الدعوة الصامتة عند صادق آل البيت / بقلم : محمد عبد الكريم يوسف

 

التاريخ مرآة تأخذ العصور وحوادثها وتحفظها للأجيال القادمة، والتاريخ ملك للجميع ليس ملك أحد حتى كتّابه. ولا يمكن لأي إنسان مهما بلغ من القوة والصلف والعجرفة أن يزور التاريخ أو يحرّفه . لا بد أن يقرأ المرء التاريخ الواحد بأكثر من قلم ولون لكن العارف بالله وبأسرار الكون لا بد يقاطع بين الأحداث ويعثر بين السطور على الصورة الحقيقية لما جرى في حقبة من الحقب التاريخية .

لقد لعب الدهاء السياسي دورا بالغا في السيطرة على أنظمة التاريخ وعمل على تحريفها ، وتصرف بها وسلب الحرية في أداء الأمانة التاريخية  حتى صعب على المؤرخ أن يتمكن من أداء واجبه على الوجه الصحيح . لقد حرف المكر السياسي التاريخ عن مساره ولونه بأصبغة  باهتة تعاني من أشواك العصبية وأهواء سياسية هدفها طمس الحقيقة والتعمية على أشخاص دون أشخاص ورفع أشخاص على حساب أشخاص ، وقد تعرض تاريخ الإمام العالم البارع التقي النقي جعفر الصادق للطمس والتعمية واكتفى بعض المؤرخين للحقبة بأنه مات في حوادث عام 148 للهجرة فقط دون الاستفاضة في ذكر منجزات الرجل العلامة وفضله الكبير في الحفاظ على الإسلام دينا ومسلكا وهوية . لن نتحدث في هذا المقال عن شخصية الإمام جعفر الصادق ولكننا سنتعرض  لدعوته الاصلاحية الصامتة في عصر امتاز بالضجيج والهرطقة . 

يقول الإمام الصادق لأصحابه :” أوصيكم بتقوى الله واجتناب معاصيه ، وأداء الأمانة لمن ائتمنكم ، وحسن الصحابة لمن صحبتموه وأن تكونوا لنا دعاة صامتين.”

الاصلاح الصامت في فكر الإمام الصادق:

لقد عاش الإمام الصادق في بيئة مضطربة يسيطر عليها معترك سياسي مائج بالقتن وهائج بالأهواء فاعتزل الحياة السياسية مع أهل بيته واتجه إلى العلم والمعرفة مع طلابه لعلمه الراسخ أن كل تلك التيارات السياسية والمعارك والأعاصير زائلة لا محالة فاحتفظ بمركزه العلمي لأداء رسالة الإسلام الحميدة على أكمل وجه لأنها الوحيدة الكفيلة بسعادة المجتمع . كان الإمام جعفر الصادق على جانب كبير من رصانة التفكير وبعد النظر بالعواقب وكان لديه خبرة واسعة بأحوال الناس ونزعاتهم وميولهم وأكثرهم علما بمقتضيات الزمن وظروفه . وقد تعرض لدعوات من أبي مسلم الخرساني  للدخول في حركته ، لكنه رفض الدعوة قائلا :” ما أنت من رجالي  ولا الزمان زماني .”  

لقد احتفظ الصادق بالاتجاه العلمي والوقوف موقف المصلح المتسلح بالإيمان بالله وأن يتحمل الأذى والمضايقات في خدمة الأمة موجها الناس إلى الدين ونشر تعاليمه وبعث الوعي الإسلامي بالقوة الروحية لأنه يحب الخير ويريد أن يحافظ على الإسلام دين خير وبركة يقوم على الإيمان بالله عقيدة راسخة ومنه تنبعث القوة الروحية لأداء الواجب والشعور بالمسؤولية والتضامن بين الأفراد والتكافل الاجتماعي.

