الجَنوبُ قادمٌ”/بقلم:مجيب الرحمن الوصابي

” “الجَنوبُ قادمٌ” … تفكيكُ الاستعارةِ في الخطابِ السياسيّ اليمنيّ(4)

 

إِنْ أعْطيْنا أحدَهُم قلمًا وقلنا لهُ: ارسمِ الجنُوبَ!… على أن يكونَ هذا الشخصُ من سياقِ “الاستعارة المعجمي”(الجنوبُ قادمٌ) المدركين لعمقها، والمؤمنين بها … ماذا عساه أنْ يرسمَ؟!

سيَرْسمُ عَلَمًا… خارطةً …لربّما صورةَ الرئيس عيدروس إن كان موهوباً يجيد الرسم أو …..؛ فإن كان من خارجِ السياقِ المعجميّ اليمنيّ ؛ أو المناوئ ماذا سيرسمُ؟! …

كيفَ ترسمُ النوبليّةُ “توكلُ كرمانَ وشيعتُها” الجنوبَ”؟!

الجَنُوْبُ لفظٌ مجردٌ: ” ليس بجسم أو مادة”؛ لا لون له، لا حركة / لا وزن، ولا يُسمعُ ولا يُحسّ إنّما حروفٌ مسموعةٌ بالآذانِ موصوفةٌ بالألسنِ، ومكتوبٌ حروفا، غير منظور إليه؛  … مثل غيره من الالفاظ المجردة. هل نظرتم يوما في وجه السعادة أو ودعتم الأوطان  …”هل رأى أحدُكُمُ الجنوبَ؟..

الحَقُّ يُقالُ أنّ لا شيء يُمكنُ أن يكونَ مفهومًا من جانبنا دون أن يثيرَ واحدةً من ذكرياتِنا وخبراتنا السابقة، ولا يمكنُ تقبّلُ شيء قبل أن نتمكن من تقريبه من شيء آخر سابق حفظناه في ذاكرتنا، وفلاسفة كلّ العصور كرّروا هذا القول واستفاضوا فيه يقولُ أفلاطون “إن معرفتنا تتعلق بتنبُّه النفس بعد اتصالها بالبدن”.

وفِيْ التحليلِ البلاغيّ النحويّ نجد أن الألف واللام في لفظة (الـــ”جنوب) عوضاً عنِ المضاف إليه، أي (جنوب/نا) أو للعهد الخارجي (الخبرة السابقة)، إذ هو المعهود في مثل هذا المقام أي السياق للمتكلِّم/ الكاتب ؛ …. وتفسِّره قبلياتٌ مقصودةٌ ومُتَصَالَحٌ عليها بين أطراف الخطاب: “دولة جمهورية اليمن الديمقراطية، أو “الجنوب العربيّ” وهذا المصطلحُ الأخيرُ ينطوي على أبعاد خطابيّة حجاجيّة نتمنى أن يسعُنا المقام لتفكيكها.

يَرَى الشيخُ عبدُ القاهرِ الجرجانيّ أنّ لا دِلالة في الجملة الاسميّة غير” الثبوت” فتكونُ دلالته في استعارتنا المدروسة: ” ثُبوتُ القدومِ للجنوب” وهذا يعني ألّا دلالة في الجملة الاسمية غير مجرد الثبوت؛ إنّما يمكن إضافة دلالة عقلية توحي بــ”التجدُّد” مع أنّها لم تدلّ على التجدُّد!  لكنّ الدوام يثبت بمقتضى الدلالة العقلية فالأصل في كلّ ثابت دوامه واستمراره.

وَفِيْ “القضية الحَمْلية” التي أساسها الحُكم؛ فإنَّ الموضوعَ (الجنوب) محكوم عليه بــــ(قادم) وهذه اللفظة محكوم بها….، وتقديم المسند إليه “الجنوبُ” على المسند “قادمٌ” هو بمثابة تقديم للموضوع على المحمول، وتقديم المسند إليه على المسند (الخبر) وكونه الأصل في اهتمام المتكلم واعتنائه بشأنه.

يُؤْكِدُ  “لايكوف وجنسون” على نحو مشهور في كتابهما” الاستعارات التي نحيا بها” أن التعبيرات الاستعارية ليست ببساطة طُرُقاً في الكلام عن شيء بمفردات شيء آخر، لكنّها أدلةٌ على أننا نفكّرُ في شيء بمفردات شيء آخر، وهي تعكس أنماطاً تقليدية في التفكير تعرف بـ(الاستعارة المفهومية) وهي ” سلسلة نسقيّة من التناظرات أو الروابط عبر مجالات مفاهيمية”.

يَتِمُّ بواسطتها تأسيسُ مجالٍ(هدفٍ) مثل معارفنا المتعلقة بـ(الجنوب) على نحو جزئي بمفردات مجال (مصدر) مختلف مثل معارفنا المتعلقة بـفعل القدوم(قادم) وهي لفظة مشتقة من الفعل الثلاثي (قَدِمَ) تدلُّ على حركةٍ مُسيَّرةٍ منتظمةٍ ذاتياً  إلى الأمام.

يُشَدِّدُ مُنظِّرُو الاستعارة المفهومية على أنَّ مجالاتِ الهدفِ تتناظرُ على نحوٍ تامٍّ مع حقولِ الخبرةِ التي تكون مجرّدة أو معقّدة، أو غير مألوفة أو ذاتية أو ضعيفة التحديد نسبياً مثل الوقت أو المشاعر أو الحياة أو الموت ؛ أو الجنوب في استعارة “الجنوبُ قادمٌ”

وَفِيْ المُقابلِ فإنّ مجالاتِ المصدرِ تتناظرُ على نحوٍ تامٍّ مع الخبرات الملموسة والبسيطة المألوفة والمادّية والمحدّدة بدِقَّة مثل الحركة والظواهر الجسدية والأشياء المادّية وإلى آخره

يَنْطَبِقُ هذا بوضوحٍ على الاستعارة المفهومية “الجنوب قادم” حيث المجال المستهدف (الجنوب) أكثر تعقيداً وتجريداً نسبياً من مجال المصدر (قادم) أضف إلى ذلك بأنَّ مجالَ المصدرِ(قادمٌ) يضرب في جذوره في الخبرة المادِّية الأساسيّة والبسيطة في التحرك إلى الأمام بحركة متواصلة.

يتبع بإذن الله.

 

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!