التفاوض في أجواء الكذب /بقلم : محمد عبد الكريم يوسف

لا يخفى على أحد أن  التفاوض هو حوار يهدف إلى فض النزاعات، والتوصل إلى اتفاق على مسارات العمل و المساومة من أجل ميزة فردية أو جماعية، أو لصياغة النتائج التي ترضي مختلف الأطراف و المصالح. ويعد التفاوض الوسيلة الرئيسية لتسوية المنازعات القائمة بين الأفراد والمجتمعات والمنظمات والدول.

يحدث التفاوض في مجال الأعمال التجارية ، والمنظمات غير الهادفة للربح وفروع الحكومة والإجراءات القانونية  وبين الدول وفي الحالات الشخصية مثل الحب والزواج والطلاق وتربية الأطفال  والحياة اليومية. ويطلق على دراسة هذا الموضوع نظرية التفاوض.  المفاوضون المحترفون غالبا ما يكونون متخصصين، مثل مفاوضي الاتحاد بين الدول ومفاوضي السلام ومفاوضي اطلاق سراح الرهائن، وقد يعمل المفاوضون تحت مسميات أخرى عديدة ، مثل ”الدبلوماسيين” والمشرعين” أو ”السماسرة”.

تنشأ أهمية علم التفاوض من زاويتين أساسيتين: ضرورته و حتميته.

فنحن نعيش عصر المفاوضات، سواء بين الأفراد أو الدول أو الشعوب فكافة جوانب حياتنا هي سلسلة من المواقف التفاوضية. وتظهر ضرورة علم التفاوض ومدى الأهمية التي يستمدها من العلاقة التفاوضية القائمة بين أطرافه أي ما يتعلق بالقضية التفاوضية التي يتم التفاوض بشأنها وتلك هي الزاوية الأولى.

أما إذا نظرنا إلى الزاوية الثانية وهي زاوية الحتمية. نجد أن علم التفاوض يستمد حتميته من كونه المخرج أو المنفذ الوحيد الممكن استخدامه لمعالجة القضية التفاوضية والوصول إلى حل للمشكلة المتنازع بشأنها.

فكل طرف من أطراف القضية التفاوضية لديه درجة معينة من السلطة والقوة والنفوذ لكنه في الوقت نفسه ليس لديه كل السلطة أو النفوذ أو القوة الكاملة لإملاء إرادته وفرضها إجباريا على الطرف الآخر ومن ثم يصبح التفاوض هو الأسلوب الوحيد المتاح إمام الأطراف التي لها علاقة بالقضية وتريد الوصول إلى حل لها.

هذا من ناحية ومن ناحية أخرى فإن التفاوض يمثل مرحلة من مراحل حل القضية محل نزاع إذ يستخدم في أكثر من مرحلة وغالبا ما يكون تتويجا كاملا لهذه المراحل. فالتفاوض كأداة للحوار يكون اشد تأثيرا من الوسائل الأخرى لحل المشاكل.

فالعمل العسكري أو الحرب وإن كانت أسرع في فرض الإرادة إلا أنها لا تمثل نهاية المطاف فالحرب لا تؤثر في قهر الخصم وتدمير عزيمته. لذا يعد التفاوض مخرجا نهائيا نحو الاستقرار وإن كان يجب التحفظ قليلا للتأكد من صدق النوايا والتأكد من القدرات وقوى التوازن التي تملكها الأطراف المتفاوضة. وهو كذلك انتصار للعقلانية المدركة لكافة الأمور والأبعاد تستخدم فيها أسلحة الحوار ومقارعة الرأي والحجة بالحجة والدليل بالدليل ومن ثم يكون الوصول إلى نتائج نهائية يقنع بها الأطراف.