كان الإمام الصادق خير داعية للإصلاح ربط القول بالفعل  ولم يقعده عن متابعة طريقه ما لقيه من مصائب وضرر وأذى ولم تهن عزيمته ولم تفتر همته وواصل دعوته للعمل الصالح عبر رسوخ العقيدة والإيمان بالله وكلما ازداد الإيمان بالله ازداد العمل الصالح عمقا وبالتالي تهون المخاطر وتمكن المسلم من الصمود واجتياز العراقيل والعقبات . 

أسس دعوة الصادق إلى الاصلاح: 

لم يستطع أي من التيارات السياسية المتحاربة في عصره جذبه إليه فاحتفظ الصادق بقوته الدينية واستقلاله بالإمامة والدعوة لله تعالى وطلب من رواده وأتباعه أن يسبق العمل القول وكان يعتقد أن: ” تأثير العمل على الناس فوق تأثير القول .” كان الإمام الصادق يقول لأصحابه :” أوصيكم بتقوى الله واجتناب معاصيه ، وأداء الأمانة لمن ائتمنكم ، وحسن الصحابة لمن صحبتموه وأن تكونوا لنا دعاة صامتين.”

فكيف يكون الداعي صامتا ؟ 

وكيف يمكن للصمت أن يتغلب على الفوضى والبدع وضجيج الاعتراك السياسي؟ 

وكان الدعاة يسألوه :كيف يا بن رسول الله ندعو ونحن صامتون ؟ 

وكان يجيبهم قائلا : ” تعملون بطاعة الله وتعاملون الناس بصدق وعدل وتؤدون الأمانة وتأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر ولا يطلع الناس منكم إلا على خير فإذا رأوا ما أنتم عليه علموا فضل ما عندنا فتنازعوا إليه .” 

وكان عليه السلام يؤكد على أصحابه قاعدة أن العمل يسبق القول . 

يقول أبو أسامة : سمعت الصادق يقول :”عليكم بتقوى الله والورع والاجتهاد وصدق الحديث وأداء الأمانة وحسن الخلق وحسن الجوار، وكونوا دعاة لأنفسكم بغير ألسنتكم وكونوا زينا لا تكونوا شينا. ” 

ويقول ابن أبي يعفور : سمعت الصادق يقول :”كونوا دعاة للناس بغير ألسنتكم. ليروا منكم الاجتهاد والصدق والورع.”

كان عليه السلام يريد أن تكون الدعوة الإصلاحية على أساس العمل الصالح والخلق الطيب لأنها أنجع وسيلة للدعوة الصامتة ومكافحة المظالم بكل أنواعها وإنصاف المظلومين . وكان يعتقد أنه لا يتم إصلاح أمة من الأمم أو شعب من الشعوب إلا إذا أفعمت الأمة حبا لقائدها ومصلحها وطاعة لأوامره.

مهمة الداعية الإصلاحي في فكر الصادق:

على الداعي أن يكون قدوة حسنة في عمله الشاق ويجب أن تتوفر فيه صفات عقلية وأخلاقية تخوله من أداء واجبه وقد تضمنت فقرات ” الدعوة الصامتة ” ما يلي : 

  1. الاعتقاد الراسخ : الذي يقوم على القوة الروحية وعليها تبنى صحة الأعمال والادراك العقلي والشعور الوجداني بالعلاقة بين الإنسان وخالقه . 
  2. التهذيب  والأخلاق الفاضلة والخصال الحميدة لأن صلاح المجتمع بصلاح أفراده وإذا صلح الفرد صلحت الأسرة وإذا صلحت الأسرة صلح المجتمع.
  3.  مخالطة الناس وحسن الصحبة والعشرة والجوار وأداء الأمانة و يجب أن يكون مصدر هذه الأخلاق القلب وليس المظهر .

