التنمية الإدارية بين آمال الطموح وصعوبات الواقع/بقلم : محمد عبد الكريم يوسف (1)

 

 

مقدمة

التنمية الإدارية من المفاهيم المستحدثة في الدول النامية  إذ أن الغرب تخطاها نحو التنمية المستدامة . ونظرا لحداثة المفهوم في كثير من الدول النامية  التي تنتهج مناهج التحديث والتطوير فمن الطبيعي أن ينال مصطلح التنمية الإدارية نصيبه من الغموض الذي اكتنف مصطلح التنمية بمعناها الشامل، وأن تنعكس الاختلافات
في وجهات النظر الأكاديمية والتطبيقية والفلسفية على مضمونه ومحتواه.

يشير لفظ التنمية إلى العمليات المخططة الهادفة إلى إجراء التحسين والتطوير في المجالات المختلفة . وفي مجال الأفراد يقصد بها بالمعنى الواسع جميع العمليات الرسمية وغير الرسمية التي تؤدي إلى زيادة معارف الأفراد وتنمية مهاراتهم وتغيير اتجاهاتهم . وتحدث التنمية الرسمية عندما يتعلم الفرد نتيجة للمشاركة في البرامج التعليمية والتربوية والإدارية التي تتم في إطار تنظيمي رسمي . في حين تحدث التنمية غير الرسمية من خلال المواقف التي يواجهها الفرد في حياته.

ومن هذا المنطلق يجب على المؤسسات المعنية بالتنمية أن تقوم بإعادة تعريف المصطلحات الإدارية والقانونية والفنية  ليتم الاتفاق عليها أولا وقبل البدء في عمليات التنمية الإدارية . ويتم ذلك بموجب إطار قانوني يسمي الأشياء بمسمياتها تلافيا للتداخل القانوني والإداري ولتحديد الصلاحيات . و يجدر بنا هنا أن نشير إلى التجربة اليابانية عند الإقلاع بالتنمية بمختلف جوانبها التي اعتمدت في مراحلها الأولى على تحديد المصطلحات ثم تسميتها ثم تعريفها ثم وضع الإطار القانوني للعمل بكل مصطلح على حده . هذا الأمر ساعد اليابان كثيرا في الابتعاد عن الأيدلوجيات المتضاربة وحصر المسؤوليات والصلاحيات وهكذا انطلقت اليابان لتصبح في مصاف الدول الرائدة رغم عمرها القصير نسبيا .

آمال و محاور التنمية الادارية

تعتمد التنمية الإدارية في عملها على المحاور التالية وسنرتبها وفق الأهمية :

 المحور القانوني: وهو العامل الأساس في نجاح عمليات التنمية بكل صورها حيث يؤكد هذا الجانب على تأسيس بيئة قانونية تقبل أفكار وخطط وقرارات التنمية الإدارية   يقول بعض المتأثرين بالاتجاه القانوني والتشريعي الذين ينظرون إلى السلوك الإداري على أنه تصرف قانوني قبل كل شيء ، أنه من الضروري البدء بتغيير القوانين والتشريعات والنظم واللوائح التي تضبط العمليات الإدارية وتنظمها وتوضح المسؤوليات وتقسم الصلاحيات والسلطات. يشير الواقع الحالي إلى أن كل القرارات الإدارية يجب أن تكون  منسجمة مع التشريعات والقوانين وهذا رأي صحيح في حين أن التنمية الإدارية تهدف إلى تطوير الواقع وتحضيره للأفكار الجديدة وهذه الأفكار أحيانا لا تكون منسجمة كليا مع الإطار القانوني الحالي . فلسفة التنمية الإدارية تقوم على التطوير والتحديث والتغيير نحو الأفضل . لذلك كان من الضروري خلق البيئة القانونية الحاضنة  للتنمية الإدارية والاقتصادية والبشرية كما حدث في التجربة اليابانية التي أشرت إليها سابقا . ( التجربة اليابانية )