سمات التفاوض:

يعد التفاوض موقف ديناميكي أي حركي يقوم على الحركة والفعل ورد الفعل إيجابا وسلبا وتأثير أو تأثرا. والتفاوض موقف مرن يتطلب قدرات هائلة للتكيف السريع والمستمر وللمواءمة الكاملة مع المتغيرات المحيطة بالعملية التفاوضية. وبصفة عامة فان الموقف التفاوضي يتضمن مجموعة عناصر:

– الترابط:

وهذا يستدعي أن يكون هناك ترابط على المستوى الكلي لعناصر القضية التي يتم التفاوض بشأنها أي أن يصبح للموقف التفاوضي (كل) عام مترابط وإن كان يسهل الوصول إلى عناصره وجزئياته.

-التركيب:

حيث يجب أن يتركب الموقف التفاوضي من جزيئات وعناصر ينقسم إليها ويسهل تناولها في إطارها الجزئي وكما يسهل تناولها في إطارها الكلي.

-إمكانية التعرف والتمييز:

يجب أن يتصف الموقف التفاوضي بصفة إمكانية التعرف عليه وتمييزه دون أي غموض أو لبس أو دون فقد لأي من أجزائه أو بعد من أبعاده أو معالمه.

-الاتساع المكاني والزماني:

ويقصد به المرحلة التاريخية التي يتم التفاوض فيها والمكان الجغرافي الذي تشمله القضية عند التفاوض عليها.

-التعقيد:

الموقف التفاوضي هو موقف معقد حيث تتفاعل داخله مجموعة من العوامل وله العديد من الأبعاد والجوانب التي يتشكل منها هذا الموقف ومن ثم يجب الإلمام بهذا كله حتى يتسنى التعامل مع هذا الموقف ببراعة ونجاح.

-الغموض:

ويطلق البعض على هذا الموقف (الشك) حيث يجب أن يحيط بالموقف التفاوضي ظلال من الشك والغموض النسبي الذي يدفع المفاوض إلى تقليل دائرة عدم التأكد عن طريق جمع كافة المعلومات والبيانات التي تكفل توضيح التفاوضي خاصة وإن الشك دائما يرتبط بنوايا ودوافع واتجاهات ومعتقدات وراء الطرف المفاوض الآخر.

ويحفل تاريخ المفاوضات بالتعقيد والكذب كما يحدث في المفاوضات العربية الإسرائيلية وكما حدث سابقا أيام بسمارك حيث قاد فشل التفاوض الناتج حتما عن الكذب إلى نشوب العديد من الحروب المدمرة لكافة الأطراف المرتبطة بالنزاع. 

أنواع المفاوضات :

في علم التفاوض ليس كل ما تراه يعبر عن واقع الحال ، فما تراه منطقيا يراه المفاوض غير منطقي  والعكس صحيح إذ أن هدف المفاوض هو الربح والربح فقط لبلاده بحيث يحقق أعلى درجة من المردودية ولهذا السبب يكثر في علم التفاوض التفكير المزدوج والحديث المزدوج والبلاغة اللغوية ويتم استخدام تراكيب لغوية ملطفة ويصبح للكلام معنى ظاهر ومعنى باطن  ومن أنواع المفاوضات يمكن أن نذكر ما يلي:

-المفاوضات المخادعة : 

وهي المفاوضات التي يدخلها أحد الأطراف أو كليهما بنية مسبقة في عدم الالتزام بما سينتج عن العملية التفاوضية وعرقلة  جهود الوصول إلى أي اتفاق. ويتم ذلك باستخدام تقنيات الخداع وألاعيب التفاوض، ومنها، الدخول إلى المفاوضات بحماسة ومن ثم وضع العراقيل وطلب المزيد بعد أن تكون الصفقة قد وصلت إلى مراحلها النهائية، أو التهرب بحجة نقص صلاحيات اتمام الاتفاق والرجوع لجهة أعلى، أو تغيير رئيس وأعضاء فريق التفاوض في المراحل الأخيرة ليقوم بنفي معرفته بالوصول إلى توافق حول القضايا المطروحة.