وقد ركز الإمام الصادق على القلب والسلوك في الحياة فالمؤمن ” أخو المؤمن كالجسد الواحد إذا اشتكى شيئا منه وجد ذلك في سائر جسده، إن المؤمن أخو المؤمن هو عينه ودليله ، لا يخونه ولا يظلمه، ولا يغشه ولا يعده عدة فيخلفه.” ويتابع قائلا :” لا تنظروا إلى طول ركوع الرجل وسجوده فإن ذلك ربما يكون شيء قد اعتاده ، ولكن انظروا إلى صدق حديثه وأداء الأمانة .”

الإسلام دين الله الذي أنزله رحمة بالإنسانية المعذبة ، شامل بتعاليمه يأمر بالعدل والإحسان وينهى عن الظلم والفحشاء ويجعل المجتمع نفسا واحدة يلزم الفرد باحترام جميع الأفراد ويشعره بألم أخيه المسلم . يقول الصادق : ” حبّ لأخيك المسلم ما تحب لنفسك .” وعندما تقوم العلاقات على المودة والإخاء والحب والتكافل والتعاون يُطبق دستور دينهم ويعملون بمنهاجه  ويصيرون مثلا أعلى للإنسانية جمعاء ويصير المسلم رمزا للفضيلة والكمال. 

شخصية الداعي الإصلاحي في فكر الامام الصادق:

لقد اتجه الإمام الصادق إلى الإصلاح بالدعوة للعمل الصالح لأن العمل الصالح من شأنه أن يزيل الظلم الاجتماعي ويقف حاجزا بينهم وبين الشرور، كما يهذب النفس ويطهرها من الخبث ويربط الإنسان بباريه سرا وعلانية وبالتالي لا يقع الإنسان صريع أهوائه وأسير شهواته ولا يهون لشدة ولا يضيق لاضطهاد بل يقابل شدائد الحياة بالحزم والعزم وبقلب لا يعرف الضعف إليه سبيلا . وهذه هي صفات دعاة الإصلاح في فكر الإمام الصادق عليه السلام . 

مفردات الدعوة الإصلاحية في فكر الامام الصادق: 

1-عندما قال الإمام الصادق “كونوا دعاة صامتين ” لم يقصد الصمت اللفظي وإنما قصد ربط العمل بالقول و ممارسة العمل الصالح سلوكا ومنهجا . 

2- لقد أمر الصادق بالإقدام في النصح  والأمر بالمعروف حيث يقول :” مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر فإن الأمر بالعروف والنهي عن المنكر لم يقربا أجلا ولم يبعدا رزقا. ويل لقوم لا يدينون الله بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .”

3-الابتعاد عن الغلو لأن الغلو ليس من شيم آل البيت ، وعدم المشاركة في الفتن ونشر المعتقدات التي تشوه الفكر الاسلامي الحقيقي، وعدم تصديق منتحلي حب آل البيت والسير في ركابهم ومصالحهم المادية . 

4-أوضح الامام الصادق أن الناس تقابل روح دعوة الإصلاح بثلاث طوائف . طائفة تقبل الدعوة وتناصرها ظاهرا وباطنا وتضحي في سبيلها . وطائفة تعادي الدعوة ظاهرا وباطنا رغم ظهور الحجة ووضوح البرهان لخبث في نفسها وطويتها. وطائفة تعادي في الباطن وتناصر في الظاهر وهي الأشد ضررا لخبث نفسها وفساد نيتها. 

 

لقد كان الإمام الصادق رئيس أعظم مدرسة إسلامية في عصر انطلاق الفكر وازدهار العلم  وزعيم الحركة العلمية في الإسلام وكان خير قدوة صالحة للعمل والعلم وأستاذ الخير والفضيلة لا يفتر عن عبادة الله والعمل بطاعته سرا وعلانية . 

 

المراجع

  1. سلوا صادق آل البيت المطهرين ، هشام آل قطيط ،مؤسسة الآداب الشرقية، العراق ،  2010
  2. فقه الإمام جعفر الصادق ، 6 أجزاء ، محمد جواد مغنية ، مؤسسة السبطين العالمية ، 1423 هجرية ، ط1. 

 

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!