الشقيقة اﻵثمة/بقلم :عيشة خالد عبد المولى( الجزائر )

كان يقبع في الحجرة طوال اليوم بفراغها الرهيب فهو يتقاسم الوحدة الثقيلة مع الجدران الصمّاء المقشف طلائها التي آل طلائها للتقشير حتى تكشف عن لون آخر، خلى المكان من كل شيء إلا من فراش مسطح على بلاط الأرض يرقد فيه ليله و نهاره و لا يكاد يرى نوراً للشمس و على جانبه خوان على سطحه إبريق ماء و قدح زجاجي إنّه في بيت السيدة نوارة أخته و قد تقدم إليه الكبر سريعاً فأورثه العجز و الوهن الذي طال الجسد الناهض بصلابته القوية و قوامه الذي كان يمتد طولاً و صحة ووشى الوجه المشرئب بدماء الصحة ضعفا اقتضاه المرض و الذبول فلم يبقى به شيء من أثر الماضي و شبابه المغادر سوى هيكل يحدث عن صحة قديمة و نعمة سابغة بصورة الملامح الدقيقة من انف منحني و عينان غائصتان و زغب أبيض يجول أنحاء الذقن و الشارب المهذب، قضى سنين الشباب الغالية في فرنسا و قد فر إليها لائذا إلى امنها من الحرب التي تبيح فعل كل شيء على أعناق ضحاياها حتى انقطعت أخباره دفعة واحدة و غاب عنه أي أملٍ يخبر عن رجوعه أو يطمأن بحياته أو موته حتى خطى الزمن خطاه الخفيفة فكبر الصغير ومات الكبير و تحرر الوطن و غادر أهله جميعاً  إلاّ أخته السيدة نوارة التي وفد إليها بعد ما مسه الكبر و ارتمى نحوها كمأوى يعيد إليه الحنين للمنبت الأول و يدفن عندها هواجس الوحدة فلم يعد يريد من الدنيا و قد ذاق من نعيمها و جحيمها الكثير فلم يرغب إلا بالهدوء الذي يتطلبه العمر في هاته الفترة وسط آخر ما تبقى له من أثر الأهل و قد ترك ورائه البهجة و السرور و عاد بشيء من الثراء الذي عمل لأجله طويلا بلا زوج و لا ولد و قد استقبلته وسط عائلتها المعدمة و استبشرت بمقدمه خيراً فقد اعتبرته فرصة عظيمة و سرى بخاطرها سيل عارم من الفرح أكثر من فرحها بعودة الغائب و اهتزت أعصابها بجسمها النحيل و استعاد لسانها السليط  حدّته كما يستعيد المحارب سيفه الذي سقط منه في معترك النزاع و عقلها المدبر للحيل الجهنمية التي لا يقوى على مجابهتها احد مهما كان به من ذكاء و نبه يستبد بها المال فتشتم رائحة القروش على بعد أميال كما يشتم الكلب البوليسي رائحة المجرم الفار فتكون حريصة لدرجة الشح، ذات ملامح رقيقة عينان بزرقة صافية و شعر أصفر مموج تعقسه إلى الوراء فتزيد من حدة الوجه المكدود الذي تتأصل فيه كرة سعرة من لهيب الشر بجسد يلتصق فيه جلده بعظمه، كانت نظرتها تترك في النفوس من الأثر أسوأه فما يزال فيها ما عرف عنها قديماً قبل أن تقدم إلى المدينة تهابها النسوة و الرجال على السواء فلا نجاة من ثرثرتها و لسانها الذي لا يضيع له حق، هربت زوج ابنها التي عدت منها خادمة تقوم بشؤون البيت جميعاً في حياة عسيرة فتحسب عدد الوجبات على كل فرد فلا أحد ينبغي له أن يأكل أكثر مما حاز في وجبته التي فرضتها و قسمتها لهم و إن مات جوعاً، فتعاقب بالزجر و التأديب كل من حاول المساس بالقوانين التي تفرض احترامها، و إذا ما تجرأ أحد صبية الجيران إلى طرق بابها أطلقت ورائهم الكلاب التي تربطها بسلسال على جذع شجرة تقع قبالة الدار فيطلق الصغار صرخات في الهواء و هم يتعثرون في خطوات سريعة للهرب بعيداً، انتعش قلبها و نبض بقوته المعهودة و عاد اللسان حادا كالنصل و قد استقبلت الأخ بثرواته الواسعة و راتبه  المحترم فنعمت طويلا في سعادة و تصرفت بالراتب كل شهر تنقفه بتدبير و قد امتثل لها متلقيا قراراها بالسكون و الامتثال كما يجوز لأخت تعمل  من أجل حرصها و حكمتها، علمت من ابنها أن الراتب سيموت مع صاحبه إن مات و لا حق مشروع لأحد غيره سوى زوجة له، فزع الجسد الرقيق و شحن من الهواء نفسا عميقا زفره بتنهيدة طويلة من نفس كمدة و قضت نهارها و هي تذرع البيت و يجول في باطنها أفكار متضاربة تعبث بخيالها الذي ثار من مرقده حين سمع الخبر الشؤم و هام ذهنها الفطن المجبل بداء السيطرة فتذكرت أنّ الرجل قد هرم و هو أعزب لا يود الزواج من أي امرأة و ينبذ فكرة ارتباطه عن رغبة لسبب يعلمه وحده و لكنّه بتفكيره الأناني سيحرمها و عائلتها من النعيم الذي ما صدقت أنه طرق بابها و ليس من عاداتها أن تشاهد شيئا لها يقع قائمه إلا و انتفضت لأجله فكيف إذا كان مالًا وفيرًا لا يتاح لها مهما عملت و عائلتها؟ و انحشرت هذه الفكرة في حلقها كالشوكة التي تأبى الخروج أو الولوج ما جعلها تقول له و قد قنطت نفسها من اليأس :