-المفاوضات التسكينية: 

ويقصد بهذا النوع من المفاوضات استكشاف نوايا الطرف الآخر وتسكين حدة النزاع، ويعتبر عامل الزمن من أهم العوامل في هذا النوع من المفاوضات، إذ ينتظر الفريقان توافر الظروف الموضوعية لحسم الصراع على الأرض لصالحة بينما تجري المفاوضات في القاعات المغلقة. وفي هذا النوع من المفاوضات يستغرق الطرفان ببحث القضايا بتفاصيل شديدة التعقيد والدخول في عمق القضايا والتركيز على الجزئيات التي تتيح المزيد من الوقت لأحد الأطراف لينقض على الطرف الآخر ويحسم الصراع لصالحه على الأرض.

-المفاوضات التأثيرية : 

وفيه تقوم السلطة الحاكمة بتهيئة الظروف ليدخل طرفٌ ثالث على خط التفاوض بحيث يقدم لها تنازلاتٍ لا يقدمها له الطرف الثاني. ويُشترط لنجاح هذا النوع من المفاوضات أن يكون الطرف الثالث على علاقة تنافسية مع الطرف الثاني بحيث يستغل الطرف الأول هذه العلاقة التنافسية والتهديد بالتوصل لتوافق مع أحد الأطراف وازاحة الطرف الآخر من اللعبة كلياً.

-المفاوضات المضللة : 

وفي هذا النوع من المفاوضات يدخل أحد الأطراف أو كليهما لا بهدف التوصل إلى اتفاق، ولكن بهدف احراج الطرف الآخر وإظهاره بصورة المعرقل والمسؤول عن أعمال العنف والدمار. ويستخدم الطرف الذي يعتمد هذا النوع من المفاوضات خطاباً إعلامياً علنياً مرناً ومدروساً بدقة، ولكنه يعتمد استراتيجية شديدة التعنت داخل أروقة المفاوضات، وبذلك يسوق لنفسه صورة الحريص على الاتفاق بينما يعرقله عبر استراتيجياتٍ وتكتيكاتٍ تفاوضية محددة.

التفاوض وحتمية الكذب:

يقوم التفاوض في العادة على أساس القبول والإيجاب بين الفرقاء المخاصمين ولكن لا بد في مكان ما من التفاوض أن يتم استخدام الأساليب الملتوية والتلاعب بالألفاظ للحصول على أفضل ما يمكن الحصول عليه من المفاوضات ، وليست عبارة الملك فيصل عام 1919 في تفاوضه مع الفرنسيين حول مستقبل الشرق الأوسط إلا خير دليل على ذلك حين قال : ” ليس بالإمكان أكثر مما كان ”  وليست مفاوضات بسمارك مع الروس إلا مثال آخر على ذلك ففي الوقت الذي كان يزور فيه موسكو كانت قواته تتجه شرقا نحو روسيا وليست المفاوضات الفلسطينية الاسرائيلية إلى مثال حي على الكذب في المفاوضات والتلاعب بالألفاظ والمصطلحات وما استراتيجيات التخاطب اللغوية التي استعملت في مفاوضات كامب ديفيد بين مصر واسرائيل إلا مثال آخر أيضا على الكذب في المفاوضات . 

هل الكذب ضروري في التفاوض ؟ 

سؤالٌ حاول المفكر الفرنسي جاك دريدا (1930 – 2004)، أن يجيب عليه في كتابه “تاريخ الكذب ” إذ يبدأ بتعريف الكذب بأنَّه ووفق تحديده الكلاسيكي يختلف تماماً عن الخطأ. لأّنه يمكننا أن نخطئ وأن ننطق كلاما خاطئا دون أن يكون الهدف من ذلك خداع الآخرين و الكذب عليهم. تدخل التجارب المتعلِّقة بالكذب والخداع و”الخطأ” كلها في إطار السيدولوجي وهو مصطلح مأخوذ من (pseudo)  في اللغة اليونانية وتنطبق على الزور والحيلة والخداع والتدليس والإبداع الشعري.

