أعطونا ساعات ذهبية (مقالات ملفقة 26\2) الروائي – محمد فتحي المقداد

أعطونا ساعاتٍ ذهبيّة
مقالات ملفقة (26\2)
بقلم – محمد فتحي المقداد

بالفعل نحن أمام ظاهرة الانشغال الدائم لدى كثير من النّاس الذين نصادفهم، أو لنا علاقات معهم بحكم القرابة أو العمل أو المصادفة، يبدأ بالتأفّف ومن ثمّ يقول بلسان عريض: “والله مُستعجل”. وهذا الأمر يربكني، خاصّة أنّ عملي المهني “حلاق” يستدعي الانتظار، وطول البال. الحقيقة أقولها بملء فمي، بعد استقصاء صادقٍ ومتأنٍّ منّي، تبيّن: “أن كلمة مستعجل صارت لهجة دارجة، أيضًا بعضهم لإظهار أهميّته لدى المستمع والمتلقّي”، والأقسى إيلامًا على نفسي، بعدما تأكّدتُ أنّ غالبيّتهم، لا شيء ولا عمل مهمٍّ يستدعي تعجّلهم، إمّا للّحاق بالشّلة ولعب الورق واللّهو ساعات طويلة في الغيبة والنميمة، فإذا كان هذا هو الذي يشغل بالهم.
الموضوع فتح عينيّ على فيض تساؤلات: “ما هو الشيء الذي لا يُشغلهم؟”. وهل استخدامي للساعة صواب..!!، مؤكّد.. ما هو إلّا محاولتي الفاشلة للقبض على الزّمن الفارط من بين أصابع كفيّ.
ولن يتغيّر الأمر، وإن كانت السّاعات سويسريّة أو تايوانيّة الصّناعة، رغم البَوْن الشّاسع في الجودة والقيمة ما بين الصّناعتيْن، رغم أنّ جميعها تُحاول جاهدة ضبط التوقيت بدقّة، لمساعدتي في استدراك ذاتي المُسافرة المنتظرة في محطّة الزّمن المُتسارع.
فهل باستطاعتها استعادة شيء مما مضى..؟.
فماذا لو تعطّلت السّاعة؛ فهل ستوقّف الزّمان إكرامًا لها.. لأنّها دليلُهُ إليّ؟.
أعتقدُ جازمًا: أنّني رأيتُ عجزي الفاضح في القبض على الزّمن، المُتسرّب من صفحات حياتي الذّابلة بمغادرته لها، محاولاتي الفاشلة لا تفتأ تتكرّرُ المرّة تِلوَ المرّة.. دون تحقيق أدنى فائدة تُذكَر.. فما هي إلّا لوثة عنادٍ في رأسي المُثقَل إصرارًا كما “سيريف” سيّد المعاندين.
دأبي يُماثل دأب الثَريّ وساعته الذهبيّة، التي ما إن لو وُزّع ثمنها لأطعم حيًّا من أحياء المدينة، أ, قرية صغيرة لمدّة أسبوع على الأقل، إن لم يكن شهرًا بلا أدنى مُبالغة.
جدّي الأوّل فكّرَ في ملاحظة ومُتابعة الظلِّ كلّ يوم؛ لأنّه لم يكن مشغولًا كما نحن الآن، وعلى مدار زمان طويل، حتّى حفظ مؤشّراته على وقت ابتكره؛ تبعًا لحركة الشّمس أمُّ الظِّلِّ، وضِيَاها أباه.
مُغامرة جدّي الإنسان الأوّل انطوت على إصراره كما إصراري؛ للّحاق بالزّمن، ثمّ بعد أن أنهكه التعب وهو يرعى أغنامه منذ الباكر من صباح كلّ يوم؛ فغرز عصاه (المزولة) التي يهشّ بها قطيعه في الرّمل، واتّكأ على جنبه، وعى لحركة ظلّ العصا عندما صار بطولها، إلى أكثر فأكثر؛ ولكي يلهو بتمرير الوقت، أعجبته اللّعبة، تابعها كلّ يوم، مقارنة النّتائج على مدار سنة وثانية وثالثة، كانت فتحًا جديدًا في عدّ الوقت، وتقسيمه إلى فئات ووحدات استغرقت اليوم والليلة. وهكذا ظهر التقويم.
ثمّ ابتكر بعد المزولة السّاعة الرمليّة، والحاجة أمّ الاختراع، وإعادة تدوير المواد الطبيعيّة في البيئة، وهي أوّل فائدة مُكتشفة للرّمال سِمَة الصّحاري القاحلة والجافّة والحارّة، ومن ثمّ تدرّج في ارتقاء اختراعاته إلى السّاعة البندول الرّقّاص، إلى ساعة الجيب ذات السّلسلة المعدنيّة، إلى ساعة اليدّ ذات العقارب، إلى الرقميّة منها ذات الأرقام الإلكترونيّة.
كنتّ أعجب لصديقي (علي الشّاهين) رحمه الله: “فقد كان لا يضع السّاعة على معصمه، ولا يحمل قدّاحة لإشعال سجائره، ولا يلبس حزامًا جلديًّا على خصره”. لكن عجبي زال، عندما قرأتُ جُملة للشاعر (محمد الماغوط) في احد حواراته: “أعطونا ساعات ذهبيّة.. ورقوا منّا الوقت..!!”.
عمّان – الأردن
2\ 7\ 2020

عن هشام شمسان

هشام سعيد شمسان أديب وكاتب يمني مهتم بالنقد الثقافي والأدبي ، ويكتب القصة القصيرة والشعر . له عددمن المؤلفات النقدية والسردية والشعرية .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!