المحور التنظيمي: وهو العامل الثاني في بناء منظومة التنمية الإدارية . الإطار التنظيمي يسير بالتوازي مع الإطار القانوني وينسجم معه  ، والغاية من ذلك هو تلافي الثغرات بين الواقع وبين التطبيق. ومن الملاحظ أنه في الكثير من الدور النامية لا يواكب الإطار القانوني الإطار التنظيمي وبالتالي نجد الهوة شاسعة بين المأمول والمعاش داخل البلد الواحد وبين البلد والبلدان الأخرى . ومن الملاحظ أيضا أن  بناء المؤسسات والأطر التنظيمية الجديدة أو إعادة تنظيم الجهاز الإداري بجميع وحداته وأقسامه لجعلها أكثر تخصصاً من جهة يستغرق العمل به سنوات وسنوات وعندما يصدر الإطار التنظيمي للمؤسسة يكون قد صار قديما . للأسف في الكثير من دول العالم النامي يستغرق إعداد الهيكل التنظيمي للمؤسسة عشرين عاما وأحيانا يصدر بصيغة غير متجانسة مع الإطار القانوني والعكس  كما لوحظ الازدواجية والتضارب بين أعمال الكثير من الوحدات التنظيمية من جهة أخرى  ، بالإضافة إلى تبسيط الإجراءات وتنميط نظمها ووضع النماذج التي تساعد على تقييم الأداء وقياس العمل.

كلما كانت هذه الأطر الهيكلية والمنظمات مرنة وواضحة وملائمة لطبيعة العاملين وللوظائف التي ينفذونها ، ازدادت فاعلية المؤسسات وارتفعت إنتاجية الأفراد . يقول أصحاب هذا المحور بضرورة إنشاء جهاز للإصلاح يتولى مسؤولية تنفيذ الإصلاح الإداري الذي تقره السلطات السياسية.

وقد لوحظ أيضا أن إعادة بناء الهياكل والأطر التنظيمية  يساعد التنمية الإدارية  لكنه بلا فائدة إذا لم  يرافق ذلك تغير جذري في الإنسان الذي يعمل وسط هذه البيئة ويتفاعل مع متغيراتها. التسميات الوظيفية وإعادة التسميات والتبعية الوظيفية  لا تغير الإنسان إذا لم يتغير من الداخل .

المحور البشري: إن إجراء التعديلات في القوانين والتشريعات والأنظمة وكذلك إعادة بناء المنظمات وإيجاد المؤسسات الإدارية لا يكفيان لخلق تنمية إدارية ، ما لم يصاحبها تغيير جوهري في السلوك الإنساني سواء أكان ذلك على مستوى الفرد أم الجماعة، فالإنسان هو القوة الحية والمحركة لكل المتغيرات المادية والقانونية والتنظيمية. لذا فإن أي جهد يبذل من أجل تدريب العنصر البشري يؤدي لا محالة إلى زيادة كفاية التنظيم ورفع فاعليته .وهنا يجب أن نميز بين التدريب التقليدي الذي تقوم به الإدارات والمنظمات وبين التدريب الذي تقوم به التنمية الإدارية  والذي يختلف بمستوياته ومهاراته وأهدافه عن التدريب التقليدي . ( التجربة الألمانية )

المحور التقني : يعتمد هذا المحور على إعداد الخبراء والفنيين مع بعض النماذج من الأجهزة التقنية التي أريد منها تطوير أجهزة الإدارة ومستوى الأداء للمؤسسات الاقتصادية في البلدان النامية ويرى أصحاب هذا المحور أن التقنية الحديثة ستحدث تغيراً جوهرياً في أنماط السلوك سواء أكان ذلك السلوك استهلاكياً أم اجتماعياً أم ثقافياً . بالإضافة إلى ذلك فإن أجهزة الإدارة في العالم النامي تضخمت وتوسعت وصارت في حاجة إلى تقنيات تسهم في حل المشكلات الكبيرة ، وكمثال على ذلك  البرامج الخطية والميزانيات و دراسة الجدوى الاقتصادية ، ومعدلات النمو والحسابات القومية كما أصبحت أجهزة الإدارة في هذه البلدان تعتمد على الحواسب الآلية . كل هذا أسهم ويسهم في وضع عملية التنمية الشاملة وتسريعها.