ومن شأن هذه التعددية أن تعمِّق سوء الفهم الذي  يزيد من صعوبة التوصل إلى تفسير مقنع لهيباس الصغير  لأفلاطون، وهي حوار يمتاز بالقوَّة الرفضية و الكثافة والحدَّة. وهي حوار يقدِّم حلاً لا يخلو من التعقيد لمسألة العلاقة بين الكذب ومثيلاته ومن ثمَّ يطرح الفيلسوف  دريدا السؤال المشروع :

هل بإمكان الإنسان أن يكذب على نفسه؟ 

وهل يجوز اعتبار كل ما يمكن الإنسان من خداع نفسه والتحايل عليه كذباً؟

وكيف يمكن التمييز بين الكذب والخطأ؟ 

في السياسة والتفاوض ليس كل كذب خطأ وليس كل خطأ كذب ، وما ينطبق على الأخلاق لا ينطبق علي السياسة والتفاوض . فالفعل القانوني ليس بالضرورة أن يكون أخلاقيا والفعل الأخلاقي ليس بالضرورة أن يكون قانونيا . 

ومن الصعب الاعتقاد بأن يكون هناك تاريخ للكذب ، و مَن يستطيع رواية تاريخ الكذب؟ ومن بإمكانه الجزم بأنَّ تاريخ الكذب الذي يعد بروايته سيتطابق مع الحقيقة؟

إذا كان بالإمكان وجود تاريخ خاص بالكذب، وإذا كان كذلك بإمكان هذا التاريخ أن يرتبط بالشر المتمثِّل في الكذب أو الحنث في الوعود  فليس من الممكن أن يصبح تابعاً لتاريخ الخطأ أو الحقيقة بمفهومهما المتداول أي خارج أي اعتبار أخلاقي. من جهة أخرى، إذا كان الكذب يفترض على ما يبدو الابتكار المتعمَّد لأشياء متخيَّلة، فليست كلُّ التخيلات والخرافات كاذبة.

في السياسة والتفاوض يتحول الكذب إلى مهنة وتقنية ومهارة يجب على السياسي أو المفاوض اتقانها واتقان تفاصيلها وتسميتها بأسماء شتى . 

استراتيجيات التفاوض والكذب :

هناك استراتيجيات عديدة يجهزها المفاوض قبل الدخول في المفاوضات وهناك استراتيجيات طارئة تتماشى مع المستجدات الحاصة على طاولة المفاوضات ويلعب الكذب والمحاباة والرياء دورا جوهريا في كل تقنية تستخدم في التفاوض بهدف الفوز بأقصى ما يمكن الفوز به من جلسة التفاوض  ومن هذه الاستراتيجيات يمكن أن نذكر ما يلي: 

 

  • استراتيجية فوز – خسارة  Win-Lose Approach

 

تتميز هذه الاستراتيجية بأن أحد الأطراف يربح كل شيء والأخر يخسر كل شيء وتقول على مبدأ التنافس للفوز بكل شيء على حساب الفريق الأخر . ومن خصائصها:

  1. يربح فريق ويخسر فريق
  2. هناك مصادر يتم تقاسمها وكسبها كليا.
  3. تناقض اهتمامات الفريقين 
  4. يسود فيها مبدأ المساومة 
  5. يسود فيها مبدأ الاجبار وكسر الارادة . 

أما التقنيات التي تستخدمها هذه الطريقة فهي :

  1. التأثير على معتقدات الطرف الأخر.
  2. دراسة المركز التفاوضي للخصم .
  3. اقناع الخصم بمكاسب معينة في حال غير موقفه. 
  4. الترويج لأهداف الفائز على أنها مرغوبة وضرورية وجوهرية ولا يمكن التغاضي عنها . 

ومن المعروف أن كسر إرادة أحد الفرقاء يعني اقناعه زورا وبهتانا بالقبول بشيء لا يناسبه وبالتالي لا نحصل على اتفاق طويل الأمد وإنما على اتفاق مهدد بالفشل في أي لحظة .  

 

  • استراتيجية التسويات Compromise Approach

 

يتم الاعتماد على هذه التقنية في التفاوض لتجنب فشل المفاوضات والوصول إلى توقفها وبالتالي يخسر جميع الأطراف فرصة الوصول إلى اتفاق Lose-Lose strategy  .حيث يحاول الفريقان بذل ما يمكن من جهد للوصل إلى اتفاق عن طريق تخفيض سقف المطالب وتقديم التنازلات  للوصول إلى تقنية ترضي الطرفين . 

