رُفعت الجلسه
نوال فاعوري

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!