المحور البيئي :  وينطلق هذا المحور من المحيط الخارجي ، بكل متغيراته ، من سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية ، وتأثيره في عمل المنظمات أولاً، وبالتالي في العاملين فيها ثانياً. فإذا كانت المنظمة تعمل في بيئة متخلفة فإن ذلك سيؤثر فيها بحكم الظروف الموروثة من تخلف يتسم بضعف واضح في مستوى الأداء الناتج أصلا عن الاستيعاب البطيء للمتغيرات مما سيدفع هذه المنظمة إلى الاعتماد على الآخرين من خارج بيئتها التي تعمل فيها ويجعلها من ثمّ غير قادرة على التغيير بحكم تبعيتها. لذا فإن أصحاب هذا المحور يؤمنون بأن الدعم السياسي والحياة الديمقراطية والمؤسسات الشرعية والقيادات الوطنية المتفهمة لأهمية التنمية ودورها في دفع عجلة التقدم تسهم إلى حد كبير في تحقيق أهداف التنمية الإدارية.

صعوبات ومعوقات  التنمية الإدارية

تنطلق فلسفة التنمية الإدارية من الإقناع بضرورة التغيير لغايات الإصلاح والتطوير الإداري وتحاول قدر الإمكان الابتعاد عن الأدوات الخشنة في الإقناع التي تستخدمها مؤسسات الرقابة والتفتيش والايزو ومراقبة الجودة  . ولهذا السبب تجد أن التنمية الإدارية تواجه الكثير من الصعوبات لأنها لا تعتمد أساسا الوسائل والأساليب القسرية في العمل . ومن الصعوبات والمعوقات التي تواجه عمليات التنمية الإدارية والتطوير والتحديث يمكن أن نذكر ما يلي على سبيل المثال وليس الحصر :

  • مقاومة التغيير والتعلق بالأعراف والتقاليد المتبعة في العمل .
  • صعوبة تقبل الأفكار الجديدة بسبب غرابتها عن البيئة التي يعمل بها الموظف .
  • صورية الأحكام وعدم تطابق القرارات والتشريعات مع الواقع فما ينطبق على المدينة لا ينطبق على الريف أو طوق المدينة .
  • عدم الوقوف على النافذ وغير النافذ من القوانين والقرارات والتشريعات .
  • ضعف المستوى العلمي للقائمين على التطبيق وعدم الخبرة أو الحصول على التدريب الجيد ونلاحظ ذلك كثيرا في بعض المؤسسات والمنظمات حيث يعمل المدير كمدير ورئيس الدائرة ورئيس شعبة في ذات الوقت .  معروف أن مركز المدير توجيهي  ومركز رئيس الدائرة إشرافي ومركز رئيس الشعبة مباشر .
  • كثرة التعديلات والتفسيرات والبلاغات والتأويلات القانونية وهذه ظاهرة غير صحية في الدول التي تعتمد هذه المنظومة في التفكير . يجب أن يكون القانون واسعا وشاملا ونزيها وقاعدته القانونية موجهة لكل الناس .
  • التدريب الرديء أو التدريب الاستنسابي المشتت وغير المنظم كأن تدرب رئيس شعبة على أحدث النظم العالمية وتنسى تدريب رئيس الدائرة  أو لا يخضع رئيس الدائرة لنفس التدريب . هذا يؤدي إلى تضارب الرؤى وبالتالي تعطيل القدرات . التدريب ليس أرقام ترفع للجهات الأعلى . التدريب في جوهرة نوعية وكفاءة ومحبة وتعاضد وعمل بروح الفريق.
  • بعثرة الأحكام القانونية وصعوبة الحصول على المعلومة الدقيقة . وبالتالي تكون المعلومات ناقصة وغير شاملة وتعتمد على الحظ وهذا المناخ غير صحي يعيق عمليات التنمية الإدارية ويسبب الخلل في آلية عمل المؤسسة كما يؤدي لنشوء قوى نفوذ تعمل عمل المرشد في كل شيء وبالتالي تنحرف المنظمة بمسارها عن الطريق المرسوم لها.
  • ضعف الوازع الأخلاقي ونقص الشعور بالمسؤولية . الضمير هو المعيار الأول للالتزام بالقانون وهو الذي يوازن بين الحاجات الداخلية للإنسان وحاجاته الخارجية . الوازع الأخلاقي والضمير هما الشرطيان على سلوك الفرد . وغيابهما بالتأكيد يقود المؤسسة للانحراف عن مسارها والابتعاد عن تطبيق روح القانون .
  • نقص الثقافة القانونية والوعي القانوني. من المعروف عالميا أن القسم القانوني في أي مؤسسة هو صمام الأمان للمؤسسة ومن خلاله يتم التأكد من مطابقة الأفعال للقوانين والأحكام الناظمة المعمول بها وهو المرجع في كل صغيرة أو كبيرة للحصول على المعلومة الدقيقة . وفي حال كانت الثقافة القانونية غير كفء كان أداء المؤسسة ضعيفا .
  • عدد الاهتمام بالندوات والمؤتمرات الدولية والمحلية واعتبارها نوعا من الترفيه لا مصدرا للتواصل وزيادة العلوم والمعارف .