 

  • استراتيجية ربح –ربح  Win-Win Approach

 

تعتمد هذه الاستراتيجية أسلوب التعاون وخلق الأجواء الإيجابية للوصول إلى اتفاق، وتعد هذه الاستراتيجية هي الأفضل والأقل كذبا بين استراتيجيات التفاوض  حيث يشعر كل فريق بأنه حقق ما يريد من العملية التفاوضية  ويجب توافر شروط لنجاح هذا النوع من التفاوض منها : 

  1. توافر مجموعة من الخيارات والمصادر الجيدة على الطاولة .
  2. يتم التركيز على النتيجة لا على الإجراءات .
  3. يسود أجواء التفاوض التعاون ومشاركة المعلومات وأسلوب حل المشكلات وتذليل العقبات 
  4. يعمل هذا النوع على خلق قيمة من التفاوض .

وعندما نستخدم هذه الاستراتيجية في التفاوض يجب توافر مجموعة من الشروط منها:

  1. النية بالتوجه نحو استراتيجية ربح-ربح في التفاوض.
  2. علينا معرفة الخيار الأفضل لنا والعمل على تحقيقه.
  3. التخطيط لاستراتيجية وأهداف واضحة وهامة نرغب بتحقيقها. 
  4. التركيز على الاهتمامات لا على المركز التفاوضي.
  5. خلق فرص للربح المتبادل.
  6. توليد مجموعة من الامكانيات والفرص.
  7. التركيز على النتيجة .
  8. الانتباه والاهتمام لسير التفاوض.
  9. التركيز على مهارات التواصل.
  10. استخدام مهارات الاصغاء وإعادة الصياغة واعادة طرح الاسئلة 

التفاوض في أجواء الكذب :

يشير بحث علم النفس الاجتماعي إلى أن الناس يكذبون ويمارسون الكذب في غالبية الأحيان . وقد جدت إحدى الدراسات البارزة أن الناس يكذبون ، في المتوسط ​​، كذبة واحدة أو اثنتين كل يوم.  والمفاوضون ليسوا استثناء من الناس  . وانطلاقا من الدراسات التي أجريت في عامي 1999 و 2020 ، فإن ما يقرب من نصف أولئك الذين يبرمون الصفقات يكذبون عندما يكون لديهم دافع وفرصة للقيام بذلك.  ويعتقدون  أنها طريقة لفرض الإرادة  (على الرغم من أنها يمكن أن تسبب رد فعل عنيف وتمنع حل المشكلات بطريقة مبدعة تقود إلى صفقات مربحة للجانبين) . وبالتالي فإن الخداع هو أحد الأشياء غير الملموسة التي يجب على المفاوضين الاستعداد لها واتخاذ خطوات لمنعها أو لمنع الوقوع تحت تأثيرها. 

يعتقد كثير من الناس أن الحل هو أن يتحسن الإنسان وتتوسع مداركه في اكتشاف الخداع.  هناك فكرة واسعة الانتشار مفادها أنه يمكن للمرء أن يكتشف الكاذب بشكل موثوق من خلال الإشارات السلوكية الدقيقة التي تبدو عليه. لكن الأدلة لا تدعم هذا الاعتقاد في معظم الحالات وهي غير كافية . وقد وجدت إحدى الدراسات أن الكاذبين يمكن التعرف عليهم بشكل صحيح إذا نسبة الكذب 54٪  في الكلام  .  يصادف جهاز كشف الكذب – وهو تقنية مصممة خصيصًا للكشف عن الأكاذيب في بيئة خاضعة للتحكم – الكثير من المشكلات في كشف الكذب ،  ويصل إلى استنتاج خاطئ في ثلث النتائج .  ويعوز البشر غير مؤهلين القدرة  على التعرف على الأكاذيب التي تخفيها الإطراءات مثل  : وعد الرئيس في العمل بأن الترقية ستأتي في يوم من الأيام  ؛ و تأكيد المورد بأن طلبك هو أولويته القصوى.  ونحن كبشر على استعداد لقبول المعلومات التي تتوافق مع افتراضاتنا أو آمالنا الموجودة مسبقًا.  