الحق أنّه وجب عليك أن تفكر في نفسك و تتزوج و تنعم بأسرة كما يفعل الرجال و لو أتى هذا على كبر ؟

و أجابها بثقة من لا يود الحديث :

لم أفكر في الأمر و أنا شاب قادر فكيف أفعل و أنا عجوز هرم ؟

فقالت بصبر يكاد ينفذ :

لست أعلم لما تصر على عنادك ، أنا أختك و لا أروم غير الراحة لك .

كتمت غيظها و عدت جوابه محاولة تحديلها و هي التي لا يجرأ أحد على رفع صوته في حضرتها وودت لو تنفذ بباطنه و عقله المتحجر و تنطق بالايجاب بدلا عنه أو ترغمه بأي حيلة تجعله يوافق و لو على مضض منه و هي تلعنه بكل ما وسعها الكلام منفسة عن غضبها و عجزها الذي هي مقتنعة بأنه لن يدوم، ما السبب الذي يحيل رفضه للزواج فيجعله يصُر و يكتفي من حياة طول بعرض ببال صافي الهم و خالي الكدر يهوم على وجهه كل صباح يقتعد كرسيا على المقهى يلوك بثرثرة العجائز و هو يعيد الحكايا التي لا تنفع بشيء أو يتجول لساعات طوال ضائعاً في أزقة المدينة الخربة فيقلب رأسه و يخطو كالتائه فلا يعود من النهار إلا آخره ليطرح بعكازه و جسده الهرم على الفراش و قد استغنى عن حياة الأجانب الفرهة و ترك الجنة ورائه كصبي لا يعرف قيمة للحياة غير العبث و اللعب، فأرادت أن تحرز  هذه الهبة التي ألقيت بحجرها من السماء كدعوة صادقة في لحظة كانت بها أبواب السماء مفتوحة و أن تضع الحسابات محترسة لأي فعل يخبئه المستقبل ليرجعها للجوع الذي كانت فيه فهي تحسب للقرش الواحد ألف حساب فكيف لا تحسب شأنا لراتب متقاعد محترم، اتفقت مع ابنها الأكبر الذي يرافقها كظلها و يتناسب هواها معه فرتبت ما يلزم من الوثائق لتزور نفسها على الأوراق زوجا لأخيها و تكلفت بالرشاوي لتزور ما لزم  واهبة كل طرف متدخل مبلغا لإكمال المهمة و انجاحها  دون أن يكشف لها أمر فوافق على رغمه لتصحبهُ كزوج إلى فرنسا و تغيرت صورتها القديمة و استبدلت الحايك الأبيض ببدلة نسوية أنيقة و المنديل بوجه سافر عليه أثر من الصبغة و الحمرة لتكون شقراء فرنسية بلون العينين و لم ينقصها إلا اللغة الأجنبية التي لم تتقن حكيها سوى كلمات التحية و الوداع فأقبلت على عالم دخيل عليها ألفته سريعاً و فرحت بالوجوه الغريبة و السيقان العارية و الأجساد النظيفة المهندمة و رأت الحرية لأول مرة  وهي تعيدُ الزيارات الطويلة فعادت و هي تلهج بخاطر رمته بقلبها فأعادت عمل كل شيء و كأنّما قد ودعت النفس الشحيحة فتحوّل البيت القديم إلى فيلا تعترش البيوت الهاوية الأسقف  و تأثثت الحجرات بالأسرة و الأرائك و المطرز من السجاجيد مزهوة بفخامة حياتها الجديدة و أتت على الحديقة الخلفية و قد حفلت بالورد و النبات و سارعت تخزن و تكنز و تصرف بالقدر الذي يحفظ ما تبقى من الثراء و ما يكفي لتبجح ظاهر أمام الناظرين و فرضت سيطرتها على أخيها الذي عدته ميتا مجرد جثة وجب تنحيها جانباً من حياتها كالحجرة التي تعرقل مسير السائر في طريقه بعد أن أدّى مهمته المطلوبة و حرمت عليه الخروج الذي يعتبره المتنزه الوحيد لنفسه و قد جعلت له حجرة لا يدخلها أحد غيره و انتشرت رائحة عفنة زادت من عفونتها أنفاس الصيف الحارقة و انتشرت بالبيت كله  حتى سرعوا إلى مصدرها و حطموا الباب الموصد ليجدوا الجثة سابحة في عفانتها و قد غادرها سرها إلى صانعها .

 

 

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!