هذه الصعوبات وغيرها تعد من العوائق الكبيرة أمام التنمية بمختلف جوانبها ولا يمكن الإقلاع في عمليات التنمية من دون التغلب عليها .

طموحات التنمية الإدارية المشروعة

حتى نساعد مؤسسات التنمية للشروع في عمليا التغيير العقلي والفيزيائي الشامل علينا أن نحقق عددا من الطموحات الواعدة المشروعة للتنمية وإلا ستبقى هذه المؤسسات وأفكارها وطموحاتها حبيسة الأدراج وحبرا على ورق مثل جميع المشاريع والطموحات التي حلمت بها الكثير من الدول النامية  ، ومن بين هذه الطموحات نذكر على سبيل المثال وليس الحصر:

  • التدريب الشامل لكافة الموظفين خلال فترات زمنية محددة . ويجب أن يكون هذا التدريب فرض عين وليس فرض كفاية . ويجب أن يشمل التدريب كافة نواحي حياة العامل العلمية والمعرفية والعملية والعاطفية .
  • تحديد الأطر القانونية المتضاربة و تحديثها بما يتناسب وأفكار التنمية .
  • بث روح الابتداع والابتكار والتطوير والتحديث في روح الموظفين على اختلاف فئاتهم .
  • تمكين التنمية من الحصول على وسائل إقناع عبر الثواب والعقاب كباقي مؤسسات الدولة .

 

خاتمة :

العالم يعيش عصر الاستدامة ولكن الدول النامية لا زالت في طور التفكير في التنمية والخطط والخطط البديلة . الهوة تزداد بين من يعرف ومن لا يريد أن يعرف. وهذا خطير في عالم يحقق فيه الإنسان مهارات وتطويرات غير مسبوقة .

فهمل من مجيب؟

سؤال برسم صناع القرار .

الحواشي :

(1) محمد عبد الكريم يوسف (1965-) مواليد قرفيص/ سورية . مدرب ومترجم وأكاديمي و محاضر في الجامعات السورية   / رئيس قسم الترجمة سابقا في الشركة السورية لنقل النفط / رئيس دائرة العقود والمشتريات الخارجية سابقا في الشركة السورية لنقل النفط / حاليا رئيس دائرة التنمية الإدارية في الشركة السورية لنقل النفط.  كاتب في العديد من الصحف العربية والأمريكية .

المراجع

الموسوعة العربية – هيئة الموسوعة العربية – دمشق

الموسوعة القانونية – هيئة الموسوعة العربية – دمشق

أثر الأنظمة واللوائح في التنمية الإدارية ، د عبد الفتاح خضر ، 2015

التنمية الإدارية بين التقليد والإبداع ، محمد يوسف ، صحيفة المثقف ، سدني ، 2017

التنمية الإدارية  والإبداع في إدارة الوقت ، محمد يوسف ، صحيفة الفكر ، مصر ، 2017

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!