هل هناك شيء يمكنك القيام به للتأكد من أنك لا تنخدع في المفاوضات؟

 نعم ، إذا ركزنا على الوقاية بدلاً من الاهتمام بكشف الكذب .  هناك العديد من الاستراتيجيات التي يدعمها العلم ، والتي يمكن أن تساعد في إجراء المحادثات بطريقة تجعل من الصعب على النظراء الكذب.   وعلى الرغم من أن هذه الطرق ليست آمنة ضد الفشل ، إلا أنها تجعل الإنسان في وضع أفضل في إبرام الصفقات وتساعد على إنشاء أقصى قيمة يعتمد عليها .

يمكن اتباع الخطوات التالية للتعامل مع البيئة التي ينتشر فيها مذهبا ومعتقدا منها:

 

تشجيع تبادل المعلومات :

لدى البشر نزعة قوية للمعاملة بالمثل ، وعندما يشاركنا شخص ما معلومة حساسة للغاية نميل إلى التعامل معه بشفافية ونبوح له بأسرار توازي بالأهمية المعلومات الحساسة التي باح بها لنا. البوح بالأسرار يشجع تبادل الأسرار وربما كان السبب في ذلك هو الحس الأخلاقي الذي يمتلكه البشر بالمعاملة بالمثل . في دراسة هامة أجرتها نيويورك تايمز  ، تم اقرار قائمة بالسلوكيات غير الأخلاقية مثل: المطالبة بالتأمين عن حادث كاذب  أو الغش في الإقرار الضريبي  أو الغش في الامتحانات المدرسية  وقد تبين من الدراسة أن نسبة 27 % من المشاركين اعترفوا باقترافهم مثل هذه الأفعال بمجرد تشارك الآخرين معهم هذه المعلومات في حين تحفظ قلة قليلة من الناس عن الاعتراف بأفعال قاموا بها . في الحقيقة البشر غير كفؤين في التعرف على الأكاذيب المقرونة بالإطراء .   

تظهر المعاملة بالمثل بشكل خاص في المعاملات وجهًا لوجه وعلى طاولة التفاوض المباشر   ، وتقل في حالات التفاوض غير المباشر . تخيل أنك تعرض قطعة أرض للبيع وتقول في الإعلان بأنك ستبيعها لمن يستخدمها في أفضل مشروع  . هذا الإجراء سيدفع كل المشترين المحتملين لإفشاء خططهم وأسرارهم هو استخدام الأرض المستقبلي . وبالتالي فأنت تشجع على إجراء حوار حول المصالح والمصالح المتبادلة وهذا أمر بالغ الأهمية لدى الفريقين . تفيد هذه الاستراتيجية  في السماح لك بوضع اطار للتفاوض الأمر الذي يعزز الفرص في ايجاد اختراقات  على أكثر من جانب . وفي نفس الإطار يعمل بائعو العقارات وسماسرتها فأنت عندما تريد أن تشتري يزينون العقار ويذكرون محاسنه بدءا من المسجد المجاور وانتهاء بالصرف الصحي والدرج والإنارة والجيران ، وعندما تريد أن تبيع العقار يحجبون كل هذه المعلومات ويجاهلون مزاياه العديدة التي اتعبوك بذكرها عند الشراء . 

علينا التروي والبرود عند البدء في أي جلسة تفاوضية وعلينا أن لا ننخدع بلطف الطرف الآخر ونلقي بكل أوراقنا على الطاولة دفعة واحدة . 

 

اطرح أسئلة صحيحة ومحددة: 

يحب معظم الناس الظهور بمظهر الصادقين  ومع ذلك ، يحرص المفاوض الجيد على حراسة معلوماته الحساسة  بدقة شديدة لأنها قد تقوض موقفهم التنافسي . بعبارة أخرى، يميل المفاوضون إلى الكذب  وعدم التطوع لإظهار الحقائق الهامة المرتبطة بالموضوع التفاوضي . على سبيل المثال ، انظر إلى شخص يريد أن يبيع شركته ولكنه يعلم أن المعدات الأساسية تحتاج إلى استبدال – وهي مشكلة غير محسوسة بالنسبة للآخرين.  قد يبدو من غير الأخلاقي بالنسبة له حجب هذه المعلومات ، لكنه قد يشعر أنه من خلال تجنب الموضوع ببساطة ، يمكنه تحصيل سعر أعلى . ولو قام هذا الشخص بذكر العيوب في المعدات الأساسية لما تم البيع أساسا. 

وفي التفاوض ، من يمتلك المعلومات الكاملة عن القصة هو سيد الموقف في التفاوض. تذكر إحدى الدراسات أن 61%من المفاوضين أضعفت قدراتهم التفاوضية على المساومة بسبب ضعف في المعلومات أو الترجمة أو عدم المعرفة الجيدة بكل تفاصيل العمل مقابل صفر بالمئة ممن يحيطون بكل تفاصيل العمل . كما بينت الدراسات أن 39% من المفاوضين كذبوا في الإجابة على الأسئلة التي طلب منهم الإجابة عنها .

وبدل تجاهل صاحب الشركة التي تحدثنا عنها سابقا موضوع المعدات  كان يمكنه أن يذكر عبارة أقل تشاؤما وهي ” ستحتاج  إلى بعض المعدات الجديدة قريبا .” بدل العبارة المتفائلة ” المعدات في حالة جيدة ” والتي قد تبدو غير صحيحة وقد ينطبق عليها فعل الكذب أو تجاهلها والذي ينطبق عليها فعل التدليس.   

 

راقب التهرب والمراوغة :

غالبا ما يميل المفاوضون الأذكياء إلى التغلب على الأسئلة المباشرة من خلال الإجابة ليس على ما طلب منهم وإنما الإجابة على أسئلة لم تطرح ويريدون بها التهرب والمراوغة . يجب طرح أسئلة محددة للغاية تتطلب الإجابة بنعم أولا وعدم استخدام الأسئلة العريضة التي تتيح للمفاوض التحدث بحرية وعمومية عن الموضوع . لسوء الحظ لا تجد الإنسان الموهوب المتخصص في الكشف عن المراوغة لأنهم في الأساس ينسون بسرعه ما طلبوه . في الواقع ينبهر الناس بقاعدتهم العريضة في طريق التجاوز البليغة والتعرب المتفنن من الإجابات  أكثر من الإجابات ذاتها. 

تلعب اللغة والايقاع في المفاوضات الوجاهية دورا مهما وحساسا في العملية التفاوضية ويكون الانحراف المعياري عن السؤال أكبر من المفاوضات غير الوجاهية . في الأولى يؤثر المظهر والأسلوب والنظرة على المتلقي في حين يكون التركيز على محتوى السؤال والجواب أكثر في المفاوضات غير الوجاهية أو غير المباشرة . 

 

لا تسهب في الحديث عن السرية

تظهر الأبحاث أنه عندما نعمل على طمأنة الآخرين بأننا سنحافظ على خصوصيتهم وسريتهم ، و نرفع بالفعل منسوب شكوكهم ، مما يجعلهم يطالبون بمعرفة الحقيقة . في وقت مبكر من السبعينيات ، قام المجلس الأمريكي القومي للبحوث بتوثيق هذا التناقض في العملية التفاوضية  مع مشاركين محتملين في دراسة ميدانية وقد أهرت النتائج أنه كلما زادت وعود الحماية ، كان الناس أقل رغبة في الاستجابة لها .  على سبيل المثال، وافق أقل من نصف الأشخاص الذين تلقوا تأكيدًا قويًا على السرية على إكمال مسح غير ضار ، في حين وافق حوالي 75 ٪ من أولئك الذين لم يحصلوا على مثل هذا الضمان على القيام بذلك.  

وقد بينت الدراسة أن حماية الخصوصية القوية يمكن أن تزيد أيضًا من الكذب كما أظهرت أنه عندما يتم طرح الأسئلة بنبرة قوية  غير النغمة الرسمية  ، فمن المرجح أن يكشف الأشخاص عن معلومات حساسة.  

في الحالة التفاوضية ، يستخدم موضوع السرية للتضليل ولتغيير الحقائق والانحراف عن المسار.  

 

زراعة التسربات:

يسرب الناس عن غير قصد المعلومات بجميع أنواعها ، بما في ذلك أسئلتهم. على سبيل المثال ، لنفترض أنك مسؤول عن الشراء لصالح شركة وأنك على وشك توقيع عقد مع مورد تعهد بتقديم البضائع في غضون ستة أشهر.  وقبل التوقيع ، يسألك عما يحدث في حالة التسليم المتأخر.  قد يكون السؤال بريئًا ، ولكنه قد يشير أيضًا إلى مخاوفه بشأن الالتزام بالجدول الزمني.  لذلك يحتاج الإنسان إلى الانتباه.

وعندما يسرب الناس المعلومات  بلا انتباه ، تكون المعلومات دقيقة  .  ويدرك المفاوضون المحنكون أن المعرفة القيمة يمكن استخلاصها ببساطة من خلال الاستماع إلى كل ما يقوله نظراؤهم بما في ذلك التعليقات الغريبة أو المبتذلة و بنفس الطريقة التي يبحث بها المحققون عن أقوال المشتبهين الجنائيين التي تتضمن حقائق غير معروفة للجمهور. في التفاوض الساخن يجب على المفاوضين التعامل مع القضايا الصعبة بصدق .

قد يميل الفريق المفاوض الآخر إلى حجب المعلومات ، وهنا يمكن استدراجه وتشجيعه للتسريب بطرق شتى منها رمي طعم أو تسريب معلومة مهمة مبهمة . لقد وجدت الدراسة التي قامت بها نيويورك تايمز  أن الكثير من الناس يميلون إلى حجب معلومات حساسة أكثر من الافصاح عنها فمثلا يميل الناس إلى حجب المعلومات حول دخلهم وقد بينت الدراسة ذاتها أن حوالي 1.5% فقط من المشاركين يميلون للحديث  والافصاح ضمنيا عن أشياء سيئة قاموا بها 

في المفاوضات ، يمكن استخدام تكتيكات غير مباشرة مماثلة لجمع المعلومات. على سبيل المثال ، يتم منح الفريق المفاوض الآخر خيارًا بين مجموعتين مختلفتين من العروض – طريقتان محتملتان لتقسيم الغنائم – وكلاهما مقبول للفريق المفاوض  . وإذا عبّر عن تفضيل أحدهما على الآخر، وقال إنها تسريب معلومات حول الأولويات  وتكوين نظرة ثاقبة  حول القضايا القابلة للتفاوض.

هناك استراتيجية أخرى تشجع النظير في التفاوض على إظهار أدواته عن غير قصد، كأن تطلب بنودًا طارئة تتعلق بالعواقب المالية الناجمة على مطالباتها. إذا تراجع الفريق الآخر عن الموافقة يكون قد أدرج في خانة الكذب والتهرب والمماطلة  . 

الكذب يحيط بنا من كل حدب وصوب ، هناك كذب في الشارع والعمل وعلى وسائل الاعلام بمختلف مسمياتها وعلى وسائل التواصل الاجتماعي  – ويمكن أن يكون الكذب عائقًا حقيقيًا أمام خلق القيمة في المفاوضات . قد يكون نشر الاستراتيجيات المدعومة بالعلم من الوسائل المفيدة في أن نقطع شوطًا طويلاً وايجابيا نحو إخراج أفضل ما يمكن اخراجه في المفاوضات  ولكل الأطراف المعنية. ويبقى العمل في أجواء يسودها الكذب من أصعب الأعمال وأكثرها حساسية . 

